عناد
الطفل وغضبه أمران طبيعيان حتى سن معينة، وفي إطار بعينه، فإذا تجاوزا هذا الإطار وهذه السن وجبت المراجعة، فإذا عاش
الطفل في بيئة تُشعره بالتقبل تَعَلَّم أن يكون محبا فماذا عن غضب
الطفل وعناده؟
تظهر على الأطفال قبل سن الخامسة مظاهر انفعالية مثل:
1) ضجر، وغضب، واستثارة.
2) قسوة، وعدوان.
3) كثرة بكاء، وعناد.
ودلت الأبحاث على أنه كلما تقدم
الطفل في السن اتجهت الأعراض السابقة إلى الزوال.
ودلت الأبحاث أيضا على أنه كلما كانت تلك الأعراض لا تزال مستمرة - وخصوصا بعد سن الخامسة - اتجهت إلى الثبات ومن ثم أصبحت مشكلة سلوكية.
لذلك يمكننا أن نغض النظر - بلا قلق - عن تلك الأعراض الانفعالية للأطفال دون الخامسة لأنها في حكم المظاهر السلوكية الطبيعية.
لكن يجب الاهتمام بتلك المظاهر بعد سن الخامسة على أنها أعراض غير مطمئنة نتجت من سوء التكيف كالغضب الدائم والعناد المستمر.
في مرحلتي الرضاعة، والطفولة المبكرة: في هاتين المرحلتين من حياة
الطفل نجده يثور ويغضب إذا لم تحقق له الأسرة رغباته أو إذا فشل في جذب انتباه من حوله، كما يثور أثناء استحمامه أو خلع ثيابه وتبديلها. وتتفاوت مظاهر الغضب عند الأطفال دون الخامسة من ضرب الأرض بالقدمين والرفس والقفز، ويصاحب هذه الأعراض البكاء والصراخ، أو قد يلجأون إلى العض على الأنامل أو جذب الشعر. ودور الوالدين في هاتين المرحلتين من العمر يجب أن يهدف إلى مساعدة
الطفل وتدريبه على ضبط انفعال الغضب والسيطرة عليه، ولكن ليس معنى ذلك أن يدرباه على ألا يغضب أبدا، حيث نصل به إلى درجة ملحوظة من السلبية والبلادة. بل يكون موقف الأبوين من
الطفل موقف توجيه في الاتجاه السليم. وأغلب أسباب غضب الأطفال في هاتين المرحلتين يعود إلى علاقة الأبوين بالطفل وكذلك علاقته بإخوته ومدى تحكم كل هؤلاء في تصرفاته وفرض رغبات محددة تتصل بمواعيد ذهابه إلى الفراش، أو تناول طعام معين أو بأتباع عادات صحية معينة تتصل بالتبول والتبرز وتمشيط الشعر أو الاستحمام. ومن الأسباب التي تؤدي إلى الانفعال والغضب إخفاق
الطفل في قيامه بعمل من الأعمال يرغب في إنجازه ويحقق به ذاته. وقد ينفجر
الطفل غاضبا دونما سبب واضح، ولكن إذا ما دققنا في البحث وجدنا أنه يهدف إلى جعل نفسه مركز الانتباه وبؤرة الاهتمام بدلا من ذلك المولود الجديد الذي نال الاهتمام والتدليل من الأسرة وخاصة من الأم.
وقد يكون انفجار
الطفل في البكاء والغضب بسبب خلل جسدي كالإصابة بالمغص أو نزلات البرد أو ارتفاع درجة الحرارة أو التهاب اللوزتين، الأمر الذي يحتم أن نعرف السبب الحقيقي للغضب والبكاء حتى إذا ما تبين أن السبب جسماني وجب على الأبوين عرضه على طبيب متخصص دون إبطاء.
في الطفولة الوسطى والمتأخرة : تأخذ مظاهر الغضب بعد سن الخامسة شكل الاحتجاجات اللفظية، بينما قد يلجأ طفل التاسعة أو العاشرة إلى المقاومة السلبية التي تبدوفي التمتمة بألفاظ غير مسموعة، كما أن بعض الأطفال إذا غضبوا لازمتهم الكآبة والميل إلى الانزواء، ويعتبر هذا المسلك الأخير من أخطر المسالك الضارة بالصحة النفسية للطفل لأنه قد يدفعه نحوالتمركز حول الذات والجنوح غير المستحب لأحلام اليقظة.
ويمكن تلخيص أساليب الغضب عند الأطفال بوجه عام في أسلوبين :
الأول: إيجابي، ويتميز بالثورة والصراخ أو إتلاف الأشياء. وهي أساليب إيجابية حيث يفرغ فيها
الطفل الغاضب شحنة الغضب ويعبر عنها بصورة ظاهرة.. وهي فرصة لتفاهم الوالدين معه والوصول إلى حلول مرضية وكشف مواطن الأخطاء وتصحيحها له.
الثاني: سلبي، ويتميز بالانسحاب والانزواء أو الإضراب عن تناول الطعام، وهذه أساليب سلبية، لأنها تعتمد على الكبت فالطفل الغاضب لا يفرغ شحناته الانفعالية بل تظل تؤرقه دون أن يبوح لأحد، فيكره الحياة وينسحب من الواقع فيقع فريسة للأمراض النفسية. لذلك يلزم الآباء والأمهات أن يتنبهوا إلى أن
الطفل الذي لا يعبر عن غضبه هو الذي يجب أن نوليه الرعاية حتى يستطيع أن يعبر عن انفعالاته بوضوح، ثم نقوم بتهذيب وتقويم وإصلاح وسائل التعبير تلك.
الجو الأسري
الأسرة هي البوتقة التي تصهر
الطفل فتنقي سلوكه ورغباته من كل شائبة من شأنها أن تعيق صحته النفسية فيما بعد.
والطفل الذي ينخفض معدل غضبه وعناده بشكل ملحوظ هو طفل يعيش في جوأسري مستقر، يتصف بأن كلا الوالدين يحب ويحترم الآخر، يهيئان له جوا من الدفء العاطفي الذي يشبع حاجاته النفسية، وينميان قدراته ومهاراته التي حباها الله إياه، يشعرانه بالأمن والاطمئنان والحب، لا يتناقضان في معاملتهما للطفل.. فهذا يرفض وذلك يلبي، بل يعاملانه بثبات وفق قواعد ومعايير مقننة اتفقا عليها مسبقا. أما الأسرة التي تسودها التوترات الانفعالية الشديدة، والثورة والهياج لأقل الأسباب، وسوء العلاقة بين الزوجين، وعدم القدرة على تجاوز الخلافات والمشكلات، وأحيانا عدم التعاون والسلبية بينهما حول أسلوب تربية
الطفل فالأب يقسووالأم تدلل، كل هذه العوامل تؤدي بالطفل إلى توتره واضطرابه الذي يأخذ صورة نوبات الغضب والعناد والبكاء.
وينبغي أن تكون سلطة الأبوين في تقويم سلوك
الطفل وتوجيهه ثابتة غير متناقضة.
فماذا سيكون الحال لوأن الأب أجاب رغبات طفله والأم رفضت تلبية هذه الرغبات؟
من المتوقع أن يلجأ
الطفل إلى نوبات الغضب والبكاء، ثم سيلجأ إلى الطرف الآخر مستدرا حمايته على أمل أن يجيبه إلى ما يريد.
في هذه الحالة قد تجاب رغباته تحت تهديد سلاح الغضب والعناد فيتعلم
الطفل أنه كلما أراد تحقيق شيء وقوبل بالرفض فعليه أن يلجأ إلى سلاحه الفعال لأنه يتوقع أن التراجع سيكون شيمة أبويه كليهما أو أحدهما.
ثم يبدأ
الطفل في تعميم سلوكه هذا في محاولة منه للسيطرة على البيئة الخارجية بنفس الطريقة وهنا تكمن الخطورة الحقيقية، إذ سيصبح الانفعال بالغضب والعناد أسلوبه اللاشعوري الذي سيلجأ إليه في حل مشاكله حتى في الكبر مما يعرضه للمساءلة ووسائل العقاب التي يشهرها المجتمع إزاء الخارجين عن معاييره ولوائحه وقوانينه. ويجب أن نلاحظ أن بعض الأطفال لا يستخدمون سلاحهم هذا إلا مع من سبق ونجح معهم هذا الأسلوب.
وهناك نوع آخر من الأطفال يتعمدون إحراج آبائهم بالصراخ والبكاء والعناد لتحقيق رغباتهم، خصوصا أمام الضيوف أو الأقارب لأنهم يشعرون بأن هؤلاء سيشفعون لهم لدى آبائهم. كل هذه الحيل يلجأ إليها
الطفل اعتمادا على خبرة مسبقة في تعامله مع أبويه. لأنه يدرك تماما حدود والديه وطبيعتهما في التعامل مع غضبه وعناده فنراه يستخدم سلاحه السحري مع الشخص المناسب وفي الوقت الملائم تماما. ومن المؤكد أن تعدد سلطات الضبط والتوجيه لسلوك
الطفل يؤدي حتما إلى ارتباك
الطفل وثورته وغضبه وعناده، ويحدث هذا في الغالب
عندما يعيش
الطفل في منزل العائلة الذي يضم الجد والجدة، والأعمام، والإخوة الكبار بالإضافة إلى الوالدين، ويكون بالطبع لكل منهم سلطة توجيه
الطفل ونقده، وكل منهم يرى أسلوبا معينا لتحديد السلوك وطبيعته وماهيته، والطفل في مثل هذه الأجواء العائلية يشعر بالارتباك وبتعدد السلطة الضابطة.
فالأم في هذا الجوتقوم بتقويم سلوك
الطفل برؤيتها الخاصة فهي ترفض تماما إجابة طلباته تحت تهديد الصراخ والبكاء، بينما ترى جدته عكس ذلك فهي تتدخل فتنهر ابنتها على معاملتها التي تتسم بالقسوة (من وجهة نظرها) فتحنوعلى
الطفل وتجيب طلباته.
ومعنى ذلك أن
الطفل يعيش في بيئة تعددت فيها السلطات، وقد يؤدي ذلك إلى شعور
الطفل بالقلق النفسي، وعدم الاطمئنان إلى تحقيق رغباته لتضارب استجابات أفراد العائلة إزاءها مما بجعله يلجأ إلى نوبات الغضب كوسيلة للسيطرة على البيئة وعلى اعتراضات بعض أفرادها نحومطالبه. إن تضارب السلطات الضابطة بين التشدد واللين يجعلها ضعيفة بكل تأكيد.
عصبية الآباء
أدى تعرض الآباء للمشكلات الخارجية، والضغوط النفسية نتيجة لإيقاع الحياة السريع، الصاخب، إلى افتقار معظم الآسر للهدوء والسكينة والاتزان الانفعالي.
حتى أن الزوجة التي تشارك زوجها وتقاسمه أعباء العمل خارج المنزل ثم الأعباء التي تنتظرها أيضا لدى عودتها إلى المنزل، كل هذا جعلها في شبه ثورة انفعالية نتيجة للشحن النفسي والمعنوي السلبي الذي تتعرض له. هذه الأوضاع الأسرية التي فرضتها تلك الظروف البيئية الاقتصادية والاجتماعية جعلت السمة البارزة للوالدين هي العصبية المفرطة سواء في تعاملات كل منهما مع الآخر أو في تعاملاتهما مع أبنائهما. هذا بالإضافة إلى أن بعض الآباء لديهم الاستعداد النفسي للعصبية المرضية التي تجعلهم يثورون لأصغر الأشياء مما يؤدي إلى شجار دائم داخل المنزل.
كذلك فإن عدم التوافق بين الزوجين سواء العاطفي أو الوجداني أو الفكري يدعم مبدأ العصبية السائدة في علاقتهما أصلا فتنعدم بالتالي فرص الالتقاء على قرار معين، فيعم التوتر أجواء الوسط الأسري. كل هذا ينتقل بالتالي إلى الأبناء لأنهم في حقيقة الأمر يقتدون بالأبوين ومن ثم ينقلون عنهم العصبية والتوتر وسرعة الاستثارة. وعلى ذلك لا بد أن نشير إلى أنه يتحتم على الآباء نسيان مشاكلهم التي يواجهونها خارج المنزل حتى ينال الأطفال القسط الوافر والضروري من الهدوء والسكينة والاتزان.
الإفراط في تدليل الأطفال
يؤدي تدليل الأبوين للطفل إلى ظهور نوبات الغضب والعناد، والتدليل ينطوي على إجابة كل مطالبه ورغباته الممكن منها وغير الممكن، المهم منها وغير المهم، وعلى ذلك فالطفل لا يتعود تأجيل هذه المطالب والرغبات. وفي تطور آخر يتوقع
الطفل أن البيئة سوف تجيبه أيضا إلى ما يصبووما يريد فيعتقد مثلا أن المدرسة سوف تجيبه إلى ما يريد من رغبات دون تباطؤ أو تأجيل كما كانت تفعل أسرته، ولكن حينما تقابل رغباته بنوع من المنع أو الإعاقة تكون الصدمة شديدة وقاسية، ولها مضارها النفسية العميقة فيلجأ
الطفل بطبيعة الحال إلى الغضب والعناد والتوتر.
وتدليل الأطفال وإيثارهم على نحومبالغ فيه يعني أننا لا نؤهلهم التأهيل الصحيح لمجابهة الحياة بكل مصاعبها. وتعرض
الطفل لقدر بسير من الإحباط - الذي يقصد به تأجيل بعض المطالب والرغبات لتشبع في حينها، حيث إننا لا يمكننا أن نتصور حياة بلا إحباط، أولا يمكن أن نتخيل أنه يمكننا تحقيق كل رغباتنا ومطالبنا في وقت واحد يفيد هيده في مجابهة الحياة. كما أن هذا التأجيل يقوي في
الطفل جهاز الأنا حسب نظرية التحليل النفسي "فرويد" حيث إن الأنا هو الجهاز الذي يكبح جماح الشهوات والغرائز والمسئول عن تأجيلها إلى الوقت المناسب لتشبع في حينها فيتكيف الفرد تكيفا سليما مع البيئة الخارجية المحيطة به. والطفل المدلل يشب فردا أنانيا يرى نفسه فقط، ولايستطيع أن يدخل الآخرين في حيز حياته أو اعتباره، يثور ويغضب كلما عجز عن تحقيق رغباته وأهوائه، يتمركز حول ذاته، مقتنعا بأن الكل سيلبي ما يريده، والأطفال جميعا يمرون بفترة من عمرهم يميلون فيها إلى "إثبات الذات" وأحد مظاهره "العناد". ويقرر علماء النفس أن
الطفل الذي لا يمر بفترة يثبت فيها ذاته وشخصيته طفل غير سوي.
والعناد الطبيعي غير المبالغ فيه مرحلة طبيعية من مراحل النموالنفسي للطفل، وله أهمية كبيرة في حياة
الطفل سوف نوجزها في التالي :
1) يساعد
الطفل على الاستقرار واكتشافه الفريد لنفسه.
2) يساعد
الطفل على إدراك أنه شخص له كيان وذات مستقلان عن الآخرين.
3) يكتشف
الطفل أن له إرادة حرة وهذا يكسبه صفات الفردية والاستقلال.
ومع مرور الوقت، ووصولا إلى مراحل النضج يكتشف
الطفل أن العناد والتحدي ليسا هما الطريقين السويين لتحقيق مطالبه وغاياته بما يحقق له الرضا والسعادة، فيتعلم العادات الاجتماعية السوية في الأخذ والعطاء، ويتفهم أن التعاون يفتح له آفاقا جديدة في الحب والإيثار وعلى الأخص لوكان الأبوان يعاملان
الطفل بالمرونة والتفاهم والمودة. والطفل ينتقل من مرحلة العناد والتشبث إلى مرحلة الاستقلال النفسي في الفترة من الرابعة إلى السادسة من عمره، وكلما كان الأبوان على درجة مقبولة من الصبر والتفاهم مع
الطفل ساعداه على اجتياز هذه الفترة