حين رأيتك لأول مرة أدركت أنك
نجمة فى سمائي، سترشدين روحي الضائعة وتنيرين ظلمائي، لم أكن أعلم أن القدر غادرا، تبا لغبائي، حرمني منك، فكتب بأحرفه نهاية قصتي وفنائي.
البداية
وقفت تتطلع إلى البحر بعيون شاردة، تتطاير خصلاتها البنية الناعمة خلفها بينما يربت النسيم على وجهها، تتأمل هذا المكان الذى حمل إليها ذكريات ماض قد يبدوا بعيدا ولكنه أقرب مايكون فى مخيلتها، فهنا بدأت قصة وإنتهت قصة، وبقيت فقط... مرارة الذكرى.
فى هذا المكان، وقفت تظن أن حياتها قد إنطوت مع هذا الماضى الأليم،وتوقف بها الزمن....
فى هذا المكان، ظنت أنها قد دفنت مشاعرها وأحاسيسها بعد أن كان مكان ميلادهم..
فى هذا المكان، ظنت أنها دفنت قلبها إلى الأبد...
ولكنها فى هذا المكان أيضا عاد قلبها للحياة، وتسارعت خفقاته رغما عنها...
أغمضت عيناها وهي تعود بذاكرتها قليلا إلى الوراء، إلى هذا اليوم الذى رأته فيه...
رواية
نجمة في
سمائي للكاتبة شاهندة الفصل الأول
أغمضت عيناها وهي تعود بذاكرتها قليلا إلى الوراء، إلى هذا اليوم الذى رأته فيه...
هنا... تحديدا فى هذا المكان الذى تقف به الآن، كانت تطالع تلك البقعة التى تذكرها بألمها وجرحها القديم، زيارتها لهذا المكان دائمة، يذكرها بأن لا تثق بمخلوق مجددا وأن لا تمنح قلبها لأحد، لفت إنتباهها فى البداية صوته الحاد وهو ينهر أحدهم، إلتفتت تطالعه بعينين ثاقبتين، فرأت سائق سيارته على مايبدو، يقف عاجزا عن مساعدته، بينما يمنعه رب عمله من التقدم معه أكثر من ذلك، ليدير عجلات كرسيه بصعوبة متجها إلى البحر، عقدت حاجبيها وهي تتأمله، لم تتبين ملامحه فى البداية، فقد كان يخفيها هذا الكاب الذى يضعه على رأسه، ولم تود الإقتراب منه أيضا، فيبدو أنه يود العزلة ولا يحب تحديق الغرباء به، توقف أمام البحر تماما، للحظات بدا شاردا وكأنه فى عالم آخر...
وجدت نفسها تقترت منه رغما عنها، لتتوقف وتحبس أنفاسها حين رفع كابه لتظهر ملامحه الوسيمة كاملة، شعر بني، بشرة قمحية ولحية خفيفة، وعيون عسلية رائعة تخفيها بعض الشيئ تلك العبرات التى ظللتها...
إنه يبكي، يبكي ربما على أطلال عشق شهده هذا المكان، تماما مثلها.
يمسك بسلسال يلفه حول يده، يضمه بقوة حتى أنه لم يشعر بأنه قد جرحه وجرحه يقطر منه الدماء...
شعرت بقلبها يتضخم وبمشاعرها التى جمدها الماضي تذوب، شعرت بخفقاتها تعود للحياة، تتفاعل بقوة مع هذا الرجل، كادت أن تهرع إليه، تعالج هذا الجرح بسرعة، فجرحه يدمى قلبها، ولكن ما إن شعر هذا الرجل بوجود متطفلين حوله، حتى وضع كابه على رأسه وإلتفت مغادرا دون أن يلتفت إليها، لتتابعه بعينيها وفيهما انبثقت نظرة تصميم امتزجت بمشاعر عاتية لم تراودها منذ زمن، تقسم أن تصل إليه، تعرف قصته وسبب عبراته التى مزقت قلبها، تقسم أن تشفيه من جراحه وتساعده بكل ماتملك من قوة.. نعم ستفعل بكل تأكيد.
تأملت تلك اللافتة التى كتب عليها (عائلة القشاش)بعينين هادئتين فى الظاهر ولكنهما تحملان بركانا من المشاعر بالداخل، فهي على مشارف بداية جديدة قد يقبع فى نهايتها سلامها أو إحتراقها مجددا باللهيب، أخذت نفسا عميقا تهدئ به خفقاتها المضطربة بجنون، وخطت إلى الداخل بخطوات رشيقة لتستقبلها الخادمة بإحترام، أخبرتها بهويتها وبرغبتها فى مقابلة السيد(عزام القشاش)فأخذتها على الفور إلى مكتبه، طرقت الباب وهي تأخذ نفسا عميقا مجددا، تستعد به لمقابلة العم الذى إن حازت على قبوله إستطاعت بسهولة الدلوف إلى حياة(يحيي)، أما إن فشلت فستخرج من حياته للأبد، وهذا خيار غير مسموح به...مطلقا.
دلفت إلى المكتب حين سمح لها العم بالدخول، لتجده جالسا خلف المكتب، رجل فى أوائل الخمسينات على مايبدو، أشيب الفودين، تحمل عيونه نظرة ثاقبة تخيفها وتثير القشعريرة فى جسدها، تأملها بهدوء للحظات قبل أن ينهض ويتجه إليها يمد يده إليها مصافحا، وهو يقول:
-شرفتي عزبة القشاش يادكتورة ميار، يارب تفضلى معانا علطول ومتمشيش بسرعة زي اللى قبلك.
عقدت حاجبيها وهي تسحب يدها من يده قائلة بإستفهام:
-اللى قبلى !
أشار (عزام)بيده قائلا:
-مع الأسف، مفيش معالج أو معالجة قدروا يستمروا مع إبن أخويا أكتر من أسبوعين، بيطفشهم بأسلوبه.
قالت (ميار)بحيرة:
-وليه بيطفشهم، هو مش عايز يخف ويقدر يمشى على رجليه من تانى؟
تنهد (عزام) وهو يعود لمقعده خلف مكتبه قائلا:
-للأسف مش عايز، حبيبته ماتت فى الحادثة اللى حصله بسببها الشلل النصفى ده، وفى إعتقاده شلله هو عقابه لإنه هو اللى كان سايق وإتسبب فى موتها، وعشان كدة رافض العلاج نهائيا وبيطفش أي حد ممكن يساعده على الشفا.
أطرقت برأسها أرضا تخفى غصة فى حلقها جعلت عبراتها تطفو فى مقلتيها، لتحاول التماسك قدر الإمكان وهي تعاود النظر إلى(عزام)، الذى قال:
-بتمنى متيأسيش بسرعة زي اللى قبلك، وجودك معانا أكيد هيسعدنا كلنا.
إقشعر بدنها ونظراته تحوم حول ملامحها الجميلة، لتنفض إشمئزازها جانبا وهي تقول بحزم ونظرة يملؤها العزم:
-متقلقش حضرتك، قاموسي مفيهوش كلمة مستحيل ولا بعرف الإستسلام، أنا مش همشى من المكان ده غير لما كل حاجة ترجع زي الأول وأحسن كمان.
إبتسم (عزام)قائلا:
-كلام جميل، تحبى تبدأى الشغل من إمتى؟
قالت بهدوء:
-من دلوقتى حالا، ضيعنا وقت كتير .
أومأ برأسه وهو ينهض مقتربا منها قائلا:
-يبقى تعالى معايا أعرفك بمريضك، آخر سلالة القشاش وزينة شبابها يحيي..يحيي عادل القشاش.
ليدق قلبها... بقوة.
كان يجلس على كرسيه فى شرفة حجرته، يتأمل الطبيعة الساحرة بعينين شاردتين، لا شيئ مطلقا قد يحمل له أي قدر من السعادة، ولا حتى هذا المنظر الساحر والذى تطل عليه شرفته، لا شيئ مطلقا قد يعيد إليه الشعور بالكون من حوله بعدما فقد من كانت تلون كونه بألوان الحياة، تمنح له مذاقا خاصا رائعا..
لم يشعر بأنه على قيد الحياة سوى معها وعندما فقدها، فقد كل شيئ، حتى الرغبة بالحياة.
أغمض عيناه، يستحضر صوتها، كلماتها التى كانت تمنحه سعادة لا قبل له بها.
....إنت جنة أنا عشت فيها
....قلبى محسش بالسعادة غير لما عرفتك يايحيي
....انت زي الوطن جوة حضنك بحس بالأمان
....هتفضل فى قلبى مش ممكن حد ياخدك منى...أبدا.
رفع يده يضعها على خافقه يقول بصوت إمتزجت فيه المرارة بالحنين:
-إنتى كمان فى قلبى يا ياسمين، مش ممكن حد هياخدك منى ولا ياخد مكانك ...أبدا.
فتح عيونه على صوت طرقات على الباب ثم دلوف عمه وهو يناديه، أدار كرسيه يدلف إلى الداخل لتتجمد يداه على العجلات وهو يطالع تلك الزائرة التى رافقت عمه، يتطلع إليها بعيون قست نظراتهما وملامح باردة كالصقيع، بينما يقول عمه بنبرة ودودة:
-قرب يايحيي، تعالى عشان أعرفك بالدكتورة الجديدة بتاعتك .
ليشير إلى (ميار)قائلا:
-الدكتورة ميار عبد الفتاح.
كانت( ميار )تتأمله عن كثب، تتشرب من ملامحه الوسيمة، تحاول أن تبدو هادئة قدر الإمكان بينما قلبها يطوف بين مشاعر عاتية، لم تشعر بها منذ زمن، تقاوم بكل قوتها تلك المشاعر حتى تستطيع القيام بمهمتها، تدرك صعوبتها خاصة وهذا الرجل الذى يقبع أمامها جالسا على كرسيه تصلها ذبذبات رفضه الكلي لها واضحة كأشعة الشمس.
أفاقت من أفكارها على صوت (عزام)وهو يشير إلى (يحيي) قائلا:
-إبن أخويا يحيي القشاش، هسيبكم تتعرفوا على بعض براحتكم وأروح أشوف اللى ورايا، هستناكم على الغدا بعد ماتخلصوا.
مال يهمس فى أذن (يحيي)قائلا:
-مش هوصيك يايحيي، الدكتورة دى شكلها طيب وبنت حلال، متضايقهاش.
ثم إستقام يربت على كتفيه قبل أن يومئ برأسه إلى (ميار)، ويغادر الحجرة مغلقا الباب خلفه.
إقتربت (ميار)من (يحيي)بخطوات مترددة، توقفت على مقربة منه وكادت أن تتحدث ولكنها إنتفضت على صوته الغاضب وهو يقول:
-إطلعى برة.
طالعته بصدمة ليكرر هادرا:
-بررررة...
تاااابع اسفل