أصبح المستكشف (كريستوف كولومبوس) شخصية جدلية في الأعوام الأخيرة، حيث ارتبط ”اكتشاف“ أميريكا بمذابح شنيعة ارتُكبت بحق شعوب أميريكا الأصلية، والمعاملة السيئة التي تعرض لها هؤلاء. وأصبح من المعروف أيضاً أن (كولومبوس) لم يطأ أرض أميريكا الشمالية من الأساس، حيث تشير الدلائل
إلى استكشاف
القارة من طرف شخص آخر.
وفقاً للتقارير المعاصرة والدلائل الأثرية التي اكتُشفت في ستينيات القرن الماضي، يعتقد الكثير من العلماء أن المستكشف الاسكندنافي (ليف إريكسون) وصل
إلى قارة أميريكا الشمالية قرابة
عام 1000 بعد الميلاد. وهو بالتالي
أول أوروبي
يصل إلى العالم الجديد.
من هو ليف إريكسون؟
لوحة للفنان (كريستيان كروغ) من القرن التاسع عشر بعنوان “ليف إريكسون واستكشاف أميريكا الشمالية”. صورة: Wikimedia Commons
وفقاً لموسوعة التاريخ القديم، وُلد (ليف إريكسون) –أو Leifr Eiríksson باللغة الاسكندنافية القديمة –في آيسلندا بين عامي 970 و980 بعد الميلاد تقريباً. ولقّبه والده بـ ”ليف المحظوظ“، حيث كان والده شخصية معروفة أيضاً، واسمه (إريك الأحمر)، وهو
أول من أسس مستعمرة اسكندنافية في غرينلاند
عام 985 ميلادي بعد طرده من آيسلندا جراء جريمة ارتكبها.
وهناك في غرينلاند، الموطن الجديد للعائلة، ترعرع (إريكسون) وتعرّف على المزارعين والحرفيين الأثرياء الذين كانوا من أوائل المستوطنين الجدد. وللأسف، لا نعلم كثيراً عن حياة (إريكسون)، وبعض المعلومات ربما تكون غير دقيقة تماماً.
كنيسة Hvalsey في غرينلاند، وهي من البقايا الأثرية التي تركها الفايكنج. صورة: Wikimedia Commons
إن فهم واستيعاب تاريخ الفايكنج ليس بالمهمة السهلة، فمعظم المعلومات التي جمعها المؤرخون عن (ليف إريكسون) مأخوذة من قصص ملحمية ظهرت في القرن الثالث عشر تدعى Vinland Sagas –الـ Saga هي ملحمة أو
قصة آيسلندية زاخرة بالأعمال البطولية –وهي مجموعة من الحكايا التي تروي لنا الإرث الذي خلفه (إريكسون)، بدءاً من
قصة والده التي ذُكرت في ملحمة سُميت باسمه وتدعى Erik the Red’s Saga. وهناك أيضاً ملحمة أخرى تخص شعب غرينلاند تُدعى The Saga of the Greenlanders، لكن الوثيقتين السابقتين ليستا مصدراً مؤكداً للمعلومات.
لا يمكن تجاهل هذه الملاحم الأسطورية بشكل كامل، بل يمكن اعتبارها نصف وثيقة تاريخية إن صح التعبير، حيث تحكي لنا هذه الوثائق عن
وصول (إريكسون)
إلى أميريكا
قبل مئات السنين من رحلة (كولومبوس) الشهيرة. لكن كما أوضحنا سابقاً، لا يمكن اعتبار كل حرف فيها مصدراً موثوقاً.
كُتبت هذه القصص بعد 200
عام من الأحداث التي تدعي القصص وقوعها، في المقابل، ذُكرت هذه الأحداث في الكثير من القصص التي انتقلت من جيل
إلى آخر شفهياً، وذكر فيها أشخاص وأسماء حقيقية، بل حتى أحداث حصلت بالفعل.
وبعيداً عن الشهادات الأصلية لشعب الفايكنج، تشير الحفريات الأثرية العائدة
إلى مستوطنة اسكندنافية، والمكتشفة
عام 1961 في موقع ”لانس أو ميدوز“ في أقصى شمال مقاطعة نيوفاوندلاند. وهكذا تم تأكيد القصص التي تناقلها الفايكنج عن طريق هذه الحفريات الأثرية. لكن
قبل أن تظهر الدلائل العلمية، كانت ملاحم رحلات (ليف إريكسون) المصدر الوحيد للتعرف على مغامراته.
ملحمة سكان غرينلاند ورحلة إريكسون
إلى أميريكا الشمالية
خريطة توضح المسار الذي سلكه الفايكنج عندما وصلوا
إلى فينلاند. صورة: ancient.eu
هناك دليلان يؤكدان
وصول إريكسون
إلى أميريكا الشمالية. واحدٌ وُجد في ملحمة (إريك الأحمر)، وتحكي عن خروج (إريكسون) عن مساره في المحيط الأطلنطي عندما كان عائداً
إلى النرويج، لكنه وصل عن طريق الصدفة
إلى سواحل أميريكا الشمالية.
أما ملحمة سكان غرينلاند، فتدعي أن رحلة الفايكنج
إلى أميريكا الشمالية لم تكن محض صدفة أو عن طريق الخطأ، بل سمع (إريكسون) بقارة غير مستكشفة من تاجر آيسلندي يُدعى (بيارني هيرجولفسن) Bjarni Herjólfsson، حيث وصل الأخير
إلى هذه
القارة قبل عقد من الزمن بينما كان يسعى للوصول
إلى غرينلاند.
لم ينزل (هيرجولفسن) على السواحل الأميركية، مما يمنح (إريكسون) لقب
أول مستكشف أوروبي لقارة أميريكا الشمالية. وبالعودة
إلى ملحمة سكان غرينلاند، ذُكر أن (إريكسون) اشترى سفينة للتاجر (هيرجولفسن)، وأنشأ طاقماً مكوناً من 35 شخص، وتتبع المسار الذي سلكه التاجر في طريقه
إلى العالم الجديد.
واجه الطاقم عند عبور الأطلنطي قطعة من الأرض مغطاة بالحجارة، فأطلقوا عليها اسم (هيلولاند) أو ”أرض البلاط الحجري“، وهي تمثل اليوم على الأغلب جزيرة لابرادور أو جزيرة بافين، وتقعان في الجانب الشمالي الشرقي من كندا.
خريطة فينلاند. صورة: Wikimedia Commons
ثم وصل الطاقم
إلى أرض مليئة بالغابات، أطلقوا عليها اسم (ماركلاند) أو ”أرض الغابة“، وهي على الأغلب جزيرة لابرادور. ووصلوا أخيراً
إلى Leif’s Booths حيث أقاموا مستوطنة هناك، وهي تقع على الأغلب في الجزء الشمالي من جزيرة نيوفاونلاند.
إعادة تشكيل للبيوت والأكواخ التي بناها الفايكنج، والتي اكتُشفت أثناء عمليات تنقيب الحفريات في ستينيات القرن الماضي. صورة: flickr/9793189085
ارتحل الفايكنج جنوباً حيث عثروا على الأحراج والكروم. وأطلقوا اسم (فينلاند) أو ”أرض الكرمة“ على تلك المنطقة. أمضى (إريكسون) ورجاله الشتاء بأكمله هناك، حيث نال الطقس والغابات والطعام الوافر من سمك السلمون والكرمة إعجابهم الشديد. وأخيراً، تنتهي الملحمة بعودة الفايكنج
إلى غرينلاند محملين بالعنب والحطب اللازم والضروري للبناء.
منزلٌ طويل أُعيد تصميمه في مكان الحفريات. صورة: Wikimedia Commons
لم يعد (إريكسون)
إلى العالم الجديد مرة أخرى، ووفقاً لما جاء في ملحمة سكان غرينلاند، فالسبب غالباً هو وفاة شقيق (إريكسون)، والذي يُدعى (ثورفالد)، ذبحاً أثناء إحدى المواجهات مع السكان الأصليين في شمال أميريكا.
مدخل
إلى إحدى البيوت. صورة: Wikimedia Commons
لا يُعرف الكثير عن حياة (إريكسون) بعد هذه الرحلة، لكن آخر ذكر لاسمه كان في كتابة تعود لعام 1019 ميلادي، كما ورّث (إريكسون) ابنه لقب أو رتبة الزعيم
عام 1025. لكن في ملحمة (إريك الأحمر)، سنسمع
قصة مختلفة قليلاً عن اكتشاف أميركيا، لذا أكملوا القراءة.
رحلة ليف إريكسون كما وردت في ملحمة “إريك الأحمر”، والدلائل الأثرية التي اكتشفت لاحقاً
لوحة من القرن التاسع عشر بعنوان “صيفٌ على ساحل غرينلاد قرابة العام 1000” وهي تصوّر الرحلة التي قام بها (ليف إريكسون) ورجاله، والصيف الذي أمضوه في أميريكا الشمالية. صورة: Wikimedia Commons
تناقض هذه القصة الكثير مما جاء في ملحمة سكان غرينلاند، والسبب في ذلك أن ملحمة إريك الأحمر كُتبت لتنتقص من إنجازات (ليف إريكسون) وتمجد ما قامت به سلفته –أخت زوجته –التي تُدعى (غودريد) وزوجها (كارلسفني). حيث تصوّر الملحمة (غورديد) وزوجها على أنهما من تزعما استكشاف العالم الجديد خلال رحلة وحيدة
إلى (فينلاند). يرجع البعض هذه القصة
إلى حركة من القرن الثالث عشر ميلادي مالت
إلى تفضيل وتقديس الأسقف (بيورن غيلسون)، وهو السليل القريب للزوجين (غودريد وكارلسفني)، وأهملت المستكشف الأصلي (إريكسون) وسلالته.
وحسبما جاء في القصة، أسس الزوجان مسكناً مؤقتاً يتسع لـ 70 أو 90 شخص في Straumfjordr. ويعتقد أن هذا المعسكر استُخدم لنشر المزيد من البعثات في المنطقة، وذلك لجمع المزيد من الحطب والعنب والفراء وأي مادة أخرى قيمة، ثم جلب ما جُمع
إلى غرينلاند.
وبصرف النظر عن اسم القاعدة التي نشأت، فمن المتوقع أنها تأسست في أقصى الشمال من جزيرة نيوفاوندلاند حيث عُثر على الحفريات الأثرية بعد 1000 عام، أي سنة 1961، على يد المستكشف النرويجي (هيلغي إنغستاد)، وفريقٌ من علماء الآثار.
وفقاً لموقع Ancient Origins، يتألف مجموع ما اكتشف
عام 1961 من مصلى صغير كُرس لزوجة (إريكسون)، والتي كانت تدعى Thjodhild، وكان المصلى كبيراً لدرجة أنه يتسع لـ 20 أو 30 شخص.
وخلال عملية التنقيب
عام 1960، عُثر على 144 هيكل عظمي. تشير هذه البقايا العظمية المكتشفة أن أصحابها كانوا أشخاصاً طوال القامة، أي أنهم ربما كانوا أناساً اسكندنافيين، وذلك ما يزيد من صحة النظرية التي تدعي
وصول الفايكنج
إلى هناك. ووفقاً لما ذكرته قناة الـ BBC، يتطابق أسلوب البناء المعماري للمستوطنات عند الفايكنج مع ما جاء في الوصف الشعبي.
إن هذه الاكتشافات بمثابة دليل علمي ثابت يشير
إلى صحة الحكايات الشعبية بعض الشيء. لذا أصبح الموقع المكتشف واحداً من مواقع التراث العالمي التابعة لليونيسكو.
لكن بالرغم من هذه الدلائل العلمية، لا يزال (كريستوف كولومبوس) الشخصية الأوروبية المسؤولة عن اكتشاف واستيطان أميركيا الشمالية، ودائماً ما يرد اسمه في الثقافة العالمية كأول شخص يكتشف أميريكا. لكن كيف نسي التاريخ (ليف إريكسون) ومجّد في المقابل (كولومبوس)؟
بحلول
عام 1907، أصبحت ولاية كولورادو
أول ولاية تقرّ ”يوم كولومبوس“، وهو اليوم الذي أصبح عيداً وطنياً في الولايات المتحدة الأميركية. ولكن بعد عدة أعوام من إقرار ولاية كولورادو هذا اليوم الوطني، حذت حذوها 15 ولاية أخرى. وبذلك أصبح هذا اليوم عيداً وطنياً في
عام 1971.
طابع يحتفل بذكرى استكشاف أميريكا على يد (ليف إريكسون)، صدر الطابع
عام 1968. صورة: ebay
أما رحلة (ليف إريكسون)
إلى أميريكا الشمالية فلم تمح من التاريخ تماماً، بل هناك عطلة في التاسع من شهر تشرين الأول كل عام، وأصبحت هذه العطلة رسمية
عام 1954. ولكن بسبب الطبيعة المثيرة ليوم كولومبوس، لم يحظ يوم إريكسون بهذا الزخم الذي حصل عليه يوم كولومبوس، وبقي عطلة بديلة لأولئك الذين يعلمون التاريخ جيداً، ولا يحبذون الاحتفال بإنجاز (كولومبوس).
لكن المسألة معقدة أكثر من ذلك، وتحوي في طياتها تعصباً دينياً وعرقياً تجاه الكاثوليك والإيطاليين. فعندما احتفل الأميركيون من أصل إيطالي بالذكرى الـ 400 لاستكشاف (كولومبوس)
القارة الأميريكية، وذلك
عام 1892، راود الأميركيين عداءٌ للمهاجرين وخوفٌ من الكنيسة الكاثوليكية. حيث توضح بروفيسورة التاريخ في جامعة آيرلندا الوطنية، ومؤلفة كتاب “اكتشاف أميريكا الفايكنج”، السيدة (جوان مانشيني)، أن الأميريكيين الذي لا ينتمون
إلى المذهب الكاثوليكي شعروا بالخوف والرهاب من الكنيسة الكاثوليكية في القرن التاسع عشر، وبدأت نظريات المؤامرة تطفو على السطح، ومنها محاولة الفاتيكان طمس إنجازات (إريكسون).
ولكن على أي حال، نالت
قصة (كولومبوس) واكتشافه أميريكا شعبية أكبر بكثير من
قصة (ليف إريكسون)، واستطاعت أن تحل محلها باعتبارها رواية رسمية. وتعتقد (مانشيني) أن ذلك يعود
إلى جماعات الضغط الإيطالية، والتصوّر الذي يقول أن (كولومبوس) ألهم الكثير من الأوروبيين ودفعهم
إلى السفر نحو العالم الجديد، أكثر بكثير من إنجازات (إريكسون) التي لم تسبب موجة من الهجرة الأوروبية
إلى أميريكا.
وإذا أخذنا رواية استعمار أميريكا من طرف الأوروبيين، سنرى أن استيطان أميريكا ناتج عن رحلات (كولومبوس) الاستكشافية بالرغم من عدم وصوله
إلى أميريكا الشمالية، وليس ناتجاً عن رحلة (ليف إريكسون). حيث أوضحت (مانشيني): ”من المثير للإعجاب قدرة الفايكنجز على عبور المحيط الأطلنطي والوصول
إلى أميريكا، لكن (كولومبوس) ترك انطباعاً وأثراً أكبر على المدى الطويل“.
وهكذا، ولد عن هاتين الحادثتين التاريخيتين نزاعٌ بين القوميات والثقافات. فمثلاً، تحتفل ولاية داكوتا الجنوبية اليوم بعطلة تُدعى يوم الأميريكيين الأصليين بدلاً من يوم كولومبوس. بينما لا تحتفل ولايتي ألاسكا وهاواي بالعطلتين أساساً. مررت ولاية نيوميكسيكو موخراً قانوناً يقرّ بالاعتراف بعطلة يوم الأميركيين الأصليين بدلاً من يوم كولومبوس.