نوفيلا دكتور النسا وحرمه المصون للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس والأخير
� �قدت الوعي على الفور حينما اخترق المحقن رقبتها، تمايلت على الجسد الذي يقف من خلفها فحملها سربعاً ثم توجه لغرفتها القابعة بنهاية الرواق الطويل، وضعها عنان على الفراش وهو يتطلع لها ببسمةٍ فرح وانتصار، ثم خرج ليستكمل عمله براحةٍ تامة بعدما حرص على اسكتها مؤقتاً فيكفي ما فعلته أمام الممرضات وباقي اطباء المركز، وبعد دقائق مبسطة بدأت باستعادة وعيها الشبه مفقود، فكانت عينيها متيقظة ولكن بجسد ولسان معقود، تستطيع رؤية ما بقابلها ولكنها لا تستطيع الحديث أو الحركة، سُلطت عيناها على باب الغرفة حينما ولج منه عنان يتطلع لها بغرورٍ وصفاء ذات غامض، ليقترب من الفراش الصغير المجاور لها، فحمل الصغير ومازال الهلع يسكن حدقتيها المجنونة، فبذلت مجهود كبير لتحرك رأسها يميناً ويساراً بصعوبة كأعتراض صريح على محاولته لخطف ابنها كما تعتقد، تجاهلها عنان ثم طبع قبلة صغيرة على جبينه وهو يبتسم بجانب وسامته المشرق، ثم جلس على المقعد المقابل لها، ليردد تكبيرات متتالية بصوتٍ خافت جوار أذن الصغير، ثم طبع قبلاته الحنونة على ملمس بشرته الناعمة، اخراس لسانها عن طريق العقار منحها فرصة ولو كانت ضيئلة للغاية لرؤية ما يخفيه عنان من مشاعر الأبوة العظيمة، لا تعلم لما انتاب وجهها بسمة صغيرة وهي تتابعه بتركيزٍ، غفل الصغير بين يديه فأعاده بحرصٍ شديد لفراشه ثم جلس على المقعد الموضع بمنتصف كلاً منهما، حانت منه نظرة صغيرة تجاهها فشعر بالانتشاء للهدوء الذي غمر الغرفة بسبب خطته المعهودة، وضع يديه خلف رقبته ثم أطلق صفيراً متبختر ليختمه بقول:.
مفيش حاجة أعظم من الهدوء في الحياة... احتدت نظراتها تجاهه فاستكمل قائلاً: يعني الانسان بطبعه كائن لذيذ بيحب الراحة والراحة مش بتيجي غير بالشعور بالاسترخاء . ثم تطلع لها قائلاً: طبعاً انتي مستغربة المصطلحات الغريبة دي لانك للأسف لا تمتلكيها، هتمتلكيها ازاي وانتي متعرفيش غير الفوضى والرغي!..
اصطبغ وجه اسراء باللون الاحمر القاتم وهي تتلوى بغضبٍ، تود لو ان تصرخ بوجهه وتدافع عن ذاتها مستخدمة لسانها السليط الذي يعد من أهم اسلحتها الفتاكة، ولكنها مجبرة على الاستماع لما يقوله بصمت شرس، خلع عنان البلطو الطبي الذي يرتديه ثم تمدد على الاريكة ومازال يصدر صوت الصفير المترنح بفرحة وغرور، تمدد وهو يفرد جسده بغرور ليشير لها بغيظٍ: أخيراً هقدر انام من غير أي اصوات ولا انفعالات وتصرفات جنونية...
وسريعاً ما انقطع الصوت عنه حينما زاره نوماً هنيئاً بعد قضاء يومٍ متكرر شاق، لانت ملامحها وهي تراقبه باهتمامٍ، نظرات الحب تتربع بين حدقتيها، تأملت استرخاء جسده وغفلته بنومٍ عميق من فرط المجهود المبذول بحزنٍ أزداد حينما فُتح باب الغرفة لتقترب الممرضة منه سريعاً لتخبره بأنفاسٍ متقطّعة من أثر الركض: دكتور عنان، دكتور عنان!.. فتح عينيه بأرهاقٍ وهو يجاهد للاستيقاظ: أيوه... أسرعت الممرضة بالحديث:.
في مريضة بره حالتها صعبة يا دكتور وباين انها بتسقط... استند على جذعيه ليفرك عينيه بنومٍ: الدكتورة حياة مش بره؟ أجابته الممرضة بنفي: لا يا دكتور مفيش حد بالمركز.. نهض عن محله وهو يجاهد للوقوف بشكلٍ ثابت فقال بهدوءٍ: طيب دخليها وانا جاي.. أومأت برأسها بخفةٍ ثم اسرعت بالخروج، اقترب عنان من الفراش ليتطلع لها ببسمةٍ صغيرة مردداً بخبث:.
اقعدي انتي كدا تعايشي معاني الهدوء وصفاء النفس بتركيز يمكن تقنعي نفسك أن صوتك مزعج... احتدت نظراتها تجاهه فتعالت ضحكاته على رؤيتها هكذا فقال بلطفٍ وهو يمسد بيديه على رأسها برفقٍ: هرجعلك تاني...
وخرج من الغرفةٍ ليتركها بمفردها، نظراتها تلاحقه ببسمة صغيرة، ساعات قليلة قضتها إسراء بتذكر ما مر بحياتها، تذكرت كم كانت تثور وتغضب حينما كانت تجرى مكالمات متعددة ولم يأتيها الرد منه فكانت تظن بأنه يتجاهلها عمداً، اما الان فهى ترى بعينيها إنشغاله التام كونه طبيب، فتح الباب من جديد ليطل عنان من خلفه فاقترب منها قائلاً بابتسامة مريحة: المحلول يخلص وهنرجع البيت على طول..
تحرر لسانها رويداً رويداً فقالت بثقل كلماتها: ما احنا قاعدين... رمقها بنظرة مطولة فقال عابثاً بعد ان انتهى مفعول الدواء: أه اسيبك هنا عشان تحصل كارثة جديدة ده أنا حاسس اني خسرت نص الحالات بسببك... ابتسمت قائلة بمكرٍ: حد بيكره الراحة يا عم!.. أزال المحلول من وريدها ثم أمسك بمعصمها قائلاً: حاولي تقفي كده..
أغلقت عينيها بألمٍ وهي تجاهد للوقوف، فبالرغم من أن ولادتها كانت بدون الم ولكنها تشعر بألم بسيط محتمل، أمسك بها عنان جيداً ثم تحرك بجوارها برفقٍ حتى هبط معاها للسيارة، فتح الباب الخلفي ثم عاونها على الصعود، ليلتقط طفله الرضيع من الممرضة فناولها اياه، احتضنته اسراء بحبٍ ثم راقبته باهتمام، صعد لمقعد القيادة ليتحرك بسيارته تجاه المنزل فقالت بخبث وهي تتدعي بأنها تخاطب الرضيع:.
شوفت ابوك وبخله، مستحملش يقعدنا يومين تلاته نغير جو... استدار برأسه تجاهها ليجيبها ساخراً: لا حقيقي أنا آسف اني حرمتك من قعدة الفندق الفايف استار دا لا اسف بجد.. كبتت ضحكاتها وهي تجيبه بمشاكسة: لا يا حبيبي انت خوفت اقفشك مع اللي ما تتسمى حياة.. اشار بيديه بعدم تصديق: تاني يا اسراء تاني... ثم تطلع للطريق من امامه محاولاً السيطرة على أعصابه وهو يردد بصوتٍ خافت:.
أقلب العربية بيها وأموت معاها ولا أعمل ايه بس... حمد الله كثيراً حينما وصل للمنزل في دقائق معدودة فحملها بين ذراعيه برفقٍ بعدما التقطت والدتها الطفل من بين يدها، صعد بها لغرفتهما العلوية، فوضعها برفق على الفراش ثم كاد بالخروج فصرخت به بغضب: رايح فين؟. جز على أسنانه بغيظ فرسم بسمة مصطنعة وهو يجيبها: هريح شوية في اي مكان بالبيت دا لو معندكيش اي مانع.. اشارت له بعدم مبالاة:.
لأ، بس متروحش بعيد لو سمحت يمكن احتاج حاجة وأنت عارف اني بتحرج... خرج مسرعاً قبل أن يفقد زمام اموره فربما يقتلها او يقتل ذاته... ******************* مرت عدة أيام استردت بهما عافيتها فأصبح الطفل مسؤليتها، وخاصة بعد مغادرة والدتها، وضعت اسراء الصغير على الفراش ثم ايتلقت جواره لتغلق الضوء سريعاً، وفجأة على صوت صراخها العاصف فاستيقظ عنان على الفور وهو يردد بنومٍ: مين فين؟..
فتح الضوء المجاور للفراش ثم تطلع لجواره ليجدها مختبئة خلف الخزانة وهو تغطي انفها بأصابعها، تساءل باستغراب: في ايه؟. اشارت بيدها على الصغير: الحيوان ابنك عملها.. رفع حاجبيه بعدم فهم: عمل ايه؟. صرخت بوجهه بانفعال: عملها يعني عمل زي الناس يا دكتور... كبت غضبه وهو يشير لها بانفعال: ما ياخد راحته زعلانه ليه، انتي تقومي بواجبك وانتي ساكتة... قالت بانفعال ويا ترى ايه هو الواجب دا!. أجابها بذهولٍ:.
تغير البامبرز يعنيا... تعالت ضحكاتها الساخرة: دا مين دا اللي هتغيرله انت بتتكلم جد ولا بتهزر؟.. تطلع لها بدهشة: ههزر معاكي ليه امال متوقعة مين اللي يغيرله انا!. صرخت بوجهه بعصبية: انت مش محترم ازاي عايزة واحدة بنت محترمة ومتربية تغير لولد البامبرز ازاي تقبلها عليا!.. كاد بأن يصيبه شلل نصفي فردد بصوته الهزيل: منك لله، فوضت امري لله فوضت امري لله...
وحمل عنان الصغير ثم توجه لحمام الغرفة ليبدل له الحفاض اما هي فجلست على الفراش وهي تحدجه بنظرات انتصار كونه يشارك بأهم خطوة بتربية الاطفال... *************.
عامٍ يليه الاخر حتى أتى اليوم الحاسم لما يعانيه عنان، الطبيب الذي يختبر ما يحدث بعد الولادة، فربما ما رأه جعله يختتم الامر ويود لو أن يعانق كل أب بائس تسيطر عليه زوجته ويحدث به ما يحدث له، تحولت ملامح وجهه للعبوس وهو يتفقد نتائج الاختبار الذي اجراه لزوجته بعد مدة من التعب والارهاق فردد بصوتٍ يكاد يكون مسموع: مش معقول انتي حامل!. لكمته بيدها على صدره وهي تصيح بغضب:.
ومش معقول ليه ياخويا متجوزة رجل كنبة... دفعها عنان بضيق وهو يردد بخوف: يا ريت ياحتي افضل من الفضايح اللي هتحصلي بالمركز المرادي بسببك.. وعادت امامه ذكريات من شبح الماضي لهيبته التي اهتزت عمامتها على يدها، فجذبها من تلباب البيجامة الكرتونية التي ترتديها ليرفع صوته بتحذير: اسمعي اما اقولك اللي حصل من اربع سنين دا لو اتكرر ورحمة ابويا لاقتلك وقتي واهو يبقى احسن من العار اللي هيحصلي في مركزي..
ذهبت وعادت يميناً ويساراً انصياعاً لهزاته العنيفة فقالت: انت متشائم ليه يا عم ابتسم للحياة.. تعالى صوته الحاد: هو انتي خليتي فيها حياة، مهو لما يكون أنا اللي بأكل وأشرب وأغير البامبرز يبقى فين البسمة.. اشارت له بضحكة خليعة: مش ابنك دا ولا واخده كادو من واحدة ولدتها!.. لكمها بغيظٍ: ده انا اللي هطلعك كادو من الدنيا كلها... دفعته بحدة:.
طيب مش تصبر يمكن تطلع بت وتبقى وردية سودة على دماغي، وبعدين ده انت المفروض تفرح انك هتولدني بنفسك.. تعالت ضحكاته المخيفة وهو يصيح بغضب: ده عند ام اعتماد ولادة مبولدش هتفضلي هنا لحد ما امر الله ينفذ وتولدي لوحدك ولو ازمت اوي هجبلك الداية ام حسن تشوف شغلها معاكي... ربعت يدها في منتصف خصرها:.
داية مين، ايه جو التسعينات دا لا يا حبيبي ميبقاش جوزي عنده مركز ولادة اد الدنيا واولد عند الداية وبعدين انت مش عايزني اروح المركز ليه شكلك مشيت حياة وجبت بنتها ولا تلاقيها صبغت شعرها كروهات ولبست لبس حفيدتها وبتتمرقع عليك عشان تحيي الذي مضى.. القى بحقيبته السوداء أرضاً قائلاً بعصبية بالغة: وادي عدة الشغل، مفيش دكتور بعد كدا وابقي شوفي مين هيصرف عليا وعليكي..
وتركها وولج لغرفته فوقفت تتطلع للفراغ وهي تردد بشرود: هو زعل ولا ايه؟. ولحقت به قائلة ببسمة ماكرة: . اسمع بس يا عنونة ده انا مش هسببلك اي مشكلة خلاص انا عقلت كفايا سيبني استجم التسع شهور دول وفي العاشر نتعاتب ونتكلم في المركز.. رفع الغطاء عن وجهه وهو يجيبها ساخراً:.
ده لو حد رضى يولدك او يدخلك باب المركز من الاساس نسيتي اللي عملتيه فيهم ولا اللي عملتيه مع دكتور البنج. اللي قضى ليلة كاملة في الحبس بسببك مع المجرمين. اجابته بتذكر: عبده!، هو اللي قل ادبه ويستاهل اللي جراله وبعدين ده انا قدمتله خدمة العمر، اصل الراجل ده كان خرع كدا والليلة دي بعمره كله هتلاقي قلبه استوحش وبقى وحش.. تطلع لها بعدم تصديق ثم همس بصعوبة:.
اطلعي بره يا اسراء بدل ما اخبطك خبطة اسقطك واخلص الليلة قبل ما تبتدي.. وضعت يدها على جنينها ثم تطلعت له لترفع ذراعيها بالهواء: . يالهووووووي جوزززي عايز يساقطني انجدوني يا خلق... وفتحت النوافذ وهي تنادي بصوتها: يام اسماعيل الحقيني ياختي الراجل عايز يسقطني يا طنط منال اتصلي بماما وبلغيها وقوليلها تقول لحماتي.. كمم فمها وابعدها عن النافذة ليتمتم بغضب: الله يخربيتك اسقطك ايه انا دكتور محترم..
دفعته بعيداً عنها ثم قالت باندفاع: قول لنفسك ده انت محسسني انك ماشي معايا ده انا مراتك ياض ام ابنك حبيبك وابنك اللي في بطني ان شاء الله يجي ولد وتلبس الليلة برضو اقصد بت وتخفف عنك المسؤليات الكتيرة... وتمايلت برأسها على صدره، فكور يديه وكاد بان يلطمها على وجهها ولكنه تحكم بذاته خشية من ان تعود لوصلة الردح والنواح مجدداً فهمس بصوته الخافت: حسبي الله ونعم الوكيل في كل زوجة ظالمة... اجابته بشماتة:.
وفي كل زوج بيخلع من مسؤولياته يا عنونة بس برضو مهما تعمل وتخون وتولد ستات غيري بحبك برضك... تعالت ضحكاته بعدم تصديق فقال وهو يحتضنها: مجنونة بس بحبك... تمت نهاية الرواية أرجوا أن تكون نالت إعجابكم