فتحت عينيها ببطء بعد أن وضعها تيم على الفراش ونثر قطرات من العطر على وجهها وأنفها، بدأت الرؤية تتضح أمامها أكثر ومازال قلبها ينبض بقوة، فبادر تيم يتكلم وهو يخبرها: إياكِ أن تغيبي مرة أخرى، لقد أرهقتيني فنار! ابتلعت ريقها الجاف وقد شعرت بالعطش، لا تتذكر أنها شربت منذ عدة ساعات طويلة، وجدته يعدل من نومتها ويرفعها بسهولة لتجلس وتسند ظهرها إلى الوراء على الوسادة العريضة، ثم يقول باتزان:.
أنتِ ظمآنة؟ هزت رأسها بذهولٍ وهي تسأله: نعم، كيف عرفت سيدي؟ قال وهو يصب لها الماء في قدح كبير ثم يمد يده إليها: أنا أفهم بلغة الجسد، جيدًا. تجرعت قدح المياه دفعة واحدة وظل هو يُتابعها بعينيه وقد شق ثغره ابتسامة رقيقة، فيما يقول بود: صحة وهنا، يبدو أنكِ جائعة أيضًا؟ حركت رأسها سلبًا وقالت بتوتر: لا، لا سيدي لست جائعة. أخذ منها القدح بعصبية وراح يضعه على الكومود وقد اقترب منها قائلًا بجمود:.
ليس سيدك الآن هل تفهمي أم لا؟ رمشت بعينيها وهي تهرب من حصار نظراته ولم تجب، فعاد يتحدث بهدوءٍ حازم: فنار، أعلم أن أمر زواجنا كان سريعاً للغاية وأعلم أنك لا تصدقين ولكن هذا حدث وتعايشي معه كأمرٍ طبيعي. أومأت برأسها إيجابًا وقالت تحاول تهدئة نفسها الخائفة: أمرك سيدي. أغمض عينيه بينما يردد بغيظ: يا الله يا ولي الصابرين! ثم تابع بهدوءٍ صارم:.
فنار، أنتِ زوجتي وأنا زوجك واليوم زفافنا أو كما يقولون دخلتنا أريد أن أشعر بهذا ساعديني. أومأت برأسها في طاعةٍ دون كلام، فابتسم وقال: أراهنك أنك ستفعلين حرفا مما قلت!، والآن هيا انهضي لنأكل.
قام بدوره ليفسح لها الطريق، فنهضت خلفه في حذر، جلس تيم على الأريكة المقابلة للفراش وشد إليه عربة الطعام الصغيرة، وكشف عنها غطاءها وإذا بغنيمة من الطعام لم ترَها فنار من قبل، ابتلعت ريقها وهي تشعر بمعدتها تتمزق من الجوع، لكنها تأبى أن تمسها حرجا، .. نظر لها بنفاد صبر وهو يقول بصيغةٍ آمرة: اجلسي. لست جائعة، صدقني لا أصدقك يا فنار، هيا اجلسي.
تحركت بخجل واقتربت ثم جلست مباشرة على أرض الحجرة، فنظر لها وهو يحك صدغه بإبهامه قبيل أن يتكلم بغضب: بإمكاني شدك من شعرك الجميل هذا إن لم تنهضِ وتجلسي جواري فنار. لم أجرؤ سيدي لم أجرؤ، المعذرة. تابع يقول بجديةٍ: انهضي فنار، لن أتكلم ثانية. نهضت رغمًا عنها وجلست جواره أخيرًا، بينما تسمعه يقول مجددًا: اقتربي أكثر!
اقتربت على استيحاء وقد تخضبت وجنتاها بحُمرة الخجل وزاغت عيناها هُنا وهُناك بارتباكٍ، ثم اتسعت عيناها جراء لمسته وهو يقربها منه أكثر ويربت على كتفها مع قوله الرفيق: لن أؤذيكِ فنار تأكدي من هذا. هدأت قليلًا مع لمسته وكلامه الحنون، بينما يُكمل: اختارتك بكامل إرادتي فنار، تحرك قلبي تجاهك ووضع الله محبتك داخل قلبي، ماذا أفعل؟ واصل متسائلًا: أجيبي ماذا أفعل فنار؟ نطقت بنبرة متحشرجة:.
لا أعلم، أقصد أن الإنسان إذا أحب شخص يحاول أن يخبره. هذا ما حدث فلمَ تستغربين؟ تنهدت بارتياح وهي تبتسم بعذوبةٍ وتقول: لأنك الملك، تيم! مسح على شعرها وهو يبادلها الابتسامة كذلك، بينما يقول برفقٍ: في بداية الأمر أنا أيضاً تعجبت من شعوري، ترددت لكن قلبي وعقلي كانا معك، فعزمت وتوكلت، وقلت في قرارة نفسي أن الله إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون. هزت رأسها بابتسامة راضية وهي تقول بخجل:.
ولكن، أنت كثير عليّ، كثير للغاية، لم أكن أتخيل يوماً أن أتزوج مثلك ليس أنت، سبحان الله، سبحان الله.! منحها ابتسامة ودودة ومضى يقول بحنوٍ: أنا كذلك، لقد كنت أحلم بفتاة طيبة لا تفقه شيء سوى الحب والحنان مثلك، أعتقد أنكِ ستغمرينني بالحُب، أليس كذلك؟ راقب تعبيرات وجهها الخجلة وهي تنظر له بهيام وعيناها ترتكز على عينيه المشعتين حنان، وسمع همسها دون وعيٍ منها: أنت رائع، رائع جدا.
قهقه ضاحكا على عفويتها، فاستردت وعيها للحظة وهي تبتلع ريقها باحراجٍ فيما تقول تحاول تغيير مجرى الحديث: أين رعد؟ فأجابها وهو يتناول قطعة من اللحم صغيرة ويضعها داخل فمها قائلًا: هُناك، في بيته، مع زوجته وأشباله. أخذت تمضع قطعة اللحم وهي تسأل بفضول واستغراب: رعد متزوج؟ نعم ولديه أبناء وأخوة أيضًا. أدخل فمها قطعة لحم أخرى وهو يُكمل: غداً سأأخذك لتتعرفين على عائلته وأصدقائه. شحب وجهها أيضاً وهي تقول بخوف:.
لا، لا أريد. فضحك مواصلًا: زوجة الملك لابد أن لا تخاف أبداً يا فنار، سأعرفك عليهم وأعتقد أنك ستعشقينهم مثلي. ما سر حبك للأسود؟ غداً سأحكي لكِ كل هذا ولكن الليلة كما قلت دخلتنا، ، ثم تابع بابتسامة عابثة: دعيناا ندخل أولا! أغمضت عيناها بشدة وهي تحاول الابتعاد عنه ولكن لا مفر هو محاصرها تماما، يطعمها، يغازلها، يبث لها الحُب كما يجب، لن تهرب من حبه ولن تستطيع...
العقبة لكِ جلنار كانت عبارة بشار الذي وقف أمامها الآن مبتسما، لترد عليه مبادلة إياه الابتسامة: شكرا لك يا بشار! ابتسم قائلاً بمشاكسة: ربما عن قريب تجدي من يحبك ويحافظ عليكِ وعلى قلبك الذي يشبه الجوهرة. ابتسمت بنعومة وهي ترجع خصلة من شعرها خلف أذنها بينما تقول: ربما وربما أنت كذلك، ستجد من تحبك وتشاركك حياتك. أنا وجدتها! اتسعت ابتسامتها الرقيقة وهي تسأله بفضول: من هي؟ فنهض قائلًا بغموض:.
سأتركك تخمنين من تكون هي وأنا متأكد بأنك ستعرفين في أقرب وقت.
سامحيني، سامحيني أمي. همست أيريس بنبرة منتحبة وهي تركع أمامها بندمٍ، بينما تواصل بصدق: أعدك بأن لا أخطأ مرة ثانية، أعدك. تنهدت حليمة وهي تربت على رأسها وتكاد تبكي على بكاؤها، وأردفت بهدوءٍ: أطلبي السماح من الله، فرضاه يا إبنتي أهم، أما عني فقد سامحتك وهذا لا يعني أني لست غاضبة منك، لقد خذلتيني يا أيريس وأضاعتِ تربيتي لكِ كالهباء المنثور. أنا لن أسامح نفسي يا أمي... هزت حليمة رأسها وهي تقول بحزمٍ:.
ماذا لو كان السيد سليمان لم يأتِ، كنتِ أنتِ ضعتِ!، ولمَ كل هذا؟ لأنك أنتِ جعلتي قيمة للذي لا قيمة له. تدفق الدمع أكثر من عيني أيريس، بينما واصلت حليمة بأسى: لن أذبحك بكلامي أكثر، ولكن أنتِ ذبحتي نفسك بيدك. قالت أيريس بهمس من بين بكاؤها المرير:.
لقد كان يا أمي يبتسم لي، يقول أنه يحبني، يشعر بي ويسمعني، على عكس القية اللذين إذا رأوني عاملوني بوحشية ولم أفهم السبب!، ولمَ أنا تحديدًا؟، حتى جاوبني محروس وقال لي أنني إبنة حرام... انقطع صوتها من كثرة البكاء وهي تضرب على قلبها المسكين بيدها واستكملت بمرارة: وأمه أخبرتك أنني إبنة زانية، والآن فهمت لمَ تعاملني الناس بوحشية...
راحت حليمة تجذبها إلى أحضانها وتربت عليها بشدة وبكت هي الأخرى حزنا على حالها، ثم تقول بحسرة: لا تقولي هذا يا أيريس، اصمتي، اصمتي حبيبتي. ابتعدت أيريس عنها قليلًا وسألتها بقلب يتمزق وجعا: أنا إبنة زانية يا أمي؟، بالله أجبيني! عضت حليمة على شفتها السفلى بينما تقول بلا حيلة: وحتى إن كان هذا صحيح، فما ذنبك أنتِ حبيبتي، أنا أمك وأنا من ربيتك. أجبيني بالله يا أمي. قالت حليمة في تردد:.
حبيبتي، أمك كانت، تحب شخصا آخر غير والدك، ولم تتحمل فخانت والدك معه وكنتِ أنتِ صغيرة لم يتجاوز عمرك الشهر، وما إن علم والدك قتلها وقتل ذاته في آن واحد، وهذا الشيء لا يجعلك تخجلين من أحد لأنه ليس ذنبك، أمك الحقيقية هي أنا، أنا فقط حبيبتي، لقد أخذتك بحضني وربيتك مع فنار وكنا أسرة رائعة تنعم بالحب رغم فقرها.
أخدت دموعها تزداد وهي تدخل بحضنها أكثر وتمرغ رأسها بصدرها حتى تنعم بحنانها الوافر، ثم قالت بصوت متقطع، متألم: ليتك، كنتِ أمي التي أنجبتني.
أنتِ تجلسين هكذا بمنتهى البرود وكأن شيئا لم يكن؟! نفثت قسمت حمم غضبها في وجه ابنتها جلنار وهي تضرب الحائط بقبضتها، تعجبت جلنار وراحت تقول برقة: ما بك يا أمي، ماذا حدث؟ تسألين؟، أخوكِ الذي جن وفعل ما برأسه وتزوج من هذه الضائعة.. ولكن يا أمي أنت وافقتي على ذلك، ثم أن أخي تيم حر هو لم يؤذيك بزواجه لمَ كل هذا الغضب يا أمي؟ كشرت عن جبينها وهي تهتف بغيظ:.
أنا وافقت رغما عني ولم أعلم أنه سيتزوجها بهذه السرعة! تأففت جلنار وهي تقول بضيق: دعيه وشأنه يا أمي، هو أعلم أين سعادته. تتحدثين وكأنه لم يكن أخاك ولم يهمك أمره. بل لأنه يهمني، لن أكون عقبة في طريقه. تركتها وانصرفت بغضب ناري فلم يجد الحديث نفعا معها، بينما زفرت جلنار بضيق وهي تقول: متى أتزوج وارحل من هذا القصر، لقد سئمت.
أبدل تيم ملابسه الرسمية بأخرى مُريحة عبارة عن منامة من قطعتين من الحرير الخالص، ثم توجه نحو الفراش وهو يهتف بنبرة هادئة: هيا فنار، تعال إلى هنا. كانت واقفة بمنتصف الحجرة لا تعلم أين تذهب وماذا عساها أن تفعل، لم تتخيل أنه يدعوها للنوم جواره كيف ستنام جوار الملك، كيف؟ صعد على الفراش والابتسامة لا تفارقه، تلك الابتسامة التي صاحبته منذ أن عقد عليها وأصبحت ملكه، أنها تضحكه بشدة وتريح أعصابه وقلبه..
هي كشوكلاه ناعمة أضافت مذاقا رائعا لحياته.. ألن تبدلين ملابسك أيضاً؟ هزت رأسها موافقة وهي تقول بارتجافة: نعم، ولكن أين سأبدلها؟ فضحك عاليا وهو يخبرها ببساطة: هنا، بالطبع! لن أفعل...! تنهد بنفاد صبر قبيل أن يقول بغمزة: تخجلين من زوجك..؟، أيعقل! نظرت إلى الأرض وهي تقول بأدب: سيدي، لو سمحت. قال بغيظ يعاتبها: سيدي؟ فرفعت رأسها تقول بصدق: لن أستطيع قول غير هذا، دعيني أتعود. حسنا، سمرائي، هيا إذن.
ختم جملته بابتسامة عابثة، فتنحنحت وهي تقول بخفوت: سأدخل، الحمام، و، سأبدل ملابسي، هل تسمح لي؟ أومأ لها موافقًا ثم قال بمرح: اذهبي ولا تتأخري، هل اتفقنا؟ وافقت وذهبت إلى الحمام سريعاً وهي تكاد تركض، أغلقت الباب ووقفت تتنفس بعمق وهي تضع يدها فوق موضع قلبها الخافق، تحركت في انحاء الحمام بانبهار وهي تحدث نفسها: ما هذا؟ هذا الحمام بمساحة بيتنا وأجمل منه بمراحل!
ثم ضحكت وهي تدور حول نفسها بسعادة لم تصدقها إلى الآن، ثم توقفت ونظرت إلى المرآة الضخمة وهي تبتسم بخجل شديد، تأملت نفسها جيدًا وهي تحدث نفسها: أنا الملكة فنار! ثم ضحكت بعفوية وهي لم تصدق، تعالت ضحكاتها إلى أن سمعت صوته يهتف بمشاكسة: على ماذا تضحكين فنار.؟ فكتمت فمها بيدها وهي تبرق عينيها في المرآة ثم تحدثت إلى نفسها بخفوت: اخرسي فنار، اخرسي! وبعد بضعة دقائق تخطت النصف ساعة تقريبا..
خرجت فنار من الحمام ترتدي منامة بأكمام طويلة من الحرير لونها أزرق قاتم، فضفاضة للغاية، ما إن رأها تيم حتى قطب جبينه بدهشة وهو يقول: ماذا ترتدين؟ فقالت فنار وهي تقترب أكثر: هذه حشمة وتسترني، أنا مرتاحة بها. كظم غيظه للحظة وهو يقول: تسترك!؟، وحشمة؟، في ليلة دخلتنا؟ مطت شفتيها ببراءة وهي تقول بحرج: هل أغضبتك سيدي؟! قال وهو يتنهد بنفاد صبر: لا فنار، لا، ولكن الذي لا تعلمينه أن هذه منامتي..!
شهقت فنار وهي تضع يدها على فمها بصدمة، ثم نظرت إلى نفسها وهي تقول باحراج: معذرة سيدي، كنت... قاطعها يقول جازا على أسنانه: لا بأس فنار، لا بأس، ، تعلمين هذا الزفاف لابد أن يُسجل في التاريخ!
صباحًا مشرقاً دافئا، تململت فنار في نومتها بنعاس وابتسامة لم تغب عن وجهها منذ البارحة، لقد كان ما حدث أروع من الحلم، أروع من أي شيء، ذاقت شعورا لم تستطع تفسيره، لكنه جميل، ممتع، محبب إليها.. ما لبثت أن اصطدمت به وهي تتمطأ في الفراش، واصطدمت عيناها بوجه الحبيب، إلى الآن لم تدقق في ملامحه من شدة خجلها منه، وها قد حانت الفرصة، إنه نائم فلتستمتع بالتأمل في وجهه..
أشرفت على وجهه بعينين منبهرتين من تلك الملامح، بشرة خمرية ووجه دائري منحوت يتوسطه أنف مستقيم، وأهداب كثيفة طويلة ناهيكٍ عن ذقنه النامية التي تنافس لون البندق، وخصلات شعره البنية المُتدلية على جبينه، ما أجمله..! ذايلها الفضول وراحت تمشي بأناملها فوق ملامحه وكأنها تحفرها بفؤادها، إلى الآن لا تصدق وتعتقد أنها مازالت تحلم...
تنهدت بسعادة حتى وصلت يدها إلى شفتيه فشعرت بقبلةٍ دافئة تُطبع عليها وصوته الناعس يقول بمشاكسة: صباحا مباركا يا عروسي. شهقت بخجل وتوسعت عيناها بريبة وهي تحاول نطق الكلمات لكنها تحجرت على شفتيها، وأصبحت تهمهم بكلمات غير مفهومة... فما كان منه إلا أن ضحك عاليا وهو يطبع قبلة هادئةٍ أخرى على جبهتها متسائلًا بخبث: ماذا كنتِ تفعلين؟ لا شيء! لا أحب الكذب، ماذا كنتِ تفعلين سمرائي؟ فأجابت وهي ترمش بعينيها:.
كنت أتأمل ملامحك، فقط. ضاقت عينيه بوميض عاشق وهو يتابع بمراوغة: وما رأيك!؟ تصنعت عدم الفهم وهي تسأل ببراءة زائفة: رأيّ، بماذا سيدي؟ عض شفته السفلى وهو يدرك جيدًا أنها تتصنع عدم الفهم، فقال متنهدًا وغامزًا: بسيدك..! تنحنحت بخجل، وقالت تجيبه بعفوية: رائع، إنه رائع. فضحك بخفة وهو يميل عليها مُغازلًا: ليس هناك ما هو أروع من السمراء!
تخضبت وجنتاها سريعاً بحُمرة الخجل وحاولت أنت تبدو صلبة أمام مهاجمته بالمشاعر خاصته التي تخترقها اختراق بلا رحمة، لكنها لم تنجح في ذلك، هي متوترة للغاية، خجلة، مرتبكة، قربه مهلك، مهلك جدًا، تكاد تبكي من شدة الخجل، وهو لا يرحم، هو مستمتع بذلك جدا، وكأنها كتلة من السعادة، ما إن يقترب منها يُصبح أسعد إنسان على وجه الأرض! كيف عشقها عشقا جارفا في تلك الأيام البسيطة التي مرت، وكيف لم يرَها من قبل؟
أين كانت سمرائه الناعمة، الفاتنة، خفيفة الظل، حبات السكر كما لقبها هو.. أحبك.. همس لها بهيام وعيناه تحتضن عيناها الواسعتين البندقيتين، بينما يُواصل بابتسامة رائعة: تعلمين أن عيناكِ تذكرني بقدح القهوة، هي تماما تشبه القهوة، أشعر أحيانا أنكِ أنثى بنكهة القهوة! منحته ابتسامة كذلك وهي تشتعل خجلًا من نظراته التي أرسلت لها مدى العشق الذي بحوذته، ثم سمعته يهمس آمرا:.
أريد من يديك الجميلتين قدحا من القهوة يا سمرائي.. أومأت برأسها في طاعة وراحت تنهض في سرعة الفهد وكأنه أطلق سراحها وفك أسرها من حصاره، بينما يضحك على حركاتها التي تروق له وتضبط حالته المزاجية... سمعها تقول بخفوت: أين سأعد القهوة؟ فقال وهو ينهض عن الفراش بهدوءٍ: سأأمر الخادمة أن تأتي بموقد صغير والمستلزمات خاصتها. قالت في تردد؛ دعني أذهب إلى المطبخ وأعدها هناك، هل تسمح لي؟ كما تحبي، حبيبتي.
تحرجت من كلمته الأخيرة وابتلعت ريقها وهي تقول بجدية: شكرًا لك. قطب مغتاظا وهو يقترب منها قائلًا: ألن تغازليني مثلما أغازلك أنا؟، ما معنى شكراً تلك؟ حركت كتفيها للأعلى وقالت وهي تفرك كفيها ببعضهما: آآ، حسنا، سيدي، إن شاء الله، سأفعل. هز رأسه بيأس وهو يقترب منها أكثر ويمسح على وجنتها برفقٍ بينما يهمس بابتسامة: إن شاء الله فنار، سأصبر وما صبري إلا بالله يا طفلتي، سنفطر بالخارج مع الجميع هيا تجهزي.
ولكن سيدي أنا خائفة... رفع أحد حاجبيه وهو يقول بصرامة: لقد أبلغتك أن زوجة الملك لا يجب أن تخاف يا فنار، لا أريد أن أسمع منك هذه الكلمة مرة أخرى. أومأت إيجابا بتذمرٍ طفولي وأطرقت برأسها لوهلة، ثم عادت ترفعها وتنظر له بتردد، يبدو أنها تريد قول شيء.. تفرس وجهها بعينيه هينهة، ثم قال متسائلًا: ماذا؟. فقالت وهي تنظر إلى جسدها الممتلئ إلى حدٍ ما بحزن:.
صدقا، منذ أن علمت أنني سأصبح زوجة للملك وأنا لا أأكل إلا قليلاً، لابد أن ينقص وزني حتى أليق بك سيدي، لهذا أنا لن أتناول أي طعام الآن. كتم ضحكة كادت أن تخرج من فاه وهو يقول باقتضاب: لا أريد أن ينقص وزنك، هكذا أحببتك وأريدك، هل سمعتِ؟ ولكن أنا أريد... هل سمعتِ؟ تعجبت لتصميمه وقالت بارتباكٍ: نعم، سمعت. هيا إذن.
قالها حازما وقبل مقدمة رأسها وانصرف داخلًا إلى الحمام، بينما تبتسم رغمًا عنها وهي تدور حول نفسها وتردد: حسنا، سأأكل الأخضر واليابس، لطالما سيدي أحبني سمينة.
إلى أين؟.. كان هذا السؤال للملك أوار الذي وقف بشموخ أمام شقيقته ينظر لها من علو وهو يكتف ساعديه أمام صدره بثبات، ثم يتابع والغضب يعصف بعينيه القاسيتين: ستذهبين إلى مملكة الأسد؟، إلى من تركك وتزوج غيرك، أليس صحيح؟ رفعت روكسانا عيناها الحداتان إليه وهما تلمعان ببريق غاضب ثم قالت بضيق: سأذهب، نعم سأذهب، أريد أن أرى تلك الحشرة. كز أوار على أسنانه ثم قال لائما:.
لا تنسي أن شاغلنا الأكبر هو أخذ المملكة ليس أكثر، لا يجب عليكِ أن تحبين عدونا. هذا عدوك أنت وحدك. ماذا؟ كما سمعت أوار، أنا أحبه ولن أتركه لغيري مهما كلفني الأمر..! كاد يتكلم لكنها قاطعته متهكمة: أنت أيضاً تحب شقيقته، جلنار! ضحك ضحكة هازئة وهو يقول بخبث دفين: هي مجرد وسيلة لغايتي، ليس أكثر هل فهمتِ؟ كما تريد، دعيني وشأني سأفعل أنا ما أريد..
ختمت جملتها وانصرف بينما شعرها الأسمر يتطاير معها بعشوائية وهي تسير خارجة من القصر خاصتهم، ووقف أوار يبتسم بشراسة قائلًا: تيم، سأجعلك تندم على تركك لأختي أيضًا!
انتهى تيم من ارتداء ملابسه الرسمية والتي كانت عبارة عن ثوبٍ من الكتان السميك ذي كمين قصيرين إلى حدٍ ما يصل طوله إلى ركبتيه أسفله بنطال من نفس النوع ويتوسط الثوب حزام لامع يتدلى منه حافظ السيف خاصته الذي وضعه لتوه وصفف شعره بعناية، وبينما انتهت فنار من ارتداء ثوبها الناعم الأبيض الذي يستر جسدها بالكامل ووضعت تاجا يبرقُ بشدة أعلى قمة رأسها، ووقفت تتأمل هيئته الفخمة عبر المرآة بانبهار، ابتسم لها وهو يلتفت ويقول هادئا:.
فنار، تعالي حبيبتي. اقتربت منه وهي تمسك بالثوب بكلتا يديها حتى وقفت قبالته تماما، ثم راح يحتضن وجهها بين كفيه وهو يقول بلُطفٍ: لا تخافي فنار، إياكِ أن تظهري لهم أنك مرتبكة أو متوترة أو خائفة، إذا حدثك أحد تكلمي معه بثباتٍ تام، ابتسمي مهما كان الحديث فلا يغضبك قولهم مهما كان، اتفقنا؟ أومأت مبتسمة وهي تقول بخفوت: أمرك، سيدي، سأفعل. حسنا فنارتي، احضري لي القهوة أولا ثم اتبعيني إلى المائدة..
ربت على وجنتها قبيل أن يبرح الغرفة ويتجه خارجا، وانصرفت هي وهي تحاول الثبات رغم قلبها الذي يقرع بخوف شديد، سارت وهي تحاول البحث بعينيها عن مكان المطبخ كأنها تسير في متحف ليس دار.. توجه تيم ناحية المائدة وجلس يترأسها بهيبته المعهودة، كان قد جلس الجميع يتبادلون النظرات، في حين قالت أمه ضاغطة على نواجذها: صباح الخير تيم، أين عروسك؟ هل مازالت نائمة؟ . صباح النور، فنار تعد لي قهوتي، هي آتية الآن.
اتسعت عيناها وذايلتها الدهشة بينما تسأله بغضب: هل ذهبت إلى المطبخ؟ تقف هناك مع الخدم والجواري؟ فقال بنبرة ثلجية وهو يهندم ثيابه: نعم... أجننت؟، س... قاطعها يقول صارما أمي..! فنار لا تحب التكبر مثلي أنا، وهذه شؤوننا وتخصنا فلا تتدخلي رجاءا! كزت على أسنانها وهي تزفر غاضبة: ومثل هذه ستتكبر على ماذا؟، ولمَ أستغرب أنا وهي مثلها مثل الخدم.
ما إن أنهت جملتها اللاذعة حتى أطلق بشار ضحكة عالية هازئة ساخرة وهو ينظر إلى تيم بتشفي، فالتفت تيم له وهو ينظر له بهدوءٍ ثلجي وما لبث أن جذب قدح المياه الموضوع على الطاولة ودفعه بوجهه في لحظة واحدة فغرق وجهه وصدره وشهق الجميع مذهولين! ثم صدح صوته الجهوري محذراً: تلك المرة الأخيرة أسمع فيها ضحكتك السخيفة وإلا وربي لسويتك بالأرض، يبدو أنك نسيت ذاتك يا فاشل.
كاد بشار أن يموت غيظا وهو ينظر له بتوعد، ولم يختلف حال تيجان عن حاله حيث ضغط على نواجذه ولم يستطع فعل أي شيء وإلا نفذ تهديده في الحال.. بضعة دقائق وأتت فنار بقدح القهوة خاصته، ووقفت أمامه وهي تقول للجميع: صباح الخير فلم يرد عليها أحد منهم وأخذوا يرمقونها باحتقار، بينما قال تيم ببسمة عريضة: اجلسي، حبيبتي. جلست بحذر وهي تناظرهم بتوتر لم تظهره كما أمرها، ثم شعرت به يربت على يدها ويقول بصوتٍ عذب:.
رائحة القهوة أخذت عقلي، لأرى مذاقها إذن ارتشف من القدح ببطء وهو يغمز لها فتوردت وخجلت من غزله أمامهم، وأما عنهم فكادا يحترقوا غضبا وغيظا من معاملته لها دون أن يراعي وجودهم.. هيا فنار، كلي! قال ذلك بصيغة آمرة، فهزت رأسها بإيجاب وهي تبتسم بارتباكٍ وتتحاشى النظر إليه... نادى تيم يقول: يا سليمان، سليمان، أين أنت حضر سليمان بعد دقائق وانحنى له قائلًا: أمرك قال وهو يعاود الارتشاف من القهوة:.
احضر لي رعد، اشتاقت له أمرك سيدي سأحضره لك حالا.. انصرف سليمان، بينما تساءل تيم باستغراب: أين جلنار؟ أنا هنا يا أخي. هتفت جلنار التي أتت لتوها تمسك بيد روكسانا وتبتسم باتساع مواصلة: كنت أنتظر روكسانا، أتت لتهنئك على الزواج وتهنئ العروس تقدمت روكسانا وهي تحدق ب تيم في جراءة وهي تقول: مبارك الزواج يا جلالة الملك.. فرد تيم بجمود: العقبة لكِ أشكرك.. ثم توجهت بالحديث ل فنار وهي تقول بتهكم لم يلاحظه إلا تيم:.
مبارك، يا عروس! ابتسمت فنار بعفوية وهي ترد عليها: شكرًا لكِ، والعقبة لكِ. كنت أعتقد أن زوجة الملك ستكون أكثر جمالا، لكن يبدو أن للملك رأي آخر! تحرجت فنار ونظرت إلى تيم باستغاثة، لكن تيم لم يبد أنه تأثر وراح يفتح ذراعيه ل رعد الذي اندفع لتوه إلى حجرة الطعام متمرغا في صاحبه في ائتلاف وود، ضحك تيم وهو يخلل يده داخل شعيرات وجهه الكثيفة ويمسد على ظهره متجاهلا الجالسين تماما..
وهذا ما استفذ روكسانا التي رمقته بحنق شديد وصارت تتأفف بغضب جم.. نهض عن مجلسه وهو يقول بجدية: تعالي معي فنار. نهضت معه وخرجا إلى الحدائق بصحبة رعد وما إن خرجا حتى اقتربت منه تلتصق به وتتمسك بذراعه كأنه تختبئ منهم ومن الغدر الذي ظهر في أعينهم وكأنه شعر بما شعرت هي فقال: ألم أقل لا يغضبك قولهم يا فنار؟ لست غاضبة.. هز رأسه موافقًا: سأصدقك، إذن ما بكِ الآن؟
قالت وهي تركض بفرحة أمامه وتقفز لتلتقط حبة من ثمرات المانجو قائلة: أنا جائعة، سيدي.. ضحك مستمتعا وهو يشاهدها تأكل المانجو بنهم وقد تلطخ وجهها وشفتيها كالأطفال، واستمرت تنتهي من واحدة تأخذ الأخرى وهو تركها تفعل ما يحلو لها فقد كان في قمة سعادته وهو يشاهدها تلهو أمامه وكأنها طفلة صغيرة.. كفى فنار، كثرة المانجة ستضرك حبيبتي، توقفي هذا يكفي. لكني أحبها، سيدي دعني آآ... قاطعها مازحا:.
ماذا قلت؟، توقفي يا حلوتي. تركت من يدها واقتربت تقول بخجل: آسفة، تلطخت يدي وثيابي، لا تغضب مني كاد ليتكلم إلا أن سليمان قاطع خلوتهما وهو يقول بأدب: سيدي، هناك امرأة تريد مقابلتك.
وقفت أمامه مطأطأة رأسها ودموعها آخذة في ازدياد ونظراتها كانت تترجاهُ عله يعفو عن ابنها الحبيس، طال صمتها لعدة دقائق إلى أن حاولت استجماع حروفها وقالت بصوتٍ مهذب: هل تسمح لإبني بالإفراج يا سيدي؟ راح تيم ينظر إلى سليمان وهو يسأله باتزان تام؛ ما الأمر يا سليمان؟ فأجاب سليمان وقد نظر إلى السيدة باحتقان واحتقار:.
هذه أم محروس وهذا الشاب سيرته سيئة يا سيدي، وليس هذا فحسب بل وجدته يعتدي على إبنة السيدة حليمة أيريس. اتسعت عينا فنار بشدة وشهقت قائلة بقلق: أختي! تجهمت قسمات تيم الذي بدا كأسدٍ مفترس وهو يهتف بها: على ماذا تبكين يا امرأة؟، هذا لا يُبكى عليه، ولن أفرج عنه هذا هو قانون المملكة. بالله عليك!
بالله أنتِ انصرفي من هنا، من يتعدى على أنثى في المملكة فجزاؤه السجن المؤبد، أما من يغتصب فجزاؤه الاعدام وهذا القانون يعلمه الجميع، هيا انصرفي من هنا! يأست السيدة وانصرفت بالفعل خائفة، أما عن تيم فزفر بعنف وهو يتحدث: اللعنة على هذه التربية. بينما قالت فنار وهي تبكي في توسل: سأذهب إلى أختي، أريد أن اطمئن عليها سيدي. فرد قائلًا: سأدعوها لتأتي هي ووالدتك، اهدئي.
ثم أمر سليمان أن يفعل ذلك، والتفت إليها ماسحا دموعها بظهر أنامله قائلًا بصيغةٍ آمرة: لا تبكِ فنار..! لقد أذاها الحقير يا سيدي. تابع في حنوٍ وهو يضمها إليه: أختك بخير، اطمئني. هزت رأسها في طاعةٍ، فتنهد قائلًا وهو يجرها من يدها معه: تعالي، لأعرفك على عائلة رعد. سار معها عدة خطوات بسيطة إلى أن وقف في مكان الخيل الخاص به، وراح يأخذ حصانه الأبيض وهو يقول بابتسامة؛ ما رأيك في حصاني؟
وقبل أن تُجيب عليه وجدت نفسها تركب فوق ظهر الحصان وهو من خلفها في خفة شديدة، توسعت عيناها بصدمة وهي تلتقط أنفاسها اللاهثة، ماذا حدث في غضون ثوانِ؟
لم تكد تتكلم ووجدت نفسها في وضع آخر، ووجدت الحصان يسير بهما ببطئ، وذراعي تيم تحيطانها من الخلف، لا مفر هي محاصرة تماما، زاغت أنظارها في ارتباك وهي تحاول تخفيف موجة التوتر التي اجتاحتها دون مؤشر، أما هو فكان يضحك وهو يشدد من عناقه لها، كم تبدو بريئة حبيبته الصغيرة العفوية، أيوجد أحد بمثل هذه التلقائية؟. لم تجبي فنار! ازدردت لعابها الجاف وقالت ببلاهة: على ماذا؟ فرد مبتسما: رأيك بحصاني.
هزت رأسها وهي تلمس ظهر الحصان برقة: إنه جميل، ورائع. فقال مشاكسا: وصاحبه؟ احمرت خجلًا ولم تتحدث، فعاد يضحك باستمتاع وهو يستنشق رائحتها التي أسكرته، ثم قال مغازلا: رائحتك، حلوة. ابتسمت فقط ولم ترد أيضًا، فتابع غزله بها قائلًا: رائحة ورد جميل، أي عطر تستخدمينه يا صغيرة؟ حركت كتفيها بخفة وصدمته بإجابتها: لم أضع عطرا..! أهذه رائحتك؟ نعم.. تنهد متأوها وهو يواصل بنبرة ودودة: ما أجملك يا صغيرتي.
ظل في مغازلتها طويلا، كانت الجولة ممتعة جدا، إلى أن وصلا إلى بيت الأسد، أو بالأحرى بيوت الأسود، حيث كانت ساحة كبيرة مقسمة إلى بيوت جوار بعض تحتوي على جيشٍ عريق من الأسود! ما إن رأت فنار هذا المنظر حتى توسعت عيناها والخوف عصف بها كإعصار، راحت تتمسك بذراعه وهي تحاول الثبات لكنها ترتجف من الزئير المتصاعد منهم، ضحك تيم وقال بلهجة حازمة رغم ضحكاته: ماذا قلت فنار، لا تخافي لن يؤذيك أحدا منهم ثقي بي وبهم.
ابتلعت ريقها وهزت رأسها موافقة وازداد تشبثها به، سار معها وهو يعرفها عليهم، هي عائلة متكاملة من أعمام وأخوال وأخوة وأخوات، ولهم أسماء! لا تصدق فنار ما تراه، إنه عالم آخر، عالم مخيف لكنه قوي، تشعر بالقوة تحيط المكان والصلابة والشجاعة معا.. انتشلها من شرودها وهو يقول بهدوء: وهذه تكون زوجة رعد وهؤلاء أشباله. ازدردت لعابها وهي تسأله بذهولٍ تام:.
لمَ كل هؤلاء الأسود؟، كنت أظن أنه رعد فقط، لم أكن أتخيل أنك تملك هذا العدد، إنه جيش كبير! حرك رأسه بهدوءٍ وهو يقول متفهما: لا أحد يعلم بالمملكة كلها أن لدي هذا الجيش، هم يعلمون ب رعد فقط، لا أحد يعلم عن هذه الساحة سوى سليمان، وأنتِ الآن. من أين أتيت بهم؟ هذه ثروة أبي، حين كبرت أخذني وعرفني عليهم وقال لي أن هذا سر، وقال أنهم سيكونوا لي عونا في الشدائد. وكيف لم يأكلوك يا سيدي، هؤلاء متوحشين للغاية!
ضحك تيم عاليًا وهو يحاوط كتفيها بذراعه ضاما إياها إليه وقد تابع: لا يا قهوتي، هؤلاء وحوش ليسوا متوحشين، هؤلاء مفترسين، هناك فرق، إن الأسد يسمى بملك الغابة ويسمى أيضًا ب سيد الوحوش، لأنه أقوى الحيوانات، عبارة عن كتلة من العضل وله هيبة طاغية، اختاره أبي لأن يكون رمزا للمملكة، ليعلم الجميع أنه من الصعب هزمنا. صمت يتنهد وهو يقص عليها مميزاته:.
من صفات الأسد أن لديه رحمة وهذا ما لا يفقهه الأخرين، هو يفترس لطالما كان جائع، إن شبع فلن يمس أحد ما إن تعدى عليه، أنيق في حربه ويستخدم ذكائه أكثر، كما أنه لا يحب أن يعذب فريسته قبل أكلها، على عكس بقية الحيوانات يعذبونها أولا وهذا ضمن رحمته... أومأت فنار برأسها وهي مازالت تلتصق به وتحتمي به، فقال غامزًا مواصلًا مرة أخرى: تعلمين ماذا أيضًا يا قهوتي؟ ماذا سيدي؟
أردف مبتسما وهو يشير إلى زوجته والأشبال: هو محب لزوجته جدا، وأبناءه الصغار، يعلم مسؤوليته تجاههم ويوفر لهم الحماية اللازمة، ولم يجد الراحة سوى بحضن زوجته.. ابتسمت فنار وهي تقول ببراءة: اتضح أن الأسد رائع، لك كل الحق في أن تحبه سيدي! رعد أعز صديق لي يا فنار، احبه ولكن ليس أكثر من غزالتي بالطبع! قطبت فنار وهي تسأل: هل لك غزالة أيضًا سيدي؟ فضحك متابعا: تبدين ذكية للغاية يا فنارتي، غزالتي هي أنتِ..!
توردت وجنتيها بشدة فيما تخفض رأسها هاربة من أسر نظراته المخترقة لها، ثم سمعته يهمس بصوتٍ اختنق من كثرة العاطفة: دعنا نذهب إلى غرفتنا، أقصد، إلى القصر.
مرحبا بجلالة الملكة في مملكة النمور، لقد أشرقت الأنوار، حبيبتي. هكذا تحدث أوار وهو ينحني ويقبل كف جلنار الناعم قبلة بعثت رعشة قوية في أوصالها، ثم تابع هامسًا بابتسامة رقيقة: اشتاقت لكِ. منحته ابتسامة كذلك وهي تهمس مبادلة له العاطفة: وأنا أيضا أوار، اشتاقت لك جدا.. تركتهما روكسانا وهي تقول بحنق متأففة: سأسصعد لأرتاح. ما إن صعدت جذبها أوار إليه وهو يهمس بخبث: حبيبتي حاولت التملق منه وهي تهمس بتوتر:.
كيف حالك. جيد لطالما نظرت إلى وجهك الجميل! اشتعلت خجلًا واستمرت في مقاومته إلى أن نجحت بالفعل في التحرر منه، فسألها باستهجان: ماذا حبيبتي؟ لم تبتعدين عني بهذا النفور؟ تحدثت من بين توترها قائلة: ليس نفور ولكن لا أستطيع فعل ذلك أوار، عذراً هز رأسه مبتسما ثم تابع: كما تحبي حبيبتي، بعتذر ابتسمت له برقة وأومأت برأسها في هدوء، بينما تابع متسائلًا: ماذا تشربين؟ لا شيء، أتيت لأراك فقط.
سأحضر لكِ عصير طازج، كيف حال أخاكِ؟ أجابت بابتسامتها التي لم تفارقها: أخي بخير، هو سعيد للغاية مع عروسه. ابتسم بوحشية وهو يقول متهكما: ابنة بائعة التوت؟ فقالت باحراج: نعم هي، لكنها، لكنها طيبة للغاية وخفيفة الظل، أنا أحببتها كما أحبها أخي، لو رأيتها ستحبها مثلنا! ضحك ساخرًا بينما يهتف بغضب: هذه الفتاة تضحك وتلعب بأخيك يا جلنار، أنا أعلم عنها كل شيء انكمشت ملامحها قليلا وهي تسأله بتوجس: كيف؟
فقال وهو يتنهد وقد ضاقت عينيه: هذه سيرتها قد وصلت إلى المملكة هنا أيضاً، هي ستتقن دور الطيبة المسكينة وأخوك سيصدقها تعلمين لماذا؟، لأنها قد سحرت له عند دجال يجيد هذه الأعمال. توسعت عيني جلنار بصدمة وهي تتحدث: يا إلهي!، أنت كيف عرفت يا أوار؟ فرد عليها بثقة: لدي مصادري الخاصة يا جلنار، ستجدين دائما تيم يعاملها بلطف وحنان وهذا مفعول السحر وسوف يحدث لأخيك أشياء كثيرة تضره إن لم تحاولي ابعادها عنه.
دمعت عينا جلنار تأثرا وهي تقول بحزن: يا إلهي، كيف تخدعنا هذه ببساطة، مسكين أخي، لقد أحبها بجنون وهذه الحقيرة تتلاعب به بل وفعلت له السحر، لابد أن أنقذ أخي منها لمعت عينا أوار ببريق شرس وهو يسألها: ماذا ستفعلين؟ فأجابت وقد اختنق صوتها: سأخبره بما قلت وسوف يطردها أسرع يقول بنفي:.
إياكِ أن تفعلي، من الممكن أن لا يصدقك حبيبتي وتعلمين أيضًا الخلاف الذي بيني وبينه سيقول أنني أدعي ذلك عليها، لذا لن يجدي الحديث نفعا معه ماذا أفعل إذن،؟ قال وقد اقترب منها ببطء: سأقول لكِ ماذا تفعلين بالحرف يا جلنار..
جرت فنار ما إن رأت والدتها تقترب بصحبة أيريس، راحت تأخذهما بالأحضان معا في اشتياق وهي تهتف بسعادة: أمي، أيريس، لقد اشتاقت لكما كثيرا.. ضمتها أمها بشدة تربت على ظهرها بحنوٍ وهي تهمس: حبيبتي، ابنتي، روحي، لقد اشتاقت لروحك الجميلة وطيبة قلبك، كيف حالك حبيبتي. قبلتها بقوة في كل انش بوجهها وهي تتأمل ملامحها البريئة، بينما تجيب عليها فنار بإيجاز: أنا بأفضل حال يا أمي.
ثم راحت تندفع نحو أيريس وعانقتها قائلة: أختي، كيف حالك وحال قلبك ابتسمت أيريس وحاربت دموع غادرة كادت تهبط من مقلتيها وقالت: بخير، حبيبتي ماذا حدث لكِ وكيف يتعرض لك هذا الحقير محروس فقالت حليمة بحزم: اصمتي فنار، لاحقا نتكلم في هذا.. أومأت فنار وهي تقول بسعادة: حسنا أمي، هيا معي إلى الداخل وقفت حليمة وقد اعترضت قائلة: هنا يكفي، بدلا من أن يتأذى ساكني القصر منا.
ماذا تقولين أمي، سيدي سمح لكما بالدخول والضيافة ولا كلام بعد كلامه يا أمي قالت أيريس بجدية: لا يا فنار، اتركينا نجلس بالحديقة هذا أفضل، صدقيني لن نرتاح بالداخل، لا نريد افساد لحظاتك وتابعت حليمة موافقة: نعم حبيبتي، أختك محقة، ثم إن الحديقة جميلة ورائحة الورود فيها رائعة للغاية.. مطت فنار شفتيها بتذمرٍ طفولي وقالت متنهدة بعمق: مثلما أردتي أمي، انتظراني وسآتي لكما...
سارت داخلة وهي تركض كعادتها، ووقفتا تتنظرناها بضعة دقائق، فقالت أيريس بخفوت: الحدائق رائعة جدا يا أمي نعم، ومريحة تنسيك هموم العالم أمي هل تسمحي لي بالتجول فيها قليلًا؟ تنهدت حليمة بامتداد وهي تقول بحسم: لا تتأخري إذن.. انصرفت أيريس وهي تبتسم بهدوءٍ، بينما جلست حليمة على حجرٍ كبير وهي تهمس لنفسها: الله يرزقك كما رزق أختك، عن قريب يا ابنتي عن قريب.
وجدت فنار تأتي بعد ذلك وهي تجر عربة طعام تمتلئ بأشهى المأكولات وهي تبتسم، بينما تغضن جبين حليمة وهي تهتف بها: لماذا فنار لمااااذا، لم أأت لهذا، أنتِ تتصرفين بغباء قطبت فنار وهي تقول بضيق: أمي، سيدي سيغضب مني إن علم أنني لم أضايفك هو من أمرني بذلك، وإن علم أنك لم تدخلين القصر سيكون حسابي معه عسير تنهدت حليمة بنفاد صبر بينما تقول: يحميكِ ويحميه من شرور من حولك ابتسمت ثم قالت: آمين أمي، آمين ثم تابعت:.
أين أيريس؟
مرحبا... هتف سليمان وهو ينظر لها من علو بينما عيناه تتجولانها بجراءةٍ، في حين ابتعدت أيريس وهي ترد باقتضاب: مرحبا..! فقال باستهجان وهو يرمقها باحتقار: لولا أنكِ أصبحتِ تخصين الملك بسبب أختك لكان حسابك معي عسير نظرت له بصدمة وهي تهتف ماذا تقول أنت؟! فقال ببرود: الذي سمعتيه الآن، أنتِ تحتاجين إلى التربية، لقد فرطت في كرامتك ودهستيها تحت قدمي حيوان مثل محروس.
أغرورقت عيناها بالعبرات وأطرقت برأسها أرضا، فقال ساخرًا: هل مازلتِ تبكين عليه؟، أنه حشرة لا يستحق.. نظرت له مجددًا بذهولٍ، ماذا يقول ولمَ يقول؟، ما شأنه؟، هل يستخدم سلطته في ايذاء مشاعرها مثلا؟.. ارتاحي، لن ترينه مجددا، سيظل حبيسا إلى أبد الدهر ابتلعت ريقها وهي تشعر بالإهانة، وهو يزيد من عذابها كلما تكلم، وها قد ختم بجملته القاسية: تعلمين؟، كنت أعتقد أنك شريفة ولكن... قاطعته حينذاك بحدة:.
توقف، اتق الله، وما شأنك أنت أصلا، دعني وشأني.. تركته وذهبت ودموعها تزداد كشلالات على خديها، أما هو فوقف يلعن نفسه على ما فعل ولكن ماذا يفعل وهي جرحته ومازالت بحبها للغريب، بينما هو القريب الذي لم ترها عيناها الجميلتين..
مساءاً... في غرفة الملك، وسمرائه... حيث الستائر الناعمة، ورائحة القهوة، والنافدة المفتوحة المنبعث منها الهواء الطلق، وضوء القمر الساطع، والسماء وهما، والحب معهما.. كان مستلقيا على فراشه ويديه خلف رأسه يتأمل صغيرته وهي تعد له القهوة عبر الموقد الصغير الذي أحضرته الخادمة بأمرٍ منه... ترتسم الابتسامة على ثغره وهو يستنشق رائحة القهوة التي تصنعها له وكأنها تضيف لها نكهة خاصة..
نظرت له بعدما انتهت من اعدادها فوجدت نظراته تحرقها وتلهب مشاعرها، اقتربت منه وهي تقول بخجل: القهوة جاهزة أشار لها وهو يقول: أأتني بها يا صغيرة. أمسكت بالقدح واقتربت منه أكثر حتى وصلت إليه بصمت خجول، فاعتدل جالسا وأخذ منها القدح قائلًا بمودة: شكرا لكِ، حبيبتي ظلت واقفة، فنظر لها رافعا حاجب مع قوله: اجلسي جواري جلست جواره بوداعة قطة ناعمة، فابتسم وقال لها بهدوءٍ: ما أجملك!
فضحكت بخجل، وتلك المرة الأولى تضحك عاليا وتقهقه، لأنه يكرر تلك الجملة العفوية المحببة على قلبها، أما هو فقد سعد لسماعه تلك الضحكة وضحك هو الأخر.. سألها بعد ذلك: ماذا كان يومك مع والدتك وأختك؟ ارتبكت قليلًا وقالت: لم تدخلان معي، جلستا بالحديقة واضطريت لأن أضايفهما بالخارج عبس بوجهه وقال بصرامة: ألم تسمعي ما قلت يا فنار؟، كان لابد أن تدخلن القصر هذا التصرف غير لائق، سيكون لكِ عقاب يا فنار.
ابتلعت ريقها بخوف وهي تجيبه: وما ذنبي أنا؟، أمي رفضت أن تدخل وقالت من الممكن أن يتأذى أحد من وجودهما فهتف بغضب: يتأذى من يتأذى، لا يهم، الكلمة هنا كلمتي أنا وعندما أقول لكِ شيء لابد أن تنفذيه هل فهمت؟ هزت رأسها بخوف وقد دمعت عيناها وهي تنظر للأسفل بحرج، فتابع وقد لانت ملامحه: لا تبكِ، انتهينا فنار لا تغضب لست غاضبًا.. تنهدت بارتياح لأنه قد عاد أسدها الحنون ونزع قناع الصرامة عنه...
ثم ترددت قليلًا قبل أن تقول بحذر: هل أخبرك شيئا؟ قال وهو يرتشف من قدح القهوة: بالطبع يا سكرتي ابتسمت بتوتر وهي تخبره: اليوم عاملتني جلنار شقيقتك بجفاء شديد ولم تكن معي هكذا من قبل، لا اعرف ما الذي حدث بالضبط! هز رأسه وعاد يرتشف من جديد من قهوته بينما يقول بخفوت: يبدو أن هناك من يمكر، ويبث السموم داخلها، مؤكداً أنها أمي...