نظر للبحر و أمواجه بشرود تام، ذهنه يرفض نسيان أو تخطي تلك اللحظة التي رأى بها ابنه في هذه الحالة المريبة، اختطفت انفاسه، وهوى قلبه من شدة خوفه، تذكر وقتها فزعة مالك وسرعة تفكيره بعمل إسعافات أولوية حتى يستطيع أنس التنفس، وبعد محاولات اخرج الصغيرة قطعة من الشبيسي من فمه، واستطاع أخيرًا التقاط انفاسه بعد حرب طويلة يجهل التعامل بها، أما هو فاستغرب حاله، أين عقله!، شل عقله تقريبًا، وبقي شيئًا واحد يتردد بداخله هو أنس، تذكر عناقه الطويل لأنس وكأنه يستمد القوة منه هو، تذكر قبلاته التي أغدق بها الصغير متمتمًا بكلمات يجهلها من حوله ولكن هو يعرف مصدرها، حَقًّا كانت نابعة من داخل أعماق قلبه، زفر بخفة حينما عاد لأرض الواقع بسبب أصوات صياحهم من حوله، وقعت عيناه عليها وهي تتأخذ من مكان بعيد عنه موضوعًا لها، فمعذبته قررت خصامه بعدما قص عليها ما حدث لولدهم، وكالعادة لم تبخل في إيجاد كلمات لاذعة لكي تخبره بإهماله اتجاه صغيرهم!، استغرب موقفها وهجومها حينها، قرر الاحتفاظ بحزنه وضيقه دون أن يتفوه بأي كلمة، مُعطِيًا لها مساحتها الكاملة حتى تعود لرشدها وتقوم بمراضاته...
في الاتجاه المقابل له جلست ماجي بجانب يارا قائلة بغيظ واضح: أنتي يا متخلفه، سايبة جوزك قاعد لوحده ليه! رفعت أنفها رافضة توبيخ والدتها لتقول: ما يقعد أنا زعلانة منه، ده مفكرش يراضيني.
زمت ماجي شفتيها بضيق قائلة: بصي يا يارا غباء مش عاوزه، أنتي لما حكتيلي أنا وقتها سكت، ليه بقى، علشان طبيعي أي أم بتسمع اللي حصل لابنها قلبها هايوجعها وتتخيل حاجات صعبة، بس خلاص ده مكتوب ومقدر لابنك يحصله كده، كلامك بقى اللي قولتيه لجوزك كله غلط..
حولت وجهها اتجاه والدتها وقررت شن هجومها: غلط!، بالعكس هو ده الصح، ماما فارس لازم يفوق ويتحمل مسؤولية أنس ويخاف عليه، فارس مهمل آوي من ناحية أنس وبيعامله بطريقة مش عجباني.. على فكرة أنتي لو متظبطيش معرفش هاعمل فيكي إيه!، أنا ساكتلك من بدري واللي شايلني عنك ماما.. التفت بجسدها صوب مالك قائلة بضيق: انتوا كلكوا عليا بقى!
هز رأسه مؤكدًا حديثه، يُكمل توبيخها: آه، علشان أنتي فعلا عصبتيني يومها، هجومك لما جيتي من بره وعرفتي، كلامك عن إهماله وصل إنك شككتي في حبه لأنس، أنا استغربتك وقتها يا يارا، انتوا المفروض بتحبوا بعض، بس الواضح انه بيحبك أكتر بدليل انه سكت ومش أحرجك قدامنا رغم أنا لو مكانه كنت رزعتك في الحيطة.. وقفت تتحدث بدهشة: أنا قولتله انه مبيحبش أنس..
أنتي قولتي وقتها كلام كتير غلط، واتعصبتي من غير أي حاجة، رغم ان هو اللي شاف منظر أنس، يارا، أنا أول مرة أشوف فارس كده، حرفيًّا كنت حساس انه هايجراله حاجه حتى بعد ما أنس عرف يتنفس كويس، تيجي أنتي بقى بكل بجاحة تسمعيه كلامك ده..
حولت بصرها نحو زوجها وجدته يتجاهل النظر إليها، أكملت والدتها حديثها: وبعدين يابنتي ممكن كان كله يحصل وأنتي قاعدة لوحدك مع ابنك ده شيء وارد فارس بقى هايقول آه أصل أنتي مهملة، مفتكرش.. ترقرقت الدموع بعيناها لتقول بصوت مبحوح: يعني أنا بقى اللي بقيت وحشه!
ربت مالك فوق يدها بحنو قائلًا: محدش قال كده، بس أنتي غلطتي وأنا بوجهك، هجومك كان غلط، كلامك كان أكبر غلط، سكوتك عن الاعتذار بردوا لغاية دلوقتي غلط، ياريت تصححي اللي عملتيه..
أنهى حديثه وأشار لوالدته حتى يتركها وتستطيع هي التفكير بحديثهم بهدوء، أما هي فلاحظت مغادرتهم، ولكن لم تبعد عيناها عنه، عادت بذهنها لذلك اليوم، حَقًّا لا تتذكر أي حديث لها سوى بعض الكلمات وهي تلقى اللوم فوق عاتقه، لا تعلم سبب نسيانها يمكن بسبب شعورها بالخوف على أنس وقتها أم يجبرها عقلها على النسيان حتى لا تتذكر فظاظة حديثها وبشاعته وقتها، زفرت بقوة وهي تتأمل ملامحه الحزينة والشاردة، ليس زوجها، ليس فارس من أحبته، لقد تبدل كُليًّا من موقف، ابتعد عنها وعن أنس حتى تلك الشقة الصغيرة في تلك البناية التي استأجرها مالك لهم جميعًا، يبتعد عنها وينام بعيدًا عنهما بعدما كان لا يستطيع النوم إلا وهي وانس بأحضانه، مسحت دموعهااا وقررت مشاكسته حتى يعود فارسها كما كان، ذهبت لأخواتها وأخذت منهم أنس بعدما كانوا يلاعبونه حتى يهدأ من بكائه، تقدمت صوبه وهي تقول: إن شاء الله يهدى وميكنش زعلان مني أوى..
وقفت بجانبه قائلة بصوت خجول: روح يا أنس لبابي اللي مبيسألش فينا... انحنت بجذعها تضع الصغير بين يدي فارس، منعها فارس من إكمال حديثها أو ما تفعله قائلًا باقتضاب وهو ينهض من مكانه: أديه لأخواتك يمكن يكونوا بيحبوه ويخافوا عليه أكتر مني...
انهى حديثه بنظرة حزينة تحمل مشاعر كثيرة ولكن يغلبها العتاب واللوم، ترك المكان بأكمله وغادر إلى البناية مسرعًا حتى لا ينفجر بها أمامهم، التفت لهم حيث يجلسون وجدتهم يتابعون الموقف عن كثب، تفاقم شعور الضيق والغضب بداخلها بسبب إحراجها أمامهم، ولكن لثواني فكرت ما هو شعوره عندما اتهمته هكذا أمام مالك وندى، وأخيرًا اعترفت بداخلها أن له الحق الكامل في معاملته لها، تجاهلت نظراتهم، وقررت الذهاب خلفه حتى تقوم بمراضاته...
تنفست ماجي أخيرًا، وهتفت بفرحة: مالك طلعت بتفهم الحمد لله... ضحك مالك لوالدته هاتفًا: ماهي بتفهم يا ماما، بس الجلاله كانت واخدها شوية.. انتابها حالة من الضحك قائلة: والله لما حكتلي كنت عاوزة أضربها على بقها المتخلفة دي.. نهرتهم جدة مالك قائلة: بس اسكتوا، مطولتش في الزعل ولا عاندت، وده ان دل على شئ، فيدل ان بنتك بتحب جوزها أوي.. تنهدت ماجي بفرحة ثم قالت: ربنا يهديها بس وتكمل على خير...
يعني إيه، هببتي الدنيا زي يارا كده! تسألت ندى بقلق عندما أخبرتها خديجة ببعض الكلمات وهي تنظر ليارا وفارس... التفتت خديجة لها عندما غادرت يارا المكان قائلة: بصي هو أنا معرفش في إيه، بس عمار بيكلمني على القد مش عادته، ويعاملني معاملة غريبة وده كله بعد ما ناقشته في موضوع المايو بتاع إيلين.. هزت ندى رأسها قائلة: طيب وأنا قولتلك وقتها وأحنا في المول انه مش غلط، وعادي خايف عليها...
هتفت خديجة بضيق: ماشي وأنا اقتنعت وعملت كده، معرفش بقى ماله كل ما أقرب منه وأكلمه يبعد ويعاملني بجفا.. قطبت ندى ما بين حاجبيها قائلة: طب وأنتي تسيبه كده ليه، ما تسأليه، إلا إذا كنت عكيتي في الكلام معاه... وضعت وجهها بين يديها: باين كده عكيت فعلا، بس اعمل ايه انشغلت في موضوع ماما وكنت خايفة اسيبها لوحدها هي واخواتي عشان بابا.. بابكي؟!.
هزت خديجة رأسها لتقول بحزن: أوقات يبعد وينسانا وأوقات يخنقنا باتصالاته ورسايله، غيرنا خطوطنااا، وعمار كلم مالك بعتله حد يهدده انه انه لو مبعدش هايدخل السجن تاني. متقلقيش خير والله!، ومامتك في أمان مش أنتي لسه مكلمها وطمنتك، قومي يالا سيبي إيلين وسيف معايااا وروحي لعمار صالحيه وتعالوا، ويارب يارا تصالح فارس ونتلم ونقعد. ابتسمت خديجة بامتنان قائلة: آوك خلي بالك منهم وأنا هاروح بسرعة وأرجع...
تحركت خلفه في أرجاء الشقة، وهي تقول بمزاح: لأ بقى كده بابي زعلان مننا آوي يا أنس.. وقف فارس زافرًا بغضب، ثم التفت بجسده أمامها يصرخ غير عابئًا لولده أو أي شيء: بس بقي كفاية، مش طايق منك أي كلمة..
اندفع الصغير يصرخ ويبكي دافنًا نفسه في أحضان والدته يستمد منها الأمان بعدما رأى غضب والده لأول مرة، اندفعت هي الأخرى تبكي بانهيار وتبادل أنس العناق، ابتعدت بخطوات مبعثرة للخلف وعيناها ترفضان الابتعاد عن فارس ووجه، تلقي عليه كل اللوم والعتاب والحزن في معاملته لها، راقب خطواتها للخلف بقلق وخاصةً عندما رأى تلك الطاولة الزجاجية الصغيرة خلفها، تناسى غضبه منها واقترب منها بلهفة قائلًا: يارا حاسبي هاتقعي..
مد يده يحاوط خصرها مقتربًا منها، وما أن تلامس رأسها بصدره العريض اندفعت تبكي كالطفلة الصغيرة هاتفه بأشياء غير مفهومه، استطاع هو التقاط بعض الكلمات منها كال ( أسفة أنت السبب بتزعقلي بتكرهني)... لم يستطع إكمال ما بدء به، تخطى مشاعره الغاضبة منها وبدء في محاولة تهدئتها بصوته الحنون: طب متعيطيش، اهدي بقى خلاص...
لاحظ ضربات خفيفة فوق صدره هبط ببصره نحو مصدرها وجد الصغير يقطب جبينه وينظر له بغضب مُسْتَمِرًّا في ضرباته الضعيفة، قهقهه فارس فرحًا لأول مرة يتخلى أنس عن بكائه ويحاول إيجاد طريقة أخرى لتعبير عن غضبه أو حزنه، رفعت رأسها تطالع فارس بتعجب من وسط دموعها، وجدت عيناه متعلقتين بأنس، حولت بصرها نحو الصغير وجدته يضرب والده بضيق بالغ، عضت فوق شفتيها قائلة بصوتها المبحوح: أنس عيب، ده بابي...
لم يفهمها الصغير ولكن مد يده يلمس دموعها المنهمرة فوق وجهها ثم أعاد أصابعه الرقيقة إلى فمه يتذوقها، أبعدت يده بسرعة قائلة: أنت بتعمل إيه بس؟!. ابتسم فارس قائلًا: عيل غبي هو نفسه مش فاهم هو عاوز إيه! نظرت له بحزن قائلة برجاء يحمل عتاب: لو سمحت متشتمهوش! رفع أحد حاجبيه من تحولها السريع فقال: طيب بقيتي كويسة أسيبك أنا بقى!
التفت بجسده وغادر المكان متجهًا للشرفة، تنهدت من بين شهقاتها، اتجهت لغرفتهم مقررة التخلص من أنس أولًا حتى لا يفسد عليها اعتذارها، وبالفعل بعد ساعتين استغرقتهم في إرضاعه ونومه، استطاعت التسلل كاللص خارج الغرفة، اقتربت من الشرفة وجدته يجلس كما هو بملامحه الجامدة والشاردة، الفارق الوحيد هو سجائره التي انتشرت بكثرة فوق الطاولة، وقعت عيناها عليه وهو يلتقط إحدى السجائر التي لا تعرف عددها، مقربًا إياها من فمه، دلفت للشرفة بغيظ واضح ثم جذبتها منه بعنف وألقتها خارج الشرفة: كفاية بقى!
رفع بصره لها يرمقها بتحذير: متتكررش تاني.. ردت عليه بسخرية: مبخفش... احتدت نظراته لها ولكن قابلته بِتَحَدٍّ: هاتكرر، أنا أصلا موضوع شربك للسجاير مش عاجبني، وبعدين الزفتة دي بتقصف العمر يا أستاذ.. الوقحة تقف بكل جرأه وتلقي بتعليماتها عليه، قرر النهوض والابتعاد عنها حتى لا ينفجر بها: ابعدي عني، دور أنك خايفة عليا ده ميتصدقش...
خرج من الشرفة تحت صدمتها، خرجت خلفه تسبقه بخطواتها حتى وقفت أمامه تمنعه من مغادرة الشقة: يعني إيه كلامك، أنا ممكن ازعل بجد. ظهر الامتعاض على وجهه: ما تزعلي.. حاول إزاحتها بيده بعيدًا عنه ولكن استندت بظهرها على باب الشقة ومنعته من الوصول للمقبض، عاد وتحدث بضيق متجنبًا النظر إليها: أوعي..
عرفت السر، نعم هو يتجنب النظر إليها حتى لا يضعف أمامها، ستلعب على هذه النقطة، كلاعبة محترفة أدركت نقاط ضعف خصمها، اقتربت منه مدت يدها تجذبه نحوها من سترته واليد الأخرى تحرك وجهه تجبره النظر اليهااا، تشابكت نظراتهم في حديث طويل لم يقطعه سوى قبلتها المفاجئة فوق شفتيه متمتمة بحب: أنا أسفه يا حبيبي...
انهارت تلك الحصون الواهية داخله، تلك الجملة التي نطقت بها بتلك الطريقة التي أصدرت عنها ذبذبات غريبة اجتاحت كيانه بالكامل، وتلك اللمسة الرقيقة التي سبرت أغواره كالمحترفة جعلته يجذبها نحوه يقبلها بعنف لأول مرة غير مدركًا لتلك العاصفة الهوجاء بداخله، عاصفة من المشاعر المتناقضة لأول مرة تهب بصدره بلا رحمة، جعلته غير واعيًا لعنفه أو طريقته الغريبة في التعبير عن اشتياقه لها أو غضبه منها، انقطعت أنفاسها تحت سطوته، حاولت مجاراته ولكن فشلت، استقبلت هجومه بصدر رحب كاعتذار منها، تخطت قبلاته شفتيها ووجهها، وصولاً لعنقها الذي لثمه أحيانًا بحب وأحيانًا يضع صك ملكيته فوقه، تلوت كالغزال بين يده من حلاوة تلك المشاعر التي ضربت صدرها وخاصة خلايا قلبهااا المسكين، صدر صوتها ضعيف باسمه، جعله يتوقف عما يفعله مشددًا فوق خصلات شعره متمتمًا بأسف: أحم أسف بس..
عانقته باشتياق لجنونه وهتفت بصوت ضعيف: متتأسفش، أنا المفروض أتأسف، والله ما كنت أقصد يا فارس أضايقك... قاطعها بنبرة حاسمة: متحلفيش علشان أنتي كنتي تقصدي فعلًا يا ياراا..
تركها ودلف للشرفة يبحث عن الهواء، حتى تعود رئتيه للعمل بعد تلك العاصفة الهوجاء التي هاجمته بقوة، شعر بها خلفة تقف على أعتاب الشرفة تفرك يدها بتوتر بالغ وتخرج صوتها بخفوت: ده كله كان بسبب خوفي على أنس، أنا توترت يا فارس والله وعقلي صورلي حاجات كتيرة وحشة، حط نفسك مكاني!
التفت بجسده يرمقها بغضب وكأن حديثها هو الفتيل الذي أشعل غضبه ليلتهم عيناها بشراسة: لا مش هاحط عارفة ليه يا يارا، علشان أنا اللي كنت في الموقف، أنا اللي شوفته مش قادر يتنفس وكنت عاجز معرفتش اعمله أي حاجة، بأي حق جاية وتتهميني بالإهمال قدام مالك وندى، وحتى لو قدامي بس أزاي تكلميني كده، وأنا إيه عرفني أنه غلط يأكل شبيسي وشكولاتة وأنه ده مش سنه، أنا معرفش ده كله، انا شفته عاوز حاجة ريحته، اللي أعرفه بقى يا هانم خايفة على ابنك تاخدية معاكي متسبهوش مع أب مهمل زي.
أنهى حديثه وأخرج نفسه بقوة، تلك الأنفاس الغاضبة التي كتمها بداخله أثناء انفجاره والأخرى كانت تتلقى فقط، تتلقى نتيجة أخطائها، لم يسعفها عقلها بأي تبرير، ولم يرحم قلبها من عذاب كلماته...
التفت بجسده مرة أخرى ينظر للبحر وأمواجه المتلاطمة كمشاعره تمامًا التي تتلاطم بداخله بلا رحمة، ما بين الانصياع لصوت بكائها وتخطيه لما فعلته بحقه أو إكمال ما بدء فيه حتى لا تعود وتكرر ما فعلته مجددًا، تسمر فجأة عندما وجدها تهتف بانكسار: يعني احنا كده هانطلق! التفت بجسده مرة أخرى يرمقها بدهشة لما تقوله: نطلق؟!
هزت رأسها ثم حولت عيناها في اتجاهات عديدة وشعور بالضعف يسيطر عليها حتى في نبرتها: آه ما هو معنى أنك مش راضي أصالحك، وبتعاملني كده يبقى عاوز تطلقني، أنا هاقعد أصالحك وأنت رافض، طيب وبعدين يبقى تبعد عن الغبية المتخلفة اللي متجوزها صح!.
استمرت ملامح الدهشة تعتلي وجهه غير مصدقًا لما تقوله، وعندما لم تجد منه أي رد فعل لما قالته، شهقت شهقة مكتومة وهي تضع يدها على فمها تنظر له بصدمة، قطب ما بين حاجبيه لانفعالاتها المتقلبة، حاول فهم ما يدور بدواخلها ولكن عجز عن فهم أنثى قررت أن ترسم بمخيلتها أَشْيَاء غريبة وخاصه وإن كان السبب في حزنها هو زوجها!، لاحظ قربها منه فعاد بخطواته للخلف، وفي ثوان كان يتلقى ضربات ضعيفه منها بقبضتها وعينيها الغاضبة تتوهج كألسنه النيران، حاول أن يمسك يدها حتى يدرك ما يحدث لها، ولكن كانت تبكي وتضربه بقبضتها في صدره تردد كلمات أدرك وقتها أنها أكبر بلهاء في حياته: هاتطلقني، دي آخره الحب...
بس يا غبية أنتي! عادت للخلف بصدمة أكبر قائلة: أنت بتشتمني يا فارس!، لدرجاتي كرهتني!؟ اقترب منها بخطوة واحده مختصرًا تلك المسافة الحمقاء بينهم حتى يلقين تلك البلهاء درسًا قَوِيًّا مستخدمًا نبرة جاهد كثيرًا أن تخرج من جوفه أقل حدة: وأقسم بالله يا يارا لو ما بطلتي جنانك ده لاشيلك وارميكي من هنا، أنتي هبلة ولا مجنونة، هو كل واحد زعلان من مراته شوية يبقى هايطلقها!، وبعدين..
قاطعته بنبرتها المرتجفة: لو سمحت متكملش، صالحني الأول علشان أقدر اسمع كلامك.. أصالحك! ردد خلفها مُتَّهكما لما تقوله، فهزت رأسها تطالعه برجاء، واضعة يدها فوق قلبها: قلبي زعلان منك.
انفلتت ضحكات منه وهو ينظر لهيئتها وعيناها التي ترجوه بالفعل بأن يعود فارسها ليس هذا الذي لا تطيق التعود عليه، وما هي إلا بنت السلطان وما هو إلا فارسها حتى يحقق ما تتمناه أو ترجوه، وما قلوبهم إلا مقيدة بالعشق، تنهد بخفوت وهو يتفرس بملامحها التي اشتاق إليها ولأنفاسها التي تضرب وجهه أحيانًا وصدره أحيانًا فتثير زوبعة من المشاعر بداخله، وجد نفسه يقترب منها ببطء ثم لثم جانب شفتيها برقة متمتمًا بكلمات خافتة ولكنها كانت تخترق أذنها وقلبها بلا رحمة: قلبي مبيعرفش يزعل منك أو يشيل منك أبدًا، ويوم ما بيزعل بيبقى عقلي اللي معصيه!.
هتفت بمزاح لتعود البسمة تزين ثغرها: طيب اعمل إيه ادخل جواك واشيل عقلك ده! غمز لها بطرف عينيه قائلًا: ويرضيكي أبقى من غير عقل!. هزت رأسها بإيجاب قائلة بسعادة: آه حتى علشان تبقى مجنون يارا بجد... أنهت حديثها وانتابها حالة من الضحك، لم تعلم سر سعادتها أهي المزحة التي ألقتها توا أو سعادتها تتضمن في اقترابه منها، لا يهم ما تفكر به حاليًا الأهم من كل ذلك هو فقط، لتستمع بقربه وبكل ثانية تمر بجوار قلبه...
أبعدت الحاسوب من أمامه لتقول بغيظ: إيه يا عمار بقالي ساعة بكلمك، وأنت ولا أنت هنا. مط شفتيه ببرود قائلًا: معلش مشغول شوية مع اللاب توب! رفعت إحدى حاجبيها مستنكرة ما يفعله، بدلها نظراتها بنظرات حادة وأكثر جرأة، توترت منه قائلة: أنا نفسي اعرف مالك في إيه متغير معايا ليه؟!
تجاهلها وتجاهل سؤالها وقرر العودة لما كان يفعله، رافضًا الانصياع لقلبه، اما هي فشعرت بالغيظ منه، نظرت حولها تحاول كبح مشاعر الغضب بداخلها ولكن لم تستطع السيطرة على نفسها فقامت وضربت الطاولة بيدها قائلة بصوت مرتفع نِسْبِيًّا: عمار..
رفع بصره بسرعة البرق عندما فعلت تلك الحركة الحمقاء، ارتعدت للخلف من نظراته المخيفة، ابتلعت ريقها بخوف من تشنج جسده وهو ينهض ليقابلها عن قرب مُتَحَدِّثٍ بنبرة لاذعة: وربي وما أعبد أن تكررت لتزعلي مني جامد يا خديجة.. اهتز صوتها وهي تسأله في توجس: إيه هاتضربني..
جسده، وصوته، ونظراته جعلها تعود بذكرياتها لأعوام جاهدت نسيانها، جعلها تعود لضرب والدها لها، جعلها تغرق في بحر من الذكريات المؤلمة، حاولت فيه هي كالطفل الصغير التمسك بطوق نجاة حتى تعود لبر الأمان، بحثت وبحثت ولم تجد إلا صوته الحنون الذي انتشلها بالفعل من ذلك البحر المظلم، انتشلها بعيونه الغارقة في الحنان والامان، وصوته الغارق في عشق تقيد بقلب مسكين يبحث عن بر أمانه وسلامه... خديجة! ها؟!
مالك سكتي وسرحتي في إيه، أنا بقولك أزاي ممكن تتخيليي ان ممكن اذيكي، أو أبعدك عني! ألقت نفسها بأحضانه عنوه تبكي بانيهار: أسفه!، متزعلش مني، هو أنا خربطت الدنيا معاك، صارحني قولي!
قرر الأخذ بنصيحة مالك بعدما قرر أخيرًا التحدث معه وأخباره لما يفضل الابتعاد هذه الفترة، وسأل مالك بحماس هل وقع عليه خطأ في شَيْءٍ ما أخبره به!، وكما توقع أجابه مالك أن ما فعله ليس إلا الصواب، وفي نهاية الأمر قرر الأخذ بنصيحة مالك وهو ألا يطيل الخصام والبُعد... تعالي يا خديجة نقعد واقولك أنا زعلان ليه بما أنك أول مرة تتكرمي وتتنازلي وتيجي تسأليني؟!
فتحت فمها وحاولت التبرير له، ولكن هو بتر حديثها بقوله الحاد: أنا أهم من أي حد يا خديجة، وأنا أولى من أي حد أنك تعرفي إيه سبب زعلي، وأكيد ده مش سبب رئيسي في زعلي! نكست رأسها خجلًا منه: أنا فاهمة أنك زعلان مني في موضوع إيلين وان ناقشتك...
قاطعها ليكمل هو الحديث موضحًا وجهه نظرة: مش بس كده، وياريتها على قد كده، لكن أنتي وقتها كل كلمة قولتيها وكل نظرة وقتها منك كانت بتقولي وأنت مالك أنت مش أبوها بتتحكم ليه صح ولا لا...
فتحت فمها حتى تبرر وجهه نظرها بنظرات مرتبكة، ولكن أسكتها هو بحديثه الذي كان يحمل بين طياته عتاب ولوم كبير: متتكلميش وتبرري أنا بس عاوز أوضحلك حاجة أنا ليا في إيلين زي مانتي ليكي فيها، هي يتيمه الأب والأم، وأنتي اعتبرتيها بنتك وكبرتي في نظري، وأنا اعتبرتها بنتي، إيلين سكنت هنا...
استوقف للحظات يشير نحو قلبه، ثم استطرد حديثه: ويعلم ربنا أنا بحبها قد إيه، لما أجاي بقي اقولك أنا حُر في بنتي وتربيتها بعد كده متجيش وتناقشيني وتقوليلي أصلها مش بنتك.. هتفت باكية: عمار خلاص بقى كانت زلة لسان متقفليش على الواحدة الله، وبعدين أنا بعد كده المفروض اعملك بنفس معاملتك!.. رفع كلا حاجبيه مستفهماً بنبرة حاول إخفاء فيها السخرية: ده اللي هو أزاي يعني؟!.
حولت بصرها نحوه ثم مسحت بكلتا يدها وجهها بقوة كالأطفال، التزمت الصمت لبرهة تحاول تقليد شخصيته ونبرته الجادة: خديجة متكلمنيش مش فاضي، مش دلوقتي! انفجر ضاحكًا لطريقتها قائلًا: أنا بعمل كده!، آمال أنتي لما بتزعلي بتعملي إيه؟..
أجابته برقة وهي تقترب منه حتى اختصرت أي مسافات بينهم ونظرت مباشرةً لعيناه قائلة بنبرة ناعمة ساحرة: أنا بحبك آوي، مبقدرش ازعل منك، حتى لو زعلت شوية صغننة بردوا أول ما تقولي يا ديجا، قلبي بيرقص من السعادة كده... اتسعت ابتسامته ليقول بعبث: طيب وكده قلبك يبقى إيه حالته.. مال عليها يقبل ثغرها برقة بالغة هاتفًا من بين قبلاته: بحبك يا ديجا..
حاوطت عنقه بسعادة تجذبه نحوها أكثر ولكن لم تدم سعادتهم طويلاً بسبب طرق عنيف على الباب، نهض عمار بسرعة يفتحه، فوجد مالك أمامه وخلفه ندى تنظر برعب نحوهم... ندى بنتي عندك يا عمار.. هز عمار رأسه نافيًا: لا مفيش حد هناااا... التفت لكي يصعد الدرج نحو شقة فارس وجد فارس يهبط بسرعة وخلفه ياراا. في إيه الصوت ده والدوشة دي! تحركت ندى نحوهم تسألهم في ريبة: ندى عندكواا.. هتفت يارا بقلق وخوف: لا هي ضايعة ولا إيه!
أنهت جملتها بصرخة عندما وجدت ندى تفقد وعيها وتسقط أرضًا...
انتقلت هنا وهناك تبحث بعينيها عن ابنة أخيها المختفية، دب الرعب بقلبها وهي لا تراها، توالت الأماكن والصغيرة غير موجودة، وضعت يدها فوق رأسها تحاول البحث بدقة أكثر بين وجوه الأطفال، حتى الشخوص الذين يحملون أطفالهم لم تتركهم وبحثت بينهم عن أي ملامح لها، وقعت عيناها بالصدفة على آخر شخص توقعته أن يكون موجودًا هنا في الإسكندرية وها هي الدهشة تعتلي ملامح وجهها بقوة، عندما رأته يقف مع صديقتها صاحبة نظرية لا للزواج، تعجبت لطريقة ابتسامتها وحركة جسدها التي توحي بغنجها، دب الغضب داخلها وانطلقت سهام الغيرة نحوهم، لو أدركوا وجودها لأحرقتهم بنيرانها الملتهبة، اقتربت بسرعة منهم حتى تثبت خيانته، ولكن للحظة وقفت وفكرت بطريقة أكثر خبث حتى تكشف تلك القشرة التي تلونت بها صديقتها، وخاصةً عندما لاحت بذهنها كلمات والدتها عنها...
(دي بت خبيثة وبتكرهك ومش عاوزكي تتجوزي مازن، والله تلاقيها حاطه عينها عليه! ) ضغطت فوق شفتيها بغيظ من فكرة أنها بالفعل تريد مازن لها.. ابتعدت عدة خطوات بعيدًا عنهم، ثم قررت الاتصال بها، راقبتها وهي تخرج هاتفها ثم تعود لإغلاقه مرة أخرى، كظمت غيظها وكررت الاتصال مرة أخرى، أخيرًا رفعت الأخرى الهاتف تجيب بضيق بالغ.. ألو.. شاهي مبترديش ليه! سوري يا ليله بس حَالِيًّا مع ماما في المول مش فاضية، سلام..
أغلقت الاتصال وعادت مرة أخرى لمازن تُكمل حديثها...
فتحت فمها بصدمة عندما رأتها تعطي مازن هاتفها، حاولت أن تقرأ شفاهم وهم يتحدثون ولكن فشلت، شعرت بالبكاء لم تعرف سبب مصدره أهو اختفاء ندى وفشلها في إيجادها، ام فشلها في تحسين علاقتها بمازن، من الواضح أن السبب ينصب فوق فشلها، هي فاشلة!، هكذا حدثت نفسها وهي تحاور تلك الهواجس التي تزايدت بداخلها عندما لاح بذهنها صورة للمشهد خطبة شاهي ومازن، داهمها دوار قوي كذلك الدوار الذي قلب كيانها في هذه اللحظة رأسًا على عقب، تمالكت نفسها وحاولت إيجاد أي مقعد تجلس عليه حتى تعود لاتزانها، جلست فوق مقعد خشبي ومازال نظرها معلقًا بهم، عضت فوق لحم شفتيها بخجل من نفسها، ماذا تُفكر؟!، لا يستحق أحد الاستحواذ على تفكيرها سوى الصغيرة الضائعة، نهضت بحماس تستكمل البحث عن ندى، وأجلت أمر التفكير بصديقتها الخائنة وحبيبها، صمتت للحظة وفكرت للحظات أهو الحبيب الخائن أم الوافي!، ، موقفه بعد سيحدد مكانته بداخلها...
لم يترك مكان إلا وبحث فيه، أين ابنته؟، أين فلذة كبده؟، أين الروح والهوى؟، أين نبضه؟ لما شعر بتوقف قلبه عن النبض، لما فجأة تحولت الحياة حوله لأخرى مبهمة، لما ثقلت أنفاسه التي تخرج من ثغره، يشعر وكأنه في حرب قوية ويكاد يلتقط أنفاسه، حرب ما بين وجع القلب وضياع العقل، حاول التقاط أنفاسه تحت أشعة الشمس الحارقة، حاول التفكير بهدوء، ولكن ذلك الصراع الذي أخذ من صدره موطنًا يمنعه من التفكير لو للحظات، صراع الخوف من الفقد، فقدان ابنته سيكسره حتمًا، شعر بتربيتات فوق كتفيه، التفت بجسده نحو صديقة يسأله بلهفه: لقيتها..
هز فارس رأسه بيأس: لا بس هانلاقيها إن شاء الله، في أخبار عن الكاميرات.. تحرك صوب باب البناية قائلًا: لا مفيش كاميرات هنا! دلف للداخل وجد الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر، اندفعت ندى نحوه باكية: قول إنك لقيتها، هي فين؟! وقف يتلقى يديها قائلًا بنبرة تملكها العجز: لا... سارع فارس بالحديث: بس مالك كلم ناس في الداخلية وطلع نشرة بمواصفاتها ومتقلقوش والله هانلاقيهاا...
لم يُكمل حديثه بسبب دخول أحمد وبيده الصغيرة التي كانت تحمل حقيبة تمتلئ عن آخرها بالحلوى، اندفعت ندى نحوهم، تجذب ابنتها نحوها تتحسسها بحب ولهفه: ندى، الحمد لله، الحمد لله. تعجب أحمد من اندفاعها، ووجوههم المصوبة نحوه، ونظراتهم التي يجهل قرأتها... حملها مالك برفق من ندى ثم قبلها بحنو في أنحاء وجهها: كنتي فين يا حبيبتي! مع جدو، بص دادي..
رفعت الحقيبة البلاستيكية بفرحة أمامهم، انزلها مالك وبداخله يغلي كحمم البركان المنصهرة، هاتفًا لزوجته بلهجة حاول إخفاء الحدة بين ثناياها: ندى خدي ندوش جوه تاكل الحلويات دي هي وانس وإيلين وسيف.. جذبت ندى الصغيرة ثم دلفت للداخل و عقلها لا يهدأ من التفكير ما شأن خالها بابنتها، وماذا ينوي مالك فعله؟!. أما بالخارج، اقترب مالك يهدر بعنف بوجه خاله: أنا عاوز اعرف إيه وصل بنتي ليك!
أمسكته والدته وحاولت تهدئته: مالك أهدى وهاتفهم من خالك.. رمقهم أحمد ببرود قائلًا بعدم فهم: تفهموا إيه، البنت كانت طالعة على البوابة في أيدها فلوس عاوزه تشتري شكولاتة، وأنا كنت لسه جاي بالعربية شفتها أخدتها واشتريت لها في إيه! هتف مالك بصوت جهور غاضب: خمس ساعات، بتشتري خمس ساااعات مفكرتش للحظة تطمنا عليها.. هدر خاله أمامه بعنف: أنت بتكلمني أزاي كده...
وقف عمار بينهم ليقول: استهدوا بالله يا جماعة، المهم إن هي بخير.. التفت أحمد لكي يغادر المكان رافضًا طريقة مالك وهجومه، وقفت أمامه ندى والصغيرة، تعجب لوجودهم أمامه فجأة... ندى بوسي جدو وقوليله شكرًا على حاجات الجميلة دي.. طبعت الصغيرة قبلة فوق وجنته، حاوطت وجهه بيدها الصغيرة كما تفعل مع والدها، لتقول بنبرة خافتة: شكرًا جدو، بحبك..
آه من نبرتها، وطريقتها، وقبلتها وكل شيء يأتي منها، الوحيدة القادرة على إخماد غضبه، القادرة على إشعال مشاعر بداخله لها حلاوة من نوع آخر، لم ينكر أن الماكرة والدتها موقفها معه جعل قلبه يدق بعنف، ، حاول الهرب من تفكيره ومشاعره، ولكن مازالت يدها تحاوط وجهه، ملمس أناملها جعله يغمض عيناه تحت سطوة عشقه لتلك الصغيرة..
فتح عيناه مجددًا بعدما استمع لصوت والدته تحثه على الدخول للحديقة: ادخل يا أحمد ده شيطان ودخل ما بينا... رمق مالك بنظرة غاضبة ثم دلف خلف والدته وهو يحمل الصغيرة رافضًا التخلي عنها، حتى هي تعلقت به، يقال إن الطفل يشعر بالحنو ويركض خلفه، الغريب هنا أن الحنان يأتي من قلب قاسٍ يحمل الكره لوالدتها... صعد مالك بسرعة نحو شقته، حاولت الركض بنفس سرعته ولكن فشلت لسرعته الرهيبة، وصلت بأنفاس لاهثة خلفه...
مالك استنا، في إيه؟!. التفت نحوها ينظر لها بعيون مشتعلة من الغضب وعروق وجهه تنتفض بقوة، ف بدا كالثور الهائج الذي يود أن يقتلع رأس أحدهم غير عابئًا بمن يقف أمامه، خرجت الحروف من فمه غليظة وصوت غاضب جهور..
انتي هاتنجنيني، هو ايه اللي في أيه، هي مش بنتك كانت ضايعة من شوية، وكنتي هاتموتي فيها واغمى عليكي، بتسألني في ايه ازاي، آآه ازاي أسالك في ايه، وانتي بتحاولي تصححي علاقتك بخالك حتى لو على حساب غضبي او بنتك... اسبلت جفونها تحاول فهم هجومه عليها، اقتربت منه قائلة بنبرة خافتة عكس أنفاسه المرتفعة: مالك انا حاولت انقذ الموقف ومزعلوش مننا، ويكره ندى زي ما بيكرهني..
لم ترد، لم تحرك جفنيها حتى لقسوة كلماته، لملمت شتات نفسها ولم تعقب على حديثه، اكتفت بالصمت وبنظرة حزن، نظرة بها ألف معنى ومعنى، ومن أخطأ وحده القادر على فك شفرتها، العتاب معه الان سيضاعف من حزنها والآم قلبها، من الافضل الاكتفاء بالصمت وبتلك الاشارات التى ارسلتها عبر نظراتهااا، خرجت من الشقة بسرعة تمنع نفسها من البكاء، حثت نفسها على التحلي بالقوة، ولكن أين تلك القوة وهي تراقب صعود مريم السريع نحو سطح البناية..
مريم مالك! اجابتها وهي تُكمل الصعود بخطوات واسعة ونبرة مرتعشة: مفيش.. كادت أن تلحقها ولكن صعود عمرو خلفها منعها وجعلها تتوقف وتراقب ذلك المشهد بصمت، ابتسمت بسخرية لنفسها، ها هي تتخطى أمر شجارها معه وتصب انتباها نحو هؤلاء العاشقين التي أوشكت علاقتهم على الانتهاء لو تهور أحد الطرفين في لحظة جنون..
وصلت مريم لسطح البناية تتنفس بغضب، تحاول إيجاد بعض من الهدوء أو الثبات النفسي والانفعالي لديهااا، ولكن أين تجده وذلك الوقح خلفها دومًا، يشعل فتيل غضبها ويتساءل بعدها بكل براءة أين هدوءك؟!.. التفتت بجسدها تشير بأصبعها نحوه بكل عصبية: بقولك إيه يا عمرو كلمة كمان وانهي الحوار ده حالًا...
تهدده بكل جراءة وكأن العصمة بيدها، بلهاء حَقًّا حتى في تهديداتها الطفولية، رمقها ببرود ظاهري قائلًا: اهربي حلو بعصبيتك، اهربي، خايفة أعاقبك على فعلتك المهببة.. شهقة صدرت منها وكأنها من نساء حي شعبي وعلى مقدمة شجار حاد مع أحدهم متناسية أي شيء حتى لو كان منظرها أمام من حاولت أن تظهر أمامه دومًا بمظهر لائق ومنمق... نعم، نعم، بقولك إيه بلاش أنت تتكلم علشان متخسرش.
صدرت منه ضحكات ساخرة عندما لانت ملامحه من علامات الدهشة التي استوطنتها بعدما رأها لأول مرة على هذا النحو: الله أكبر، مريم هانم هاتردحلي، طلعي يالا اللي جواكي.
نظرت شزرًا له، اقتربت بخطوات متوعدة وكأنها تقول له رأيت فتاة وقحة ما رأيك بفتاة يظهر عليها بودار الاجرام الخطير في ثوان حتى تنقذ قصة حبها التي ثابرت لاعوام للحفاظ عليها وسط تذمر والدها من تلك الزيجة، جذبت ياقه قميصه الابيض وجعلته يقترب منها بجسده وخاصة رأسه التي كادت ان تلامس رأسها... وعندي استعداد اقتلك لو اثبتلي فعلًا انك بتخوني، انا مضيعش سنين عمري علشان ست ريتا دي تخطفك مني، فاهم..
حدق بعيونها المتسعة وهي تنتقل بين قسمات وجهه، نظراتها الغاضبة تقابل نظراته الهائمة، أنفاسها اشعلت جمرات من اللهب في جسده، لاول مرة يقترب منها على هذا النحو بعد مجيئه من السفر، يتعامل بحدود وكأن ليس بينهم رابط، وخاصةً بعد مجئ ريتا معه، يتشوق لتذوق رحيق شفتيها واشباع تلك الرغبة الجامحة بداخله، رغبة بامتلاكها وادخالها في اعماق قلبه، لترى كم هو متيم بذلك العشق، لم يستطع الصبر طويلًا وقرر الانصياع لذلك النداء الخفي بداخله، اقترب للحظة منها وامتلك شفتيها بشفتيه في قبلة فجر بها جميع مكنوناته الخفية المتعلقة بعشقها المستوطن داخل صدره وعقله وقلبه، بل لنقل داخل كيانه بأكمله...
ابتعدت عنه في ارتباك عندما التقطت أذنها نداء ليله لها، حاولت هندمة نفسها وحجابها أما هو فابتعد فورًا عنها يستند بيده على حافة السور ينظر للبحر، شاردًا في أخذ أنفاسه التي سُلبت منه عندما لامس شفتيها وارتشف من رحيقها... مريم أنتي هنا... اقتربت مريم منها قائلة بصوت مرتبك: آه هنا.. تحرك عمرو نحو الباب لافتًا لها بصوت جعله أكثر خشونة: هانتكلم بعدين في اللي أنتي هببتيه يا مريم..
وقبل أن يغادر أرسل لها قبلة في الهواء مصاحبة لغمزة وقحة من عيناه، ارتبكت هي لما فعله وظلت شاردة في قبلتهم الأولى وهي تنظر في أثره، انتفضت على يد ليله المتسائلة في فضول: هيبتي إيه! اجابت ببرود بعدما أخرجت تنهيدة قوية من صدرها: ولا أي حاجة اكتشف أن رابطة الواتس بتاعة بالواتس بتاعي، وطبعًا مضايق.. اتسعت أعين ليله قائلة: واكتشفتي خيانته!
خيانته إيه، أنا كنت براقبه أشوفه هايجيبها إسكندرية من ورايا ولا لا، كنت عاوزه أشوف مدى غلاوتي عنده، بس لا عمرو ميخونش، عمرو يحبني. قالت جملتها الأخيرة بأعين تلمع من السعادة كلما تذكرت حلاوة مشاعرها تحت سحر قبلتهم.. انتبهت على شرود ليله وكلماتها الحزينة: يعني مازن ممكن ميكنش بيخوني.. هتفت مريم بنفاد صبر: لا بقولك إيه متفتحيش سيرة مازن بدل ما أضربك على دماغك..
أجلستها ليله على الأرض قائلة بحزن: اسمعي بس، انهارده شوفته واقف مع شاهي اللي كانت بتحذرني منه وبتقولي شخصيتك وكيانك ومستقبلك، واقفة بتدلع عليه وبتكذب عليا في التليفون.. هزت مريم رأسها تحاول استيعاب حديثها غير المرتب والمفاجئ لها: لا استني، وأحكي من الأول واحدة واحدة... تعلقت ليله بحديثها وهتفت برجاء: وهاتقوليلي اعمل إيه بالظبط علشان أشوفه لسه بيحبني ولا لا..
رمقتها مريم بفخر قائلة: عيب عليكي هاساعدك طبعاً، وهافاجئك بذكائي.. اعتدلت الأخرى تقص عليها كل شيء من بداية علاقتها بمازن بأدق التفاصيل وأخرهم علاقتها بشاهي صاحبة قشرة المرأة وكيانها..
راقبت الجميع بعيونها ثم مالت نحو شريف قائلة بقلق: هو أنا جيت في وقت مش مناسب يا شريف.. هز شريف رأسه بنفي وهتف سريعًا يحاول تبرير موقفهم: لا يا سوزان بالعكس، بس ندى الصغيرة اختفت وكانت مع أحمد خال مالك وكنا فاكرينها ضايعة، بس حصل شد وجذب قبل ما تيجي والموضوع انتهى يعني..
حركت رأسها بإيماءة متفهمه موقفهم المرتبك، حولت مجرى حديثها مع شريف عن اشياءًا أخرى كعملها وسكنها الجديد، لاحظت بطرف عيناها دخول أحمد للبناية، صحيح كان لقاؤهم ليس إلا واحدًا فقط، ولكن في ذلك اللقاء جذب انتباهها نحو شخصيته الغريبة والعجيبة، وخاصةً عندما راقبت انفعالات جسده التي تتقلب في الدقيقة آلاف المرات في وجود تلك الجميلة ندى، شعرت وكأنه يصارع شَيْئًا ما بداخله، شيئًا تجهل هي سببه، لم تنكر أن فضولها في مرات عديدة كاد أن يدفعها نحو شريف لكي تسأله، ولكن أسئلة شريف عن سبب اهتمامها تجعلها تتراجع للخلف مقررة الالتزام بالصمت والاكتفاء بالمراقبة، انتبهت على يد والدة أحمد، تلك العجوز الطيبة التي كلما هي ظهرت بمكان تتسع ابتسامة المرأة فرحًا، ترى ما سبب كل تلك السعادة التي قرأتها في أعينها كلما تحدثت معها ينير وجهها فرحًا، سعادتها توحي بأنها وأخيرًا وجدت طوق النجاة ولكن لمن؟!..
قلبت الملعقة الصغيرة في المشروب الساخن، راقبت انسياب حبات السكر وحبيبات الشاي معًا، ترى هل تذوب هي في علاقتها يومًا ما مع خالها، ترى هل تستطيع يومًا احتضانه مثل احتضان المياه لحبات السكر والشاي... لم تجد أجابه واضحة، ف لونهما الذي تحول تَدْرِيجِيًّا نحو الأسود المائل لاحمرار قليلًا، قد يعطيها أجابه نحو لون حياتها معه، ابتسمت بسخرية عندما رأت ذلك اللون، لتهتف بتهكم..
أسود، هي الإجابة أهي واضحة.. بتكلمي نفسك! انتفضت برعب عندما التقطت أذنها صوته الرخيم، التفت بجسدها حتى تتأكد بعيونها وجوده، نعم!، خالها، يقف ويحادثها بنبرة صحيح يغلب الجمود عليها، ولكن لا يهم، يكفي فقط وجوده، ابتلعت ريقها بتوتر بالغ لتقول بنبرة جاهدت إن تكون ثابتة: عادي، أحيانًا من ضغط الحياة.. فاجأها بسؤاله كما يفاجئها دومًا: بتكرهيني؟!
صمتت لبرهة تستوعب سؤاله، خرج صوتها يجيبه أجابه لم يشعر قلبه بالراحة منها: ولا بكرهك ولا بحبك!، حقيقي مبقدرش أحدد موقفي منك.. ضيق عيناه أكثر يحاول أن يصل لصدق حديثها، تجرأت وسألته هي الأخرى: وحضرتك بتكرهني ولا بتحبني؟! تعلقت أنظارها به تنتظر أجابته بقلب يدق بعنف وعقل ينتفض بخوف من أجابه قد تزهق روحها مجددًا وتهوي مجددًا من سابع سماء لترتطم بأحقاد الماضي وذكرياته المؤلمة..
دلفت لشقتهم بوجه مريح، وابتسامة هادئة ترتسم فوق ثغرها، وضعت الصغيرة بفراشها بهدوء، ثم انتقلت صوب الشرفة تستكمل باقي الراحة التي تبحث عنها لأيام منذ مجيئهم هنا.. جلست فوق المقعد تنظر للبحر و أمواجه الهادئة، وتلك النسمة الباردة تداعب وجهها في لطف، تنهيدة ناعمة خرجت من جوفها، قررت خلع حجابها لتشعر بحريتها الكاملة، أغلقت عيناها وأرجعت رأسها للوراء تُفكر فيما حدث اليوم... وحضرتك بتكرهني ولا بتحبني؟!
تعلقت أنظارها به تنتظر أجابته بقلب يدق بعنف وعقل ينتفض بخوف من أجابة قد تزهق روحها مجددًا وتهوى مجددًا من سابع سماء، لترتطم بأحقاد الماضي وذكرياته المؤلمة.. راقبته بعيونها بشغف رهيب لم ينتابها من قبل، جلس فوق أقرب مقعد يرمقها بنظرات غامضة.. ليه عملتي كده انهارده، إيه قصدك تحاولي تصلحي العلاقة ما بينا؟!.
صمتت لبرهة، تحدج به بقوة، لما يحاول الهرب من سؤالها، ابتلعت ريقها وهي تجيبه بثبات رغم انتفاضة قلبها وكأنها تُقبل على امتحان صعب.. رغم أن دي مش إجابة سؤالي، بس هاجاوبك وأنت بعدها تجاوبني، أنا عملت كده علشان عارفة عصبية مالك، وعارفة أن ممكن في عصبيته ممكن يخسرك، وأنا محبتش يخسرك زي ما أنا خسرتك، رغم إن أنا ماليش علاقة باللي حصل زمان..
ابتسم ساخرًا ليقول بنبرة قوية تحمل بين طياتها الحقد: أزاي بقى، أنتي مش بنته، مش بنت اللي حرمني زمان من الإنسانة اللي بحبها، وعاش حياته، كسرني وكسرها ودمر حياتها.. هتفت بحزن: ومات، أي كان أسبابه هو مات، أنا ذنبي إيه، ليه تأذوني بالشكل ده!. ومين أذاكي!، مش ابوكي، مش هو اللي عمل فيكي كده، وبعدين تقدري تقوليلي أنا أذيتك في إيه، ولا عايشة على أوهام ابوكي ورأفت...
اقتربت منه لتقول بنبرة باكية: بنظراتك ليا، بتجاهلك ليا، بمعاملتك ليهم وأنا نظراتك ليا كلها كره، عايز توصلي بأي طريقة أنك بتكرهني... نهض من مكانة قائلًا ببرود: واديكي عرفتي أجابة سؤالك... همست بنبرة باكية وهي تراقب خروجه: بتكرهني!
وقبل أن يغادر، التفت لها يرمقها في صمت طويل، تسابقت الكلمات بداخله كحال مشاعره، ولأول مرة يطلق العنان لمشاعره حتى تخرج من جوفه عن طريق كلمات قليلة ولكن ستكون لها أثر نفسي كبير في قلب الطرف الآخر.. بس بدأت افتح قلبي ليكي.. ألقى بكلماته دفعة واحدة، ثم غادر المكان بسرعة، قبل أن يعود ويهدم ما قاله بسبب ذلك الصراع الذي نشب ما بين القلب والعقل..
عادت من شرودها الذي غرقت به لأول مرة وهي سعيدة، انتبهت لجسد مالك الواقف أمامها يستند بمرفقيه فوق سور الشرفة... نظفت حلقها قائلة بهدوء: أنت هنا! استدار بوجهه لها هاتفًا بتهكم: آه هنا، لدرجة دي مش واخدة بالك!، إيه وجودي بقى زي عدمه.. رفعت أحد حاجبيها بتعجب من طريقته، يعاملها بجفاء وكأنها من جرحته! تمتمت بحديث خافت: أنا أقوم أحسن علشان متخنقش معاه.. ارتفع صوته بضيق بالغ: وكمان مش همك زعلي..
تراجعت بخطواتها نحوه تنهره بضيق مماثل ولكن بصوت خافت حتى لا يكونوا حديث الساعة أو مضغة في افواهم: لو سمحت يا مالك وطي صوتك عيب كده.. دلفت الحجرة بعدما انتهت من حديثها، أما هو فلم يتراجع لو للحظة عن غضبه، دلف خلفها وتحول وجهه للون الغسق: ندى، أنتي بتكلميني أزاي كده، على فكرة أنا ليا احترامي.. احتلت الدهشة مكانًا بارزًا من وجهها: بكلمك أزاي، وليه أصلًا بتتكلم معايا بالهمجية دي!
احتشد الغضب في صوته قائلًا: أنا همجي! تبددت جرأتها لتقول بنبرة حاولت أن تكون هادئة وتخفي خلفها ذعرها: أنا أقصد الطريقة، شوف بتحول كلامي أزاي! توهج وجهه كشعلة نار، تسابقت الكلمات البذيئة بداخله ولو كان شخصًا أخر أمامه سيمطره بوابل من الشتائم الحصرية..
جذب متعلقاته بسرعة ثم خرج من الشقة دون أن يتفوه بأي كلمة، ركضت بسرعتها نحو الشرفة تبحث بعيناها عنه، لم تراه، انتقلت بسرعة نحو النافذة في الاتجاه الآخر وجدته يستقل سيارته وفر هاربًا من شجار لو استمر به سيحزنها طيلة حياتهم...
أنا قولتلك، قولتلك يا هبلة أنا عارفة حركات البنات دي، شوفي بقي نتيجة أفعالك وتلاقيه دلوقتي هايخطبها... تقلصت ملامحها بغضب عقب حديث مريم، تخيلت خطبة مازن وشاهي، شعرت بدقات قلبها العنيفة حتمًا وقتها ستكون ذابلة كزهرة فارقت غصنها، وفي ثواني هاجر الغضب وجهها وزراها الخوف لتقول: طيب أعمل إيه يا مريم، ماشي اتنيلت وفكرت كده، أعمل إيه!
أشارت نحو هاتفها قائلة بأمر: فورًا تتصلي به تقوليله أنا شفتك انهارده في إسكندرية، وشوفي بقى هايكذب ويخبي زي ما هي خبت ولا هايصارحك... هتفت بنبرة مهزوزة: طيب وافرض مردش أصلًا، ده بقاله كتير بيحاول يوصلي وأنا حاطة رقمه في البلاك لست.. شهقة صدرت من مريم من غباء الاخرى لتقول: يا غبية هو كان عملك إيه علشان تعملي كده.. زفرت بضيق: الله، ما هو كان بيضغط عليا باتصالاته ففكرت أن اعمل كده علشان أفكر بهدوء..
هدوء ما يخدك انتي هاتشليني، تصدقي كنت بقول عليكي زكية بس طلعتي أهبل مني، بصي بقى لو رد عليكي هيبقى لسبيبن هو انه يعرفك بطريقة ما انه حب غيرك، ياما انه لسه فعلًا بيحبك، يالا اتصلي خلينا نشوف هايعمل ايه! بالفعل اتصلت ليله بقلب يرتجف بخوف من حقيقة انه بالفعل احب غيرها، بعد دقيقة اتاها صوته: خير.. ابتلعت ليله ريقها قائلة: ايه ده في حد يرد كده! أصل مستغرب اتصالك، خير في حاجة؟!
تجمعت الدموع في مقلتيها من طريقته الجافة، ولكن حثتها مريم على الاستمرار، فخرج صوتها مرتعشًا: يعني لو مضايق اقفل، او معطلاك.. اسطردت حديثها سريعًا قبل ان يجيبها: مع ان شوفتك انهارده في اسكندرية! اممم بجد، آه جاي اجازة، انتي جاية اجازة بردوا...
كان يقصد ان يرسل لها اجابة مبطنة الا وهي، انا لم أعد اهتم بكِ، وبالفعل وصلت لها، فهبطت الدموع من مقلتيها بقهر: آه، طيب الحمد لله ان اطمنت عليك، وربنا يوفقك في حياتك الجديدة.. ضحك قاصدًا اغاظتها: ايه ده عرفتي اني خلاص قررت ادور على مستقبلي وعلى انسانة بتحبني بجد مش حب مراهقين وكده!
ابتعدت مريم بسرعة تنظر بصدمة لليله بعدما كانت تضع اذنها بجانب هاتف ليله تسترق السمع بصعوبة، وضعت الاخرى يدها بحزن فوق فمها تمنع شهقاتها من الخروج للعلن، لم تستطع استكمال محادثته فاغلقت الاتصال بوجهه مغلقة الهاتف باكمله، حولت بصرها نحو مريم قائلة ببكاء: شوفتي هايخطبها.. حاولت مريم تهدئتها هاتفة بنبرة حانية: ليله متزعليش نفسك، هو أكيد فهم انك مش عاوزاة، فقال احافظ شوية على كرامتي..
قصدت مريم أن تخبرها بأنها من بدأت وعليها تحمل نتيجة أفعالها... ابتسمت ليله ساخرة: ده مفكرش أنه يحاول معايا كمان مرة، وما صدق يخطب صاحبتي علشان يوجعني.. قطبت مريم ما بين حاجبيها قائلة: يحاول كمان مرة ليه؟!، هو الإنسان عنده كام كرامة؟!. رمقتها ليله بضيق: قصدك إيه؟!
إجابتها مريم بهدوء: قصدي أنه حاول كتير وكل إنسان له طاقة، وهو طاقته نفذت، مش كل الرجالة زي فارس ولا طاقة تحمله لجنون يارا، انتي مش يارا وهو مش فارس، كل اتنين وليهم طبيعة افكارهم وطبيعة علاقتهم، اعتقد انك لما شفتي فارس واصراره على انه يرتبط بيارا فكرتي ان مازن هيعمل كدا ويصمم نفس تصميمه، بس لأ مفيش حد زي حد، ودلوقتي خلاص يا حبيبتي طريقكم اختلف، يالا هاقوم أنام وأنتي قومي نامي لغاية ما أفكر كويس في الموضوع ده..
تركتها مريم وحدها، وبقيت ليله كقارعة طريق مهجور، تفكر في أفعالها سابقًا وتندب حظها حَالِيًّا..
وصلت إلى شقتهم في الدور الأرضي، وذهنها لا يهدأ من التفكير في حكاية ليلة، شردت قليلًا، ماذا لو سمحت لتلك الريتا بتدمير حياتها لكانت الآن تبكي قهرًا على حب استوطن القلب وجعله تحت رحمة عشق أبدي، وقبل أن تمد يدها لتفتح الباب كانت تندفع بقوة رهيبة نحو زاوية ما في مدخل البناية، كتمت أنفاسها وهي تندفع بتلك القوة، فتحت عينيها وجدت عمرو يقف أمامها مبتسمًا بسعادة: وحشتيني.
كادت أن تبتسم ولكن تلك النظرات الوقحة التي قرأتها بوضوح جعلتها تتراجع أو تحاول جاهدة أن ترسم الجدية فوق قسمات وجهها الجميل: إيه ده يا عمرو، عيب كده.. رفع أحد حاجبيه معترضًا: عيب، هو أنا أعرف العيب بردوا.. حاولت أن تدفعه بعيدًا عنها قائلة: عمرو لو حد جه واحنا كده هايقولوا عننا إيه. اتسعت ابتسامته ليقول بنبرة خافتة: واحد ومراته، وبعدين كله نايم دلوقتي، سيبني بقى أعاقبك على اللي أنتي عملتيه...
تحولت ملامح وجهها بسرعة تردف بهجوم: تعاقبني، انا اللي مفروض أعاقبك على اللي أنت عملته. اقترب منها أكثر وهتف بعبث: طيب آوك عاقبيني. ضحكت على وقاحته قائلة: ياربي منك، معرفش أخد موقف منك كده أبدًا. وتاخدي ليه يا نكدية، أنا اتنيلت وخلعت منها علشان خاطر عيون الجميل... حاوطت رقبته في غنج: طبعًا لازم تعمل كده، يا نهارك يا عمرو لو كنت جبتها معانا كنت زقيتك في البحر وغرقتك...
نظر في عينيها مباشرةً ليقول بحب: طيب ما أنا غريق فعلاً ومحدش عارف ينقذني... احمرت وجنتيها خجلًا قائلة: احم ويا ترى غارق في حبي بقى! لا غارق في عينيكي... وضعت يدها فوق وجنتها تتحسسهم بخجل: ياربي على كلامك يا عمرو... لثم وجنتها بقبلات متفرقة ومن بينهم هتف: إيه بيغرقك معايا..
انتفضوا برعب عندما استمعا لصوت شيء ثقيل يقع أرضًا خارج البناية، دفعت عمرو عنها وركضت بسرعة نحو شقتهم تختبئ منها، ظَاهِرِيًا تختبئ من أي حرج قد يتسبب لها ما أن رأها أحدهم بهذا الشكل مع عمرو، وَدَاخِلِيًا هي تختبئ من فرط خجلها، تختبئ من نظراته التي كادت أن تلتهمها بنهم، تختبئ من أنفاسه الحارة وقبلاته الرقيقة، اختبأت من قلب تستمع لدقاته كلما اقتربت منه، لتدرك كم كانت بلهاء عندما شعرت بالشك لو للحظات منه، هذا العاشق لا يعرف معنى أو طريق الخيانة، هذا العاشق يعزف ببراعة بحبه فوق أوتار قلبها المسكين، فتصدر عنه ترنيمة غرام لا مثيل لها.
خرج عمرو خارج البناية يبحث عن مصدر الصوت فوجد مالك يقف بأحد الأماكن المظلمة، وأمامه كرسي ملقى أرضًا، رمقه عمرو بعد فهم قائلًا: انت واقف كده ليه ياعم! جز مالك فوق أسنانه مردفًا: مستني البعيد يفهم ويخلص وصلة الغزل دي.. ارتبك عمرو قليلاً: ايه وصلة غزل ايه وبتاع ايه، انا كنت مشغل فيلم جوه بتفرج عليه..
أخيرًا عرفت البسمة طريقها بعد يوم ملئ بالمشاكل والضغوطات: صح والدبلجة كانت صوتك أنت ومريم، أنت غبي ياله ولا مالك في إيه، أوعى من وشي!.
لم يستطع الرد وكما يقال في هذة المواقف المحرجة قطة أكلت لسانه، مر مالك بجانبه وقبل أن يدلف للبناية أردف بتحذير لاذع: اللي حصل ده ميتكررش حتى لو هي مرآتك، افرض أبوها كان طلع وشافك، كان نيلها فوق دماغنا وأنا وربنا ما ناقص مشاكل وقرف، استنا ياخويا لما تبقى تتجوزها بجد.. تحدث عمرو بخجل بعدما اكتشف أخاه أمره: طب كلم شريف بقى، أنا كل ما أجاي اكلمه يأجل وعامل موضوع ريتا حجة، واهي سافرت انهارده.
لما نروح من الرحلة النكد دي، هاكلمه، تصبح على خير.. صعد مالك نحو شقته وتبقى عمرو وحده ينظر في أثره بتعجب!
تقلبت في الفراش يمنِيًا ويسارًا بخوف وقلق، لأول مرة يتركها بهذا الشكل ويخرج غاضبًا، زفرت بحنق من كل شيء، حتى الراحة التي بدأت تشعر بها، تبددت بسبب غضب مالك!، ، فكرت كثيرًا في سبب غضبه، لم تجد مبررًا واضحًا له، هي من لها الحق في الغضب، هو من أسمعها كلمات لاذعة جرحتها، ليس من طباعه أن يغضب هكذا، لما تغير هكذا فجأة، قضت الليل بأكمله تفكر فيه، حتى استمعت لصوت فتح باب الشقة، أغلقت عيناها بسرعة وتظاهرت بالنوم وداخلها يتراقص متوترًا من حركة مالك القريبة، شعرت به يرقد في الطرف الآخر من الفراش وتجنبها، تفاقم شعور بالغضب والحزن بداخلها منه وعليه!
قررت أن تنهي تلك الغمة بقليل من الحكمة.. التفت بجسدها ثم اقتربت صوبه، التصقت تقريبًا به، نظرت من فوقه على ملامح وجهه رأته يغلق عيناه وأنفاسه ليست منتظمة، أحيانًا تعلو للمسة يدها فوق يده، وأحيانا تختفي تمامًا كلما اقتربت بوجهها منه، مازالت تأثر به، شعور بالفخر يزداد لديها كلما أحست أنها تسيطر وبشكل قوي على ذلك القلب!
قررت أن تلاعبه بتروي وهدوء، زفرت برفق بجانب وجهه، فداعبت أنفاسها بشرته، تشنج جسده وهاجمته ذبذبات هزت كيانه بالكامل! كتمت ضحكتها بصعوبة وخرج صوتها مبهجًا: فتح عيونك وقول أنا آسف وأنا هاسامحك. استجاب لها بالفعل ولكن لنقل في الجزء الأول فقط، خرج صوته متهكمًا: نعم!، مين اللي يقول أسف!
صمتت لبرهة، ثم قالت بعدها بمكر أنثوي: أنا وأنت، أنت غلطت فيا لما قولتلي كلامك اللي جرحني الصبح، وأنا غلطت فيك لما سبتك زعلان ومتكلمتش معاك، بس أنا سبتك لسبب أن قلبي زعلان منك! اعتدل في جلسته، وأصبح مقابلًا لها مردفًا بضيق بالغ: أنت المفروض تعذريني أنا كنت هاموت من خوفي على ندى، وهو بيرد ببرود، محسش بناري، وأنتي كل اللي شاغل بالك هو وزعله، حتى أنا مهمكيش أنا و زعلي!.
حشرت نفسها بأحضانه قائلة: انت أزاي ممكن تتخيل للحظة ان في حد أغلى منك أنت وندى، انتوا حياتي كلها، وعلشان أنت حياتي خوفت وانت في عز غضبك تدمر حياتك، أنا ضهرك ومرايتك ودايمًا معاك وده واجبي ناحيتك.. شدد عليها بيده قائلًا بحب: هو أنتي هاتفضلي لغاية أمتى تخطفيني بكلامك ده! رفعت وجهها تهتف بدلال لا يليق إلا بها: لغاية آخر نفس فيااا.. طبع قبلة حانية فوق جبهتها: حبيبتي، ربنا يخليكي ليااا.
رددت خلفه بنبرة يتخللها راحة وحب: يارب.. اكملت حديثها سريعًا تخبره ما حدث اليوم مع خالها، لمح تلك اللمعة بعينها وتلك السعادة التي تخللت نبرتها، فجعلت من غيرته تزداد حدة، قطعها بنبرة غاضبة لم يستطع السيطرة عليها: خلاص بقى هانقضي الليلة كلها نحكي عليه!، أنا زعلان ومحتاج تصالحيني بزمه.. ضيقت عيناها تسأله بمكر: مالك أنت بتغير عليا منه! أشار على نفسه مُستهجنً حديثها: أنا لا استحالة!
كررت حديثها بنبرة أشد لؤم: مالك! ضحك ضحكات متقطعة ليقول: هو أنا أهبل يا حبيبتي استحالة... مالك! التفت بوجهه نحوها هاتفًا بغيظ: آه واسكتي علشان حساس إن أنا أهبل!
انتباها حالة من الضحك لم تستطع السيطرة عليها، مد أنامله وداعب خصرها في مرح، فازدادت في نوبتها تلك، حاولت التخلص من قبضته ولكن لا فائدة، قيدها بيده مثلما قيد قلبها، أخيرًا انتهت من مرحها بعدما جذبها نحوه يلتصق بها بقوة هاتفً بخفوت: بحبك آوي متزعليش مني، بصي هو أنا هاغير من أي حد يخدك مني وأحس أن قلبك فرحان من غير ما أكون أنا سبب في ده!
ورغم خفوت نبرته إلا أنها وصلت بما تحمله من مشاعر فياضة لأعماق قلبها، فثارت تلك العاصفة التي اقتلعت حزنها منه وعادت تلك الزهور تتورد مجددًا في قلبها ليعود من جديد ينبض بعنف أثناء اقترابه، لم تعقب بل اكتفت بالنظر لعيناه و وحدها لغة العيون كفيلة بالبوح بما تخبئه القلوب، تشابكت نظراتهم في حديث طويل انتهت بقبلات من كلا الطرفين وكأنهما كانا في صحراء وقلوبهم تحتاج أن ترتوي من جديد...
جلست بالقرب منه تنظر له بتفكير وتحاول إيجاد كلمات مناسبة حتى تُلقي ما في جبعتها دفعة واحدة... فارس هو أنا لو حامل مثلًا أنت... لم تُكمل حديثها وبصق المياه التي كان يتجرعها دفعة واحدة، شاهقًا بقوة وتحول وجهه إلى اللون الأحمر... احم، بتقولي إيه عيدي كده... احتدت ملامح وجهها وكأنها ستدخل حربًا توا: في إيه يا فارس هو أنت كاره أبقى حامل منك!
مسح فمه بمنديل قائلًا بخشونة: ده على أساس أنس اللي جوا ظروفه إيه متبنيه! ترقرقت الدموع بعيناها قائلة بصوت مرتعش: أهو شوف أنت عملت إيه! سألها متوجسًا: أنتي حامل يعني؟! صمتت لبرهة تمسح تلك العبرة الساخنة التي سقطت فوق وجنتها لتقول بعدها: لا. لكزها في كتفها قائلًا بفرحة عارمة: طيب ياستي خوفتينا ليه..
رمقته بضيق وحزن في آن واحد والتزمت الصمت ثم تابعت التلفاز بعيناها، قرصها من وجنتها مستكملًا حديثه بمزاح: أنتي اتقمصتي يا مجنونتي!. رفعت انفها لتقول بكبرياء: وأتقمص ليه، دي حرية شخصية، أنت لو بتحبني هاتحبني أجبلك بيبي!.
مسد فوق شعرها بحنان ثم أردف موضحًا حديثه أكثر: يارا، أنتي عارفة كويس أنا بحبك قد إيه، بس حبيبتي من وقت ما جبنا أنس وأنا حساس أننا بنجري في تراك طويل، لو جبنا بيبي تاني نفسي هايتقطع يا حبيبي، سبيني أخد هدنة مع نفسي وأحاول استوعب أني ممكن أجيب عيل زنان تاني زي انس، واهو فرصة يكون أنس بطل زن، ونستقبل ليڤل أعلى في الزن يا حبيبتي.. حولت بصرها نحوه ترمقه بغيظ قائلة: براحتك، تصبح على خير..
نهضت ثم دلفت الغرفة تفرغ شحنة ملئت صدرها فجأة من البكاء، أما هو فنظر لأثرها متمتمًا بضيق: ياربي هو أنا لحقت أصالحها، علشان ادخل في خناقه جديدة!
استمع لحديث والدته وأخته باهتمام واضح متظاهرًا العبث بهاتفه.. معقولة واحدة في جمالها مبيجيش ليها عرسان.. هزت ماجي كتفيها بلامبالاة: أنا أعرف يا ماما، شريف بيقولي عايشة على ذكرى جوزها.. هتفت والدتها بفضول: ومقالكيش هي مخلفتش ليه! اجابتها بخفوت: العيب كان من جوزها، وبلاش نجيب في سيرة الناس علشان دي حرمة ميتين! انفجرت أسارير والدتها ولكن حاولت أن تخبئ فرحتها قائلة: يالا ربنا يرزقها بابن الحلال!.
رددت ماجي خلفها وهي تنهض: يارب، هاقوم أنام بقى.. انتظرت والدتها دخول ماجي وقالت لأحمد بلؤم: وأنت إيه رأيك في الكلام ده يا أحمد! رفع وجهه قائلًا بتهكم: وأنا مالي! وأنت مالك أزاي، ما أنت سامع كلامنا كله.. نهض أحمد قائلًا ببرود كعادته عندما يحاول الهرب من أي حديث أو مأزق: أنا هاقوم أنام تصبحي على خير!
هرب كعادته راكضًا خلف سراب من الماضي، وذكريات مؤلمة حتى لو كانت ذبلت روحه بسببها وجعلت منها أرض جدباء لا فائدة منها.