رؤية موضوعية للمشكلة السكانية في البلدان النامية
الانفجار السكاني هو السبب. عند الحديث عن الفقر والتخلف والبطالة ونقص الطاقة والغذاء في العالم الثالث، سرعان ما تشير أصابع الاتهام لهذا السبب، فهل هو كذلك فعلا؟. في النصف الثاني من هذا القرن، اتخذ الفكر الاقتصادي الغربي ظاهرة ارتفاع معدل النمو السكاني سببا رئيسيا لتفسير الفقر والجوع في الدول النامية. وقد زحفت هذه الرؤية على نظريات التنمية التقليدية التي ترجع جميع المشاكل التي تعاني منها دول العالم الثالث إلى التزايد السريع للسكان. فمشكلات التخلف والبطالة والغذاء والطاقة وغيرها تعود إلى الانفجار السكاني. وعلى هذا الأساس أخذت الدول النامية على عاتقها هدف اعتناق تلك النظريات وترديدها والعمل بمقتضاها. فالخطاب العام لسياسة الإعلام في تلك الدول يؤكد دوما أن المشكلة السكانية عائق من أهم عوائق التنمية، زاعما أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية لن تتحقق ما لم تحل هذه المشكلة.
والحقيقة أن المشكلة تحدث نتيجة للفقر وليست سببا له. فالفقر هو الذي يؤدي إلى النمو السكاني السريع وليس العكس هو الصحيح. وبالتالي فمن أراد القضاء على مشكلة زيادة السكان فعليه القضاء على مشكلة الفقر أولا. ومن هنا فإن مشكلة تزايد النمو السكاني دليل صريح على عجز النظام السائد عن تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي على النحو الذي يوفر الغذاء والكساء والسكن والتعليم والخدمات الصحية وفرص العمل لكل مواطن قادر عليه. لماذا يكثر أطفال الفقراء؟
إن الفقراء هم الذين ينجبون أطفالا كثيرين. فالآباء الفقراء في غياب المعاشات أو الإعانة العامة يتطلعون إلى أبنائهم لإعالتهم في سن الشيخوخة. وبالنسبة للنساء الفقيرات واللائي تكون الفرص الأخرى محدودة أمامهن، يرتبط الأمن والمركز الاجتماعي بإنجاب الأطفال. ويضغط الفقراء من الآباء والأمهات على الزوجين الجديدين ليكون لهما أطفال. ويحمل هؤلاء الأطفال الذين يسقطون في براثن فقر والديهم أوضاعهم وظروفهم السيئة إلى الجيل التالي. وهكذا يكون الفقر هو السبب الرئيسي لكثرة الأولاد. وبالتالي يوفر لنا هذا السبب نقطة البداية لوضع سياسات عامة تتعلق بالسكان. فالفقر لا يعني انخفاض الدخل فحسب، بل نقص الفرص الاجتماعية والاقتصادية وانعدام المستقبل الآمن ومحدودية فرص الحصول على الخدمات.
وعلى وجه الإجمال يمكننا أن نقرر أن الفقر سبب بينما زيادة النسل هي النتيجة التي ينتهي إليها هذا السبب. وهذا هو السر في تعثر حملات التوعية التي تحاول عن طريق الكلمات المعسولة إقناع الناس بتنظيم النسل. فالفقراء يعرفون مصالحهم عادة، ويدركون جيدا أن الأطفال بمثابة ثروة اقتصادية لأنهم يقومون برعي الحيوانات وجلب الماء والحطب والروث، وشتل الأرز والتقاط بقايا الحصاد وقطف الأعشاب. والأطفال ينتجون في الحقيقة أكثر مما يستهلكون، وينظر الآباء إليهم على أنهم سند أساسي في العمل الزراعي وعلى أنهم تأمين ضد الشيخوخة.
الإصلاح الاجتماعي
ومن هنا فإن حل المشكلة السكانية يتطلب أن تتغير حياة الفقراء بطرق حاسمة، فالدخل المناسب وضمان الشيخوخة - وهي الاحتياجات التي تجري تلبيتها عن طريق إنجاب الكثير من الأطفال - يتم تلبيتها بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي بحيازة أكثر ضمانا للأرض، وبإمداد بالطعام أكثر ثقة، وبرعاية صحية أفضل، وبضمان للشيخوخة.
لقد عرفت أوربا إبان القرن التاسع عشر نموا انفجاريا مماثلا، بيد أنها اجتازت هذه المرحلة من نموها السكاني من خلال تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعيش فيها الأسرة، فاستطاعت أن تجعل معدلي المواليد والوفيات يتوازنان عند مستويات منخفضة. وهذا يؤكد أن التغير السكاني هو في الأساس دالة لهذه الظروف، وأنه من المستحيل تحقيق تقدم ملموس في التغير السكاني ما لم تتغير هذه الظروف. وعليه فإن رفع مستوى الحياة الإنسانية وتغيير علاقات الإنتاج ومناخه وإطلاق الحريات هو وحده الكفيل بوقف هذا الانفجار السكاني. وتأسيسا على هذا الفهم يجب أن تعبأ كل الإمكانات وتستخدم كل الطاقات من أجل تحقيق التحرر الاقتصادي وبناء التنمية المستقلة، التي تهدف إلى إشباع الحاجات الأساسية للسكان في إطار من الاعتماد على الذات وفي ظل عدالة اجتماعية.
ولسنا نقلل من الحاجة إلى عمل إيجابي في وضع برامج تنظيم الأسرة ما دامت قد جرت تلبية الشروط الاجتماعية، ولكننا نقف بحزم ضد برامج تنظيم الأسرة التي تزعم تخفيف مشكلة الفقر لأنها تحمل رسالة مؤداها أن الفقراء هم الملامون على فقرهم، وتخفي في الوقت ذاته الجذور الاقتصادية والسياسية الحقيقية لمعاناتهم. إن الشيء الضروري هو إعادة بناء النظام الاجتماعي بما يزود جميع أفراد المجتمع بالضمان المادي الأساسي بحيث يصبح تحديد النسل اختيارا معقولا. ثم تأتي أهمية برامج تحديد النسل لتجعل إنجاب الأطفال أقل اختيارا ممكنا كذلك. ولنا أن نعرف من عبرة التاريخ أن الإقبال الواسع والطوعي على تنظيم النسل في دول أوربا إنما جاء في مرحلة لاحقة للثورة الصناعية نتيجة لتغير ظروف حياة أفراد المجتمع خاصة بعد أن ارتفع مستوى معيشتهم وزاد تعليمهم، وبعد أن تغير وضع المرأة في المجتمع وبعد أن انتهت ظاهرة تشغيل الصبية والأطفال وانفصالهم عن عمليات الإنتاج.
خرافة الندرة
ولا تعتبر مشكلة النمو السكاني السريع مشكلة عدم التكافؤ بين أعداد السكان والموارد الاقتصادية المحدودة. ذلك أن التقدم الاقتصادي لأي دولة لا يعتمد على الموارد الطبيعية الوفيرة بقدر ما يعتمد على الكفاءة في حفز شعبها وفي استخدام عمله. والبشر يبدون عقبة فقط في نوع معين من النظام الاقتصادي، وهو النظام الذي لا يقاس فيه التقدم الاقتصادي برفاهية جميع أفراد المجتمع والذي يتزايد فيه احتكار الإنتاج من جانب القلة والذي تستخدم فيه التكنولوجيا لاستبعاد البشر من عملية الإنتاج. ففي إنجلترا القرن السادس عشر أدى التغيير في استخدام الأرض إلى وجود بطالة في الزراعة حينما قرر كبار الملاك أن تربية الأغنام أكثر ربحا من زراعة المحاصيل. وقد ترتب على هذا التحول الاستغناء عن عدد كبير من عمال الزراعة وظهور بشر أكثر مما يجب. وهكذا لم يوجد الازدحام السكاني إلا مرتبطا باقتصاد معين يقوم على رعي الأغنام. ففي القرن السادس عشر كان إجمالي عدد سكان إنجلترا كلها أقل من عدد سكان أية مدينة واحدة من المدن العديدة في إنجلترا اليوم. ومن الثابت الآن أن عملية الاستعاضة عن البشر بالماكينات ليست لها قيمة اجتماعية في بلدان تملك موارد عمل ضخمة غير محدودة، ذلك أن القيمة لن تعود إلا للمالك الذي يتمكن من استخدام الآلات للحصول على أقصى ربح ممكن. وفي الدول النامية أدى إدخال الآلات على نطاق واسع في المزارع الكبيرة إلى الاستغناء عن كثير من العمال الزراعيين وخروجهم تماما من دائرة العمل الزراعي، الأمر الذي أدى إلى تفاقم مشكلة فائض السكان في الريف. ومن ناحية أخرى ضاعفت الشركات الأجنبية من زيادة مشكلة البطالة وذلك باستخدامها لفنون إنتاجية موفرة للعمل مكثفة لرأس المال. ومع استمرار عملية إحلال الآلات محل العامل، فإن كل ما يراه المشاهد هو المزيد من البطالة وبالتالي يستنتج أن هناك بشرا أكثر مما يجب. قضية إنتاج الغذاء
ومن الخطأ أن نعزو سبب الجوع في مناطق شاسعة من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى كثرة عدد سكانها. فمشكلة هذه الشعوب إنما تكمن ليس في كثرتها وإنما أساسا في طبيعة النظم الاجتماعية التي تتحكم في مصائرها وتفشل في تدبير الغذاء لشعوبها. والجوع سواء في شكله المطلق أو النسبي ليس قدرا محتوما أو نتيجة لبخل الطبيعة وشحتها، وإنما هو انعكاس أصيل لعجز القطاعات المنتجة للمواد الغذائية عن مواكبة الاحتياجات الغذائية المتنامية لشعوب هذه الدول الآخذة في التزايد. ومهما يكن من أمر فإنه يجب أن ندرك أن تشخيص مشكلة نقص الغذاء والجوع بأنها نتيجة لندرة الأرض هو لوم للطبيعة على مشكلات من صنع البشر. فهناك موارد كافية لإنتاج الغذاء في البلدان التي بها عدد هائل من سيئي التغذية أو الجائعين. ولكن هذه الموارد تعاني دائما من قلة الاستخدام أو من سوء الاستخدام مما يؤدي إلى الجوع وسوء التغذية بالنسبة للكثرة والتخمة للقلة. ففي غالبية الدول النامية تزداد مساحات المحاصيل الترفية ومحاصيل التصدير، بينما يجري إهمال المحاصيل الغذائية الأساسية. ويساء استخدام موارد إنتاج الغذاء عندما تتحول بصورة متزايدة عن تلبية احتياجات الغذاء الإنسانية، إلى إشباع الأغنياء وذلك حينما يخضع قوت الشعب الضروري لأطماع الباحثين عن الربح بأي ثمن داخل مجتمعهم أو خارجه. كما يستخدم بعض الإنتاج الزراعي غذاء للماشية لإنتاج اللحوم التي لا تقدر على شرائها أغلبية السكان المحليين. وفوق ذلك فإن تحويل أراضي محاصيل الغذاء إلى محاصيل علف لم يستبدل فقط مصدرا رخيصا للبروتين بآخر مكلف، بل إنه قلل أيضا من إجمالي توافر البروتين في البلاد، لأن المصادر الحيوانية للبروتين أقل كفاءة في الإنتاج من المصادر النباتية. وما يهمنا الإشارة إليه هو أنه حينما تخضع الموارد الزراعية لقلة الاستخدام، وحينما يستنزف نتاجها بصورة متزايدة لزيادة ثروات حسني التغذية، فإنه لا يمكن اعتبار ندرة الموارد سببا لمشكلة نقص الغذاء والجوع. وما دام لدينا من يقوم بأنشطة تؤدي إلى خلق الندرة من قلب الوفرة، فإن القول بأننا نبلغ الحدود القصوى للطبيعة يعتبر أمرا أسوأ من مجرد التضليل. فالإيحاء بذلك يبرر بقاء واستمرار النظام الاجتماعي السائد الذي يولد الندرة دون أن نفهم حقيقته. وفي الوقت ذاته يجري خداع الشعوب بصورة مرعبة من نقص الغذاء والانفجار السكاني. وهكذا تعمل تلك المقولات لصالح أفراد القلة الذين استولوا على الثروة لأنفسهم، وهي القوى التي تخرب دوما رفاهية السكان في البلدان النامية. وأخيرا يجب أن نوضح أن الكثافة السكانية والنمو السريع يمكن أن تكون مشكلات حادة. ولكن هذه المشكلات هي أعراض لعجز الكثيرين عن اختيار أطفال أقل. كذلك فإن العوامل السكانية يمكن أن تكون عائقا في إعادة بناء الهياكل الاقتصادية والاجتماعية على النحو اللازم للقضاء على الفقر. إلا أن الخطأ هو تحويل مشكلة السكان - وهي عرض - إلى سبب الفقر. وليس هذا لغوا لفظيا. فالتوصل إلى حل مشكلة يعتمد كليا على قدرة المرء على تحديد أسبابها. والسبب الجذري للفقر يرتبط بعلاقة أفراد المجتمع ببعضهم وبالسيطرة على الموارد الاقتصادية الأساسية. وما دام الناس يعتقدون أن الأسباب الرئيسية تكمن في أمور أخرى، فسوف يتم إغفال هذا السبب الجذري وسيصير الناس في الدول النامية أكثر فقرا وجوعا.