ما بين نوبات إفزاعها له وسط المقابر حيث يعيشان، و ما بين أمنية قلب كل منهما، مرت الأيام بحلوها و مُرها. وعندما اجتمعت أرواحهما على هدف واحد، ظهرت المنغصات لتفرقهما، فهل ستنتصر رغبات القلب على ما تخبئه لهما الحياة في جعبتها!؟
رواية صعيدية (السرد بالفصحى والحوار صعيدي) بقلم الرائعة رضوى جاويش صاحبة الرواية الشهيرة ثلاثية ميراث العشق والدموع. دون تطويل إليكم فصول الرواية.
فصول
رواية روح
الشيخ زيزو
رواية روح
الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول
انطلق يشدو بسلطنة عالية و بصوته الجهورى الذى تميز به بين زملائه من المقرئين و قد اخذه الإعجاب بصوته وهو يقلد ذاك المنشد الذى جلبه عمدة النجع المجاور في فرح ابنه البكر، و كان من بين المدعوين او بالأدق ممن نالهم بعض من نفحات تلك الليلة العطرة التي أقيمت فيها الولائم و ذُبحت فيها الذبائح فرحا بذاك الحدث الميمون..
وضع كفه على مكان ما تحت ذراعه الأيمن يتأكد ان قطعة اللحم التي انتشلها من بين براثن الخفراء و هم يوزعونها هنا و هناك لازالت في موضعها لم تفارقه..
تنهد في راحة عندما شعر بوجودها الدافئ بالقرب من قلبه فأكل اللحم مناسبة لا تتكرر في العام اكثر من ثلاث مرات و ربما اربع اذا طابت الأحوال و تهيأت الظروف و أرسلت مثل ذاك الزفاف السعيد لأحد العمد في احد النجوع التي ينشد فيها..
ارتفعت عقيرته مرة أخرى بالإنشاد للأمام البصيرى رائعته الخالدة في مدح المصطفى صلوات الله عليه، نهج البردة: -
مولاى صَل و سلم دائما ابدا..
على حبيبك خير الخلق كلهم..
و فجأة، انتفض
الشيخ عبدالعزيز الفقى في موضعه عندما تناهى لمسامعه صوت جهورى لا يقل حدة عن صوته: - حمدالله بالسلامة يا شيخ عبعزيز...
-سلام قول من رب رحيم، هتف
الشيخ عبدالعزيز بالأية الكريمة وهو يقفز مذعورا، ثم هدأ قليلا عندما تنبه للخيال الأنثوي الذى استطاع تمييزه رغم الليلة الحالكة الظلام وسط المقابر التى كان عليه ان يسلكها دوما عند عودته حيث يسكن فى احد الغرف المتواضعة الواقعة على احد أطرافها..
ثم هتف معاتبا في ضيق: -
- انا مش جلتلك ميت مره يا بت متطلعليش فى الضلمة كِده ، هتجضى على مستجبلى يا بعيدة..
- چرى ايه يا شيخ عبعزيز!، قالتها بلا اى حس انثوى وبصوت جهورى، واحدة اسميها (روح) عايزها تطلع لك فين يعنى، فى المولد!؟، ما هو لازم تطلع فى الضلمة...
- يحظك يا بعيدة، قالها وهو غارق فى ضحكاته.
ابتسمت بدورها عندما استطاعت انتزاع ضحكاته من قلب غضبته عليها و ضيقه لإفزاعها إياه..
وصل عند باب حجرته و ما ان رفع ذراعيه ليفتح قفلها المعدنى الصغير حتى تذكر قطعة اللحم التي فاز بها الليلة، فترك القفل و المفتاح معلق به و دس كفه داخل جلبابه و اخرج القطعة الملفوفة بحرص و كأنها جوهرة ثمينة و استدار لروح و هي تهم بالرحيل لغرفتها على الجانب الاخر من الحوش الذى يضم غرفتيهما هاتفا بها: - يا بت يا روح..!؟.
عادت ادراجها مسرعة في سعادة: - نعم يا شيخ عبعزيز، أامر..
مد كفه بقطعة اللحم منتشيا: - خدى يا بت، دى لحمة عمر ما اللى خلفوكِ داجوها..
انفجرت ضاحكة: - صدجت يا شيخ و لا بتهم حتى، بس يعنى، دى لحمة لحمة..
و لا هتطلع نابت ف الاخر..!؟.
أكد في فخر: - عيب يا بت، انت بتكلمى
الشيخ عبعزيز الفجى، طبعا لحمة ومن عچل متأصل كمان، عايزك تعمليها لنا بجى، خلى الواحد يرم عضمه..
أكدت في ثقة: - من عنايا يا شيخ..
و استدارت راحلة ليهتف مستفسرا: - هاتعرِفى و لا هتحرجيها، جولى لو مش هاتعرفى، انى ف عرضك، الا اللحمة..
انفجرت ضاحكة: - صحيح انا بسمع عنيها بس يا شيخ، بس متجلجش هعرف اطبخها، و هدوج احلى فتة من أيد روح..
رفع
الشيخ عبدالعزيز أكفه متضرعا الى السماء و هو يرى روح تغادر لغرفتها و بيدها غاليته: - يا خفى الألطاف نچنا مما نخاف..
لتنفجر روح ضاحكة من جديد و قد وصلت لحجرتها على الجانب الاخر و أغلقت بابها خلفها..
وضعت روح ذاك الطبق الواسع الملئ بالثريد يعلوه قطع اللحم الطازجة و المطبوخة بشكل جيد تثير لعاب اى من كان لمرأها و توجهت لحجرة
الشيخ عبدالعزيز تطرق بابه و هي تعدل من وضع حجابها على رأسها في سعادة و ما ان فُتح الباب حتى اطرقت بنظراتها في خجل هامسة: - الاكل يا شيخ، يا رب يعچبك..
مد كفه و قد سال لعابه و تناول منها الطبق العامر و ما ان همت بالرحيل حتى هتف بها في تعجب: - انتِ رايحة فين..!؟.
مش هاتكلى معايا و لا ايه..!؟..
أكدت في حياء: - بالهنا و الشفا على جلبك..
ثم استطردت مازحة: - و بعدين أخاف أتعود على اللحمة و تبجى مشكلة، حلو عليا الفول النابت، نعمة..
اندفع من باب حجرته خلفها هاتفا في تأكيد: - طب و الله ما ادوجها الا لما تكلى معاي، تبجى انتِ اللى عملاها و مدجيهاش، و أدى الطبج..
و ترك الصحن جانبا، لتعود هي ادراجها في حياء لتجلس على ذاك الحصير الذى يضعه
الشيخ عبدالعزيز أمام باب حجرته يتخذه موضعا في ايّام الشتاء الدافئة مستمتعا بالشمس و حرارتها بعيدا عن رطوبة الغرفة او يتمدد عليه في بعض الأحيان في ليالى الصيف التي يختنق فيها داخل حجرته من حرارة الطقس..
ما ان رأها جلست حتى مد كفه يتناول الصحن و يضعه أمامها ليجلس بدوره هاتفا فيها: - بِسْم الله..
و ناولها احدى قطع اللحم لتتناولها من كفه في سعادة و هي تراه يجود عليها بما يحب قبل ان يمسه..
لطالما شعرت انها تكن لهذا الصعيدى الأسمر الكثير من المشاعر التي يعيها فهمها
لا تدرى لما هو بالذات تستريح و تلجأ اليه عند حاجتها، على الرغم من وجود العديد من الشباب حولها يتمنى ان يحظى بزوجة مثلها الا انها لا تتمنى الا إياه..
لا تدرى صدقا لما..!؟، ربما لانه الوحيد الذى لم يحاول مغازلتها او مراودتها عن نفسها، هو الوحيد الذى يعاملها كروح دون أدنى رغبة منه في مغازلتها او التقرب منها لأى غرض غير شريف، فهو يعرف حدود ربه و يحفظ كتابه..
كانت شاردة في تأمله بين الفينة و الأخرى حتى تنبه انها لم تمد يدها على الطعام الا تلك القطعة التي دفع بها اليها و هو الذى أوشك على الإتيان على الصحن كاملا..
فهتف بها مستفسراً: - ايه يا روح، مبتكليش ليه يا بت!؟، دِه الأكل اخر حلاوة، احلى من اللى دوجته ف دوار العمدة، تسلم ايدك..
هتفت منتفضة من شرودها: - ما انى باكل اهو يا شيخ عبعزيز، متخدش ف بالك، المهم تاكل انت..
ابتسم في مودة متسائلا: - ألا هو انتِ متچوزتيش ليه لحد دلوجت يا روح، مع انك ست بيت..
و چدعة، و حلوة..!؟.
هتفت بلا وعى منها: - انى حلوة يا شيخ عبعزيز..
بچد انت شايفنى حلوة..!؟.
انفجر ضاحكا: - وااه، دِه انتِ مش حلوة بس، دِه انتِ زى الجمر كمان..
كادت تقفز فرحا لرأيه بها و هي التي لم تسمعه يذكرها بكلمة تريح قلبها المشتاق إلى اى بادرة منه تعطيها الأمل في قربه..
تمالكت نفسها و هي تجيب في حياء: - و مين اللى هيرضى يتچوز واحدة زيي يا شيخ محلتهاش حاجة من الدنيا و مچطوعة من شچرة..!؟.
هتف مؤكدا: - يا سلام، ده انتِ يتمناكِ الباشا، بكرة ياجيكِ عريس الغفلة اللى يستاهلك و ساعتها مش هيطلب يدك الا منى
وهكتب كتابكم على يدى ..
ما ان نطق بتلك الكلمات برغم انه قالها بكل محبة و ود الا انها شعرت بألم يعتصر قلبها.
فتركت قطعة اللحم من يدها أمامها على الصحن و ابتسمت ابتسامة شاحبة على شفتيها الوردية و هي تهمس في استكانة: - لما يأذن ربك، اكيد مش هيكون الا غيرك يا شيخ يكتب كتابى و يكون كل عزوتى..
وقفت تغادر، و رحلت، لتتركه يشعر بموضع ما فارغ هاهنا فى حنايا صدره، لا يدرك ما يحدث له لكنه لا يعرف لما شعر انه لو جاء ذاك العريس المزعوم لها، فهو لن يتقبله بالبشر و السرور كما ادعى..
نظر بعيدا حيث غابت و أغلقت بابها خلفها
و قد ادرك ان هناك ألف باب قد فُتح للفكر و الانشغال بتلك المفزعة له دوما...
تااااابع اسفل