العولمة التي أصبحت دارجة في الأدبيات مازالت تعاني من بعض الغموض, وهي حتما ليست واضحة كل الوضوح. فهناك غموض فيما يتعلق بمعنى
العولمة وبحقيقتها, فهل هي ظاهرة حياتية جديدة مرشحة للاستمرار والبقاء أم هي مجرد موضة فكرية طارئة ومصيرها الزوال? هل هي حركة تاريخية ستستمر في النمو أم هي فقاعة من الفقاعات التي ولدت لتموت? ثم إن هناك غموضا إضافيا فيما يتعلق بإفرازات ونتائج
العولمة عموماً ومترتباتها بالنسبة للواقع العربي بشكل خاص.
فهل
العولمة حالة صحية أم مرضية? هل هي حركة استعمارية أم تحررية? هل ستصب في سياق تحرير طاقات وقدرات الشعوب والمجتمعات أم ستعمل على تعميق التبعية والهيمنة للدول المهيمنة? وأخيراً ماهوالموقف الصحيح من العولمة? هل المطلوب الانغماس أم الانكماش في وجهها? هل ستحتوينا أم سنحتويها? هل ستزيدنا تقدما أم ستضاعفنا تأخراً?
ربما كان من السابق لأوانه تقديم إجابات جازمة للتساؤلات العديدة التي تطرحها. فالواضح أن
العالم لايزال في بدايات لحظة العولمة. والبدايات عادة ماتثير من التساؤلات أكثر مما تعطي إجابات واضحة. كما أن لحظة
العولمة تبدو وكأنها مليئة بالفرص التاريخية الكبرى والمغرية ومليئة أيضاً بالتحديات والمخاطر العالمية الحقيقية. فرص
العولمة كثيرة ومخاطرها كثيرة والموقف تجاهها ليس بالضرورة واضحاً كل الوضوح.
الواضح الوحيد أن لحظة
العولمة ليست ثابتة ومستقرة. بل مزدحمة بالتحولات الكبرى التي ربما تفوق كل ماحدث من تغير في التاريخ خلال الـ 2000 سنة الأخيرة, إن التحولات المصاحبة لبروز لحظة
العولمة عميقة وسريعة حتى بمعايير عصر السرعة, لم يعد بالإمكان التحكم في سرعة الأحداث والتطورات الحياتية, كما أخذ يتضح أن الجهاز العصبي والذهني للإنسان المعاصر في كل مكان قد أصبح عاجزاً عن متابعة ومجاراة وفهم التحولات الحياتية والفكرية التي تتدفق خارج سياق أي تحكم بشري.
أبرز المعالم
هذه السرعة في المستجدات العالمية هي واحدة من أبرز معالم
العولمة وهي التي ستجعل منها مجرد لحظة من لحظات التاريخ الحضاري. وهي مجرد لحظة مهما طالت أو قصرت. لقد سبقتها لحظات وستتلوها لحظات أخرى. إن
العولمة هي مجرد فصل من فصول التاريخ الحضاري العالمي, لكن هذا الفصل لم يكتب محتواه بعد, بل هو الآن قيد الكتابة. إنها عنوان هذا الفصل الجديد الذي لايعرف بعد مضمونه بالكامل حتى لدى من يبدو الآن وكأنه يكتب الكلمات والفقرات الأولى في فصله ويعمل الفكر من أجل تفسير بداياته ونهاياته.
فمؤلفات ككتاب (نهاية التاريخ) لفوكوياما وكتاب (صراع الحضارات) لهنتجتون وكتاب (صعود وهبوط الإمبراطوريات) لبول كندي وكتاب (الموجة الثالثة) لتوفلر وكتب أخرى من تلك التي برزت خلال السنوات الأخيرة تأتي ضمن سياق المشروع الفكري في الدول المتقدمة لفهم طبيعة اللحظة الحضارية المستجدة واستكشاف آفاقها وفرصها وتحدياتها ومساراتها المستقبلية المحتملة. جميع هذه الاجتهادات تحاول استيعاب التحولات التي يعيشها
العالم حالياً والتعرف على القوى الدافعة لها والتي تؤسس للحظة الحضارية الراهنة بكل فرصها وتحدياتها المتداخلة وذلك من أجل الاستفادة من الفرص والتقليل من المخاطر المحتملة. هذه الكتابات تشكل درجات عالية من الوعي باللحظة الحضارية القائمة. تليها بعد ذلك مجموعة من الكتابات التي لاتخرج عن نطاق ردود الأفعال المهمة وغير المهمة والتي لاتضيف أي جديد حضاري لأنها في مجملها انفعالات وخطابات عاطفية صادرة إما عن سوء فهم أو عن ضعف فكري يحمل كل عوارض عدم القدرة على مجاراة المستجدات الحياتية والفكرية التي تؤسس للحظة العولمة.
استيعاب الواقع
العولمة هي لحظة من لحظات التاريخ الحضاري العالمي. هذه اللحظة متداخلة أشد التداخل لكنها ليست بالضرورة كلها شراً مطلقاً. فالعولمة ليست حركة استعمارية جديدة وهي ليست مصدراً جديداً يهدد الذاتية الحضارية للشعوب وبهدف القضاء على الهوية القومية أو استبدالها بهوية إقليمية وجيوبوليتكية. وهي ليست جهازاً للهيمنة على العقول من قبل الدوائر والمؤسسات الدولية الحاكمة يسعى لتوحيد
العالم تحت هيمنة السوق. كما أنها ليست معنية بتحويل
العالم إلى قرية كونية تتحكم بها الأجهزة الإعلامية الإمبريالية وتهدف إلى أمركة
العالم وترسيخ الهيمنة الأمريكية.
هذه ليست العولمة, بل إنه لايمكن التعامل مع الحقائق العالمية الجديدة بمثل هذه العقلية التآمرية وبمثل هذه الآراء التبسيطية والمخلة في البساطة. هذه العقلية مضادة للعولمة وتفتعل المعارك غير الضرورية وتتجه ضد حركة التاريخ ولن تحقق سوي المزيد من الإخفاقات والهزائم. إن
العولمة تتطلب حتماً تجاوز هذه العقلية السوداوية واستبدالها بعقلية علمية وعقلانية وواقعية تستوعب الواقع والوقائع الحياتية وتعمل على تجاوزهما.
إن
العولمة هي في جوهرها حركة تاريخية وليدة ومازالت قيد التأسيس. هذه الحركة شبيهة في بداياتها وربما في تداعياتها الحياتية والفكرية بحركة الحداثة التي برزت قبل حوالي 300 سنة والتي انتشرت إلى كل المجتمعات وأسست لمفاهيم وقناعات ونظم حديثة. وهي استمرار واكتمال لموجة الحداثة الأولى وتجاوز لها في اتجاه
دمج العالم وتوحيده اقتصادياً وسياسياً وحضارياً.
لقد أصبحت
العولمة أكثر وضوحاً على إثر التحولات والتطورات الحياتية والفكرية التي شهدها
العالم خلال الآونة الأخيرة. وجاءت هذه التحولات متدفقة وفجائية وتأسيسية.
كما جاءت فاصلة للحظة تاريخية أوشكت على الانتهاء هي لحظة الحداثة الأولى ومؤسسة للحظة حضارية مختلفة سياسيا واقتصاديا وعلميا ومعرفيا عما كان قائماً حتى الآن.
والعولمة في شقها السياسي هي محصلة للتحولات في النظام السياسي العالمي الذي شهد انهيار دولة عظمى واستفراد قوة عظمى أخرى بالشأن السياسي العالمي دون وجود منافس حقيقي يعيد التوازن للساحة السياسية الدولية, وهي في شقها الاقتصادي محصلة لبروز التكتلات التجارية العالمية الكبرى والتغيرات العميقة في سوق العمل وأساليب الإنتاج وبروز القوى الاقتصادية والصناعية الجديدة والسريعة النمو. كما أنها في شقها الإنساني تتمحور حول مجموعة القضايا الإنسانية المشتركة كقضية الانفجار السكاني والفقر والمجاعة والمشكلات البيئية العالمية المعاصرة وقضية حقوق الإنسان وحرياته السياسية والمدنية وقضية تفاقم الفجوة بين الشمال الغني الذي يزداد غنى والجنوب الذي يزداد فقراً. أما
العولمة في شقها العلمي والمعرفي فإنها تستمد حيويتها الحقيقية من الثورة العلمية والمعلوماتية التي أخذت تكتسح
العالم بمعطياتها الباهرة في مجالات الهندسة الوراثية وتطوير الأجيال الجديدة من الحاسب الآلي والاقتراب من أصغر الجزئىات المكونة للمادة والغوص عميقاً في الكون والمستجدات المعلوماتية والاتصالية التي توشك أن تفتح آفاقا معرفية لامتناهية للإنسان المعاصر.
قلق
العولمة
لقد أسست هذه التحولات السياسية والاقتصادية والعلمية والمعلوماتية للحظة حضارية جديدة هي لحظة
العولمة التي تزامن بروزها مع اقتراب التاريخ من ألفيته الثالثة. والتي هي أكثر من لحظة. فهناك
العولمة السياسية والعولمة الاقتصادية والحضارية والعلمية والثقافية والبيئية والفكرية. إنها لحظة متداخلة أشد التداخل ومليئة بكل الاحتمالات المقلقة, خاصة إذا كانت تعني تزايد انقسام
العالم اقتصادياً إلى دول غنية تزداد غنى ودول فقيرة تزداد فقراً. وهي مقلقة إذا كانت تعني تزايد هيمنة ثقافة واحدة ووحيدة وقيامها بتهميش الثقافات الحية الأخرى في العالم. وهي مقلقة إذا كانت تعني المزيد من التطورات في الهندسة الوراثية وهندسة الجينات التي تستفز القيم والأخلاقيات الإنسانية السائدة. وهي مقلقة إذا كانت تتجه نحو صدام الحضارات الذي ربما أدى إلى اندلاع حروب أكثر عنفاً ودموية من كل الحروب التي شهدتها البشرية. وهي مقلقة إذا كانت تدفع في اتجاه المزيد من اغتراب الإنسان المعاصر وعدم قدرته على التحكم في التحولات وعجزه عن مسايرة المستجدات الحياتية والفكرية السريعة والمتلاحقة. وهي حتماً مقلقة إذا كانت تتضمن استفراد الولايات المتحدة بالشأن العالمي الأمر الذي يعني أنها ربما كانت مجرد تعبير آخر لأمركة العالم.
عالم أحادي
مهما كانت حقيقة
العولمة فمن الواضح أنها تتطلب عقلية جديدة. إن المطلوب عقل جديد لعالم جديد. لقد انهارت دول وتفككت دول عظمى وتغيرت المسلمات والثوابت الراسخة والمقدسة. كان
العالم في يوم من الأيام ثنائيا وأصبح فجأة أحاديا وربما تعدديا. كان
العالم يعيش عصر الصراعات المزمنة وأدخل الآن إلى عصر التسويات المقبولة وغير المقبولة. كان
العالم يعج بالأنظمة الفردية والدكتاتورية وأصبح اليوم وربما أكثر من أي وقت آخر يؤكد على حقوق الإنسان وحرياته, غارقاً في الهم النووي ويحكمه سباق التسلح النووي, لكنه اليوم أمام خطر التلوث البيئي الذي يزداد تفاقماً ويهدد الحياة على الكرة الأرضية الفريدة من نوعها. كانت البشرية تعيش في كنف النظام العالمي القديم وانتقلت بسرعة الضوء إلى رحاب النظام العالمي الجديد حيث عالمية التفكير وعالمية القضايا والحقوق والإنجازات وعالمية النجاحات والإخفاقات.
لايمكن التعامل مع هذه المستجدات الحياتية والفكرية سوى بعقلية جديدة قائمة على أسس معرفة جديدة ومسلمات ومفردات فكرية وأدبية وفنية متجددة بتجدد الوقائع والمعطيات العالمية. لايمكن التعامل مع حقائق التسعينيات بشعارات الستينيات, ولايمكن فهم نهايات القرن بلغة بداياته. كما لايمكن الإعداد للمستقبل بالعودة للماضي. ولا أن نكون فاعلين ومؤثرين في النظام العالمي الجديد من خلال التمسك بثوابت النظام القديم, وأيضا لايمكن مجاراة العالمية بالتعصب للذاتية الحضارية, أو تحدي
العولمة بالقوقعة, ولا الانكفاء والانكماش في عصر الانفتاح والانغماس.
لقد أصبحت العولمة, بكل فرصها وتحدياتها, إحدى الحقائق المعاصرة, الغامضة والتي تثير المشاعر المتباينة التي تتراوح بين المرحب كل الترحيب والرافض كل الرفض وتلك المواقف الوسطية والتوفيقية بينهما. فالعولمة طرحت من جديد نفس التساؤلات التي طرحت قبل أكثر من حوالي 200 سنة والتي مازالت مستمرة حتى الآن والمتعلقة بكيفية العامل مع الحداثة والحضارة الغربية. وبرغم اختلاف الظروف والمعطيات الحياتية والفكرية فإن الموقف عموماً لايخلو من الراغبين في الاستفادة من فرص
العولمة الواضحة وبالتالي الدعوة للانغماس, وموقف الراغبين في تجنب مخاطرها الواضحة أيضاً وبالتالي الدعوة للانكماش. وهناك دائماً الموقف الوسط والمستقل بين الانغماس والانكماش وهو في جوهره موقف (الانغماش) الذي يمثل خليطاً منهما.
ثلاثة مواقف
والحقيقة أن لكل موقف من هذه المواقف الثلاثة حسناته وسيئاته. ويبدو أن من اختار الانغماس أو الانكماش أو (الانغماش) على حق. فلا الانغماس أرقى سياسياً ولا الانكماش أرقى أخلاقياً من الانغماش والعكس صحيح. لايمكن أخلاقياً أو سياسياً اعتبار أي موقف من هذه المواقف أكثر صحة أو رقياً. من اختار الانغماس ليس بالخائن ولا بالمنحل, الانغماس أسلوب مشروع من أساليب التعايش مع الوقائع المعاصرة. ومن اختار الانكماش ليس بالضرورة سلفيا أو ماضويا أو متخلفا. الانكماش هو الآخر خيار حر من الخيارات العديدة للتعامل مع التطورات الحياتية. ومن (انغمش) اختار أيضاً الأسلوب الذي يعتقد أنه الأسلوب المناسب للتعامل مع اللحظة الحضارية القائمة. هذه المواقف الثلاثة ستظل قائمة ومن حق كل موقف أن يتبنى قناعاته الخاصة وليس من حق صاحب أي موقف تخوين أو تكفير أو نفي الموقف الآخر.
المطلوب أن تتعايش هذه المواقف والتيارات وتتجاوز حواراً سلمياً وحضارياً ضمن مناخ حر وتعددي وديمقراطي دون أن ينفي أحدها الآخر. إن المطلوب إجراء حوارات على أرض الواقع بين أصحاب هذه المواقف والتيارات التي تسعى للقضاء على بعضها البعض. لايمكن تخيل في أي لحظة من اللحظات أن يصبح كل أفراد المجتمع منغمسين أو منكمشين أو (منغمشين). من الممكن جداً أن يزداد التوجه نحو الانغماس أو الانكماش أو (الانغماش). المعطيات الحياتية هي التي تحدد مدى انتشار أو تقلص هذا الموقف أو ذاك. ومن الممكن بل من الطبيعي أن يصبح المنكمش اليوم منغمساً أو (منغمشاَ) غداً والعكس صحيح. وقد يجد المنغمس أنه أكثر انغماساً في فترة من الفترات والمنكمش أكثر انكماشا و (المنغمش) أكثر (انغماشاً), كل ذلك ممكن ومتوقع ومقبول.
ينبغي أخيراً وفي سياق خصوصية الثقافة العربية الإسلامية, الإشارة إلى أن أي موقف من المواقف الثلاثة السابقة لايعني على الإطلاق أن صاحب هذا الموقف هو أقل أو أكثر عروبة أو إسلاماِ من صاحب المواقف الأخرى. فلا المنغمس أقل عروبة أو إسلاما ولا المنكمش أكثر عروبة أو إسلاماً كما أن (المنغمش) ليس هو أكثر فهماً لحقيقة عروبته وإسلامه, فالعربي المسلم مهما كان منغمساً أو منكمشاً أو منغمشاً فإنه سيظل عربياً ومسلماً, فالشكل قد يختلف بيد أن المضمون العربي الإسلامي سيظل باقياً وستظل الثقافة العربية الإسلامية حية ومتفاعلة تفاعلاً انغماسياً أو انكماشياً أو (انغماشياً) مع
العولمة أو أية لحظة حضارية أخرى. لذلك فإن الخلاف الحقيقي هو ليس مع
العولمة أو الحداثة أو مع الغرب أو الآخر أو الخارج. الخلاف هو في ومع الداخل أي فيما بيننا ومع أنفسنا ومواقفنا المختلفة القناعات والمنطلقات والمصالح. ينبغي أن نعترف ونحترم اختلافنا واختلاف مواقفنا ونتعلم كيف نتعايش معه. وعلينا أن نحوله من صراع إلى حوار, ينبغي ألا نعيش نحن من الداخل صراع الحضارات. وعلينا أن نؤسس لرؤيتنا الكونية الخاصة والتي هي حصيلة التفاعل الحي والحر بين المواقف المختلفة في مجتمع عربي يؤمن بالتسامح والتعددية ويتفاعل تفاعلاً إيجابياً مع لحظة العولمة