الجريمة في أصل مفهومها الواقعي الاجتماعي! هي ذلك السلوك الإنساني الذي يتضمن عدوانا على الحقوق أو انتهاكا للقيم والأخلاق الاجتماعية الثابتة. فالفعل الإجرامي في معناه العام يمثل عدوانا على الأشخاص والأموال! أو انتهاك القيم والآداب الاجتماعية.
وكأصل عام أنه بعد التثبت من إسناد الجريمة لمرتكبها توقع عليه عقوبة جنائية وفقا لما ترصده المدونة العقابية لكل جريمة فيما يشبه قائمة التسعير! والغاية من العقوبة هي إرضاء الشعور العام بالعدالة بإصلاح الأذى الذي تحدثه الجريمة في الضمير الإنساني. وعلى نحو آخر ينبغي أن يكون العقاب متناسبا مع ما تمثله كل جريمة من الضرر.
وظيفة العقاب
للعقاب مفهوم كلاسيكي محدد. فهو في أصل معناه الجزاء أو المقابل أو عدل الجريمة! ووظيفته وفقا لهذا المفهوم الأصيل هي تحقيق العدالة! أي أنها وظيفة أخلاقية! والعدالة في الشرائع القديمة وشرائع العصر الوسيط كانت عدالة دينية في الغالب! وهذا يفسر ما كانت عليه العقوبات من إيلام وقسوة! باعتبارها مقابل الخطيئة أو الذنب! فشاعت ـ كنتيجة لذلك ـ عقوبة الإعدام والعقوبات البدنية! ولم تخف حدة العقاب وقسوته إلا في العصور الحديثة! عندما خفت وطأة الاعتبار الديني وتغلب اعتبار "الأخلاق الاجتماعية" التي أحلت فكرة الخطأ محل فكرة الخطيئة. فعلى أثر تطور الفكر الجنائي وفلسفته خاصة بعد منتصف القرن الثامن عشر الميلادي! وحيث نودي بالقيمة النفعية للعقاب! أضحت وظيفة العقوبة مزدوجة! فهي أخلاقية اجتماعية لتحقيق العدالة الإنسانية! وهي كذلك نفعية سياسية للمنع الخاص والعام في وقت معا. وجدير بالذكر أن أهداف العقوبة قد تطورت تطورا ملحوظا وسريعا ابتداء من الربع الأخير من القرن الماضي! وذلك على صدى فلسفات أساطين الفكر الجنائي! إذ رئي إخضاع المجرمين إلى نظام "تدابير الأمن" الإقصائية والوقائية والعلاجية والتقويمية أو الإصلاحية ـ بحسب حالة كل مجرم وما يسفر عنه البحث في دوافعه إلى الإجرام ونصيبه من الخطورة ـ بديلا من "العقوبات التقليدية"! والسائد الآن أن أغلب المدونات العقابية تضم التدابير غير العقابية إلى جوار العقوبات بمعناها التقليدي. ومن المعروف أن فكرة "التدابير غير العقابية" قد تسربت بالفعل إلى التشريعات الجنائية العربية منذ بداية هذا القرن! فإلى جوار العقوبات التقليدية كالإعدام والعقوبات السالبة للحرية والغرامة! توجد التدابير غير العقابية! كما في معظم القوانين الغربية مثل عقوبة الإيداع في "محل خاص"! بالنسبة لمعتادي الإجرام! وعقوبة "الوضع تحت مراقبة الشرطة" المقررة لطائفة المتشردين والمشتبه بهم.
المعاملة العقابية
المسئولية الجنائية لا تُحمل إلا لمن بلغ سن الرشد الجنائي! أما الصغار والمراهقون فلا سبيل لمساواتهم بأقرانهم من البالغين! وإلا اصطدم ذلك بأصل من أصول السياسة الجنائية المعاصرة! والتي استبعدت الأحداث عن دائرة الخطورة الإجرامية! باعتبار أن الأخيرة تصدق فحسب على البالغين! مما يسوغ إخضاعهم للعقوبات والتدابير السابقة بغرض الدفاع الاجتماعي! والذي تضم مبادئه لزوم النظرة التربوية للمجرمين الأحداث! وذلك على نحو خاص.
والأحداث، طبقا للنظريات التربوية، يتوقع دائما تقويمهم ماداموا بعد في طور النمو والتشكل! ومن هنا اقترح للجانحين من
صغار السن تدابير خاصة ذات طابع تعذيبي وتربوي! بهدف إصلاحهم لإنقاذهم من السقوط في وهدة الإجرام! وهم بعد بحكم سنهم أكثر استعدادا للتهذيب والإصلاح! فالعقوبات بالمعنى الصحيح لا تفلح بيقين في تحقيق هذا الهدف! بل إنها أدعى في كثير من الأحيان إلى تثبيت نزعة الإجرام في نفوس الأحداث بدلا من انتزاعها منهم! وذلك بفعل العدوى من مخالطة الأشقياء في السجون.
وعموما يكون لجسامة التصرف الإجرامي للحدث صداه في تحديد التدابير الواجبة التطبيق! فإذا صلح "تدبيرا" "التوبيخ" و"التسليم للوالدين أو لمن له الولاية" بالنسبة للوقائع التي تشكل مخالفات أو جنحا معاقبا عليها بالغرامة فحسب! فإنه ـ على النقيض ـ لا يصلح هذان التدبيران مع الحدث إذا ارتكب جناية أو جنحة مشددة. ومن ثم دفعت الحاجة إلى تدابير أخرى توفي بأغراض السياسة الجنائية التربوية المعاصرة! ومع مراعاة اتباع إجراءات خاصة لمحاكمة الحدث أمام قضاء متخصص! يتعرض للتدابير الجائز تطبيقها على الصغير! بحسب التدرج التالي:
ـ التوبيخ: حيث يوجه القاضي اللوم والتأنيب في الجلسة إلى الحدث على ما صدر منه وحثه على السلوك القويم! والحقيقة أن هذا التدبير قد يكون من أنجع الوسائل في بعض الحالات! وتجدر الإشارة إلى أن النظم المعاصرة تجيز للقاضي اختيار هذا التدبير ولو لم تكن الواقعة المسندة للحدث في مواد المخالفات! بل كانت الجريمة من نوع الجنح أو حتى الجنايات.
ـ التسليم للوالدين أو من في حكمهما: من الناحية النظرية هذا التدبير أقرب إلى طبيعة الأمور! لأن هؤلاء هم أعرف الناس بالحدث وميوله ونزعاته! وأكثرهم شفقة عليه ورغبة في تقويمه! والمطالبون شرعا بالعناية به وتربيته! وهم لهذا كله أقدر على محاولة إصلاح الجانح الصغير متى سلم إليهم! ولكن ظروف واقعنا الاجتماعي تجعل هذا التدبير عديم الجدوى في معظم الأحيان.
ـ الاختبار القضائي: ويُعد من التدابير غير العقابية ويطبق أساسا على الكبار! ومقتضى هذا الإجراء أن القاضي يوقف النطق بحكم الإدانة لمدة معينة! يخضع الشخص خلالها للإشراف والقيود التي يحددها القاضي! فإذا اجتاز فترة الاختبار بنجاح اعتبرت الدعوى كأن لم تكن! أما إذا فشل في الاختبار فيعرض الأمر على القاضي الذي يجوز له إعادة محاكمته ليقضي عليه بالعقوبات. وعند تطبيق نظام الاختبار القضائي على الأحداث! يتخيرالقاضي تدبيرا بديلا مما سيأتي. والملاحظ أنه ومنعا للخلط بين العقوبات التي توقع على الكبار والتدابير اللازمة للصغار! قد أفردت النظم الحديثة قواعد خاصة بالاختبار القضائي لصغار السن! تحكم ضوابط هذا التدبير في مواجهة الأحداث! فلا يطبق عليهم النظام الموضوع للبالغين الكبار.
ـ الإلزام بواجبات معينة: وهو تدبير تربوي مؤداه حظر ارتياد أنواع من المحال أو بغرض الحضور في أوقات محددة أمام أشخاص بذواتهم أو هيئات معينة! أو المواظبة على بعض الاجتماعات التوجيهية! ويقع هذا التدبير لمدة محددة بطبيعة الحال.
ـ التدريب المهني: ويكون تدبيرا عمليا غايته أن يعهد القاضي بالحدث إلى أحد المصانع أو المتاجر أو المزارع التي تقبل تدريبه! ولعل هذا هو أنسب التدابير في مثل مجتمعنا العربي! فالحدث يقضي مدته! والتي تكون موقوتة فينهل من خبرات النشاط الذي يمارسه! والتدبير من هذا النوع فعّال بالنسبة للغالبية العظمى من الأحداث الجانحين والمشردين! ولا حاجة به إلى منشآت خاصة مما يتطلب كثرة الإنفاق. ولا يعيبه إلا الشك في وجود المصانع أو المتاجر أو المزارع الخاصة التي تقبل تدريب الصغير. فلا يبقى إذن ليكون هذا التدبير قابلا للتطبيق فعلا إلا أن تحدد الأمكنة التي يعهد إليها بالحدث لتدريبه.
ـ الإيداع في دار للتربية أو معهد للتأهيل: واللجوء إلى هذا التدبير غالبا ما يتخذ حيال الحدث مرتكب الجنايات أو الجنح المشددة ويصح في حالات التشرد كذلك! وقد تمتد مدة الإيداع إلى سنوات عديدة. ومقتضى ذلك التدبير أن للقاضي الحكم بإيداع الحدث إحدى دور التربية المعدة لرعاية الأحداث التابعة للدولة! أو الدور الخاصة الخاضعة لإشرافها. وإذا كان الصغير ذا عاهة يكون الإيداع في معهد مناسب لتأهيله. وينبغي على الجهة التي أودع بها الحدث أن ترفع تقريرا دوريا للقاضي عن حالته وسلوكه.
ـ الإيداع في مأوى علاجي: حيث يودع الصغير في منشأة صحية مخصصة لهذا الغرض ليلقى العناية التي تدعو إليها حالته.
ـ إشراف مراقب السلوك ورقابة قاضي الأحداث: إن أكثر ما يعيب تدبير "التسليم" إلى الوالدين أو من في حكمهما هو أنه تدبير سلبي في النهاية! من حيث إنه يعيد الصغير إلى بيئته العائلية دون أي ضمانة لرعايته وتهذيبه! إلا إذا كانت هناك عقوبة على المتولين أمره إذا أهملوا رعايته فعاد إلى ارتكاب الجريمة أو عاد إلى حالة التشرد! وهي ضمانة عاطلة من أي قيمة فعلية. ومن ثم قامت الحاجة إلى "مراقب السلوك"! ويتولى الإشراف على تنفيذ تدابير التسليم والاختبار القضائي والإلزام بواجبات معينة والإلزام بالتدريب المهني! وملاحظة تربية الحدث المحكوم عليه بها! وتقديم الإرشادات له وللقائمين على تربيته. ويعتبر من الإيجابيات المتطلبة كذلك أن يفرض قاضي الأحداث رقابته على تنفيذ التدابير! بحيث يجب على مراقب السلوك أن يرفع إلى القاضي تقارير شهرية عن الحدث الذي يتولى أمره أو الإشراف عليه. كذلك يُرفع للقاضي تقارير الأطباء عند إيداع الحدث في مأوى علاجي! وقد يرى إخلاء سبيله إذا تبين له أن حالته تسمح بذلك.
المسئولية
وختاما فإن المفهوم العلمي الاجتماعي للسياسة الجنائية اقتضى معاملة الأحداث عقابيا معاملة فريدة تتفق مع المنطق الحديث الذي يقتضي أن يعامل المجتمع هؤلاء الصغار! كما لو كان هو المسئول عن انحرافهم! فيتخذ حيالهم من تدابير التربية والرعاية والتأهيل الاجتماعي ما هو واجب عليه بالنسبة لهذه الطائفة من أبنائه في كل الظروف! أي بغض النظر عن ظرف "الانحراف". ومن المتصور أخيرا أن يجزم القانون بإيضاح
السن الذي يكون عليه اعتبار الشخص حدثا! ويبدو أنه من غير المقبول ـ كما ذهبت بعض القوانين ـ أن يطلق على من يتجاوز سن العشرين حدثا! وإلا انتفت كل قيمة لأغراض المعاملة العقابية الخاصة لصغار السن