كان قسطا بن لوقا البعلبكي (حول 205 - 300 هـ) طبيبا من مواليد بعلبك. وكان إلى ذلك، عالما كبيرا كما كان مترجما ماهرا. وقد وضعه (ابن) النديم في مكانة تعلو عن مكانة حنين بن اسحق بسبب سعة اطلاعه ومقدرته العلمية ويبدو أن قسطا بن لوقا، الذي كان مسيحيا، زار عاصمة البيزنطيين، وعاد مصطحبا عددا من كتب الطب من هناك، وهي التي عكف على دراستها. وإلى هذا يعزو غرت بوز، ناشر الرسالة ومترجمها إلى الإنجليزية، معرفة قسطا بالأدب الطبي البيزنطي، وخاصة بولس الايجيني، الذي أصبح مصدره الأول في هذه المعرفة..
وقد استدعى الخليفة المستعين (248 - 252 هـ/ 862 - 866 م) قسطا إلى بغداد، حيث قام بأعمال الترجمة لعدد من الكتب الطبية، وإعادة النظر في ترجمات قديمة. وفي بغداد التقى قسطا الفيلسوف الكندي والمترجم الماهر حنين ابن اسحق والعالم ثابت بن قرة.
في وقت لاحق لبى قسطا دعوة سنحاريب صاحب أرمينية. ويبدو أن هذه الدعوة جاءت بين 860 و 870 م، وأن قسطا قضى بقية عمره في البلاط الأرمني. وهناك وضع الكثير من مؤلفاته.
بعد أن يورد بوز هذه الأمور عن قسطا بن لوقا البعلبكي يقول: إن هذه النتف التي نحصل عليها عن قسطا هي كل ما ورد في المظان العربية (ص 2).
والرسالة - "رسالة في تدبير سفر الحج" - وجهها مؤلفها إلى ابن مخلد وهو الحسن بن مخلد بن الجراح (ويكنى أبا محمد). وقد خدم في بلاط المتوكل (232 - 247 هـ/ 847- 861 م) ثم وزر للمعتمد (256 - 279 هـ/ 870- 892 م) مرتين. وقد نشرت الرسالة مع ترجمتها وحواشيها في ليدن سنة 1992. يبدو أن الحسن بن مخلد كان قد اعتزم أداء فريضة الحج. وقد كان قسطا يرغب في مرافقة ابن مخلد، لكن ذلك لم يتم له، فآثر أن يكتب هذه الرسالة في تدبير سفر الحج، ويبعث بها إلى الأمير، والمهم أن هذه الرسالة جاءت في غاية التفصيل لما قد يحتاجه "في كتاب ينوب عن حضوري بعض النيابة. وإلى الله أرغب في إيناس الخاص والعام من أوليائك وأصحابك بأوبتك سالما معافى" (ص 16 و 18). ما يحتاج إليه المسافر
الرسالة عني ناشرها بها عناية خاصة من حيث التوثق من نسبتها ودقة النشر وصحة الترجمة إلى الإنجليزية والتعليقات التي أضافها إليها (ص 68 - 157). فضلا عن ذلك فهناك فهارس للمصطلحات الواردة في الرسالة بالعربية ثم بالإنجليزية (ص 159- 169) وتفسير للألفاظ والمصطلحات الطبية أو المتعلقة بالطب. وآخر ما أورده الناشر من الجداول هو المتعلق بالمصادر والمراجع. يصف قسطا بن لوقا رسالته بأنها تحتوي أصلا أمرين أساسيين: الأول التدبير الذي يحتاج إليه في السفر بالجملة. والثاني ما يحتاج إليه من التدبير في هذا السفر (الحج) خاصة:
"الأشياء التي تحتاج إلى علمها من أمر تدبير الأبدان في الأسفار بالجملة هي أربع (كذا) معان: الأول منها العلم بالتدبير في وقت الراحة والطعام والشراب والنوم والباه. والثاني العلم بأصناف الإعياء والشيء الذي يذهب بكل صنف منه. والثالث العلم بالعلل التي تعرض من هبوب الرياح المختلفة وعلاجها. والرابع العلم بالتحرز من الهوام وعلاج آفاتها إذا وقعت. فهذه الأشياء التي تحتاج إلى علمها والعمل بها في الأسفار كلها. فأما سفر الحج فمع الحاجة فيه إلى هذه المعاني، قد تخصه أربع (كذا) معان أخر: الأول منها العلم باختلاف المياه وإصلاح الفاسد منها. والثاني الاحتيال في عدم الماء وقلته وما يقطع العطش. والثالث العلم بالتحرز من الأشياء التي يتولد منها العرق المدني وهيجان البواسير. والرابع التحرز من الحيات والعلاج من آفاتها".(ص 18 و 20). ويذكر قسطا مخاطبه بأنه يقدم له "كل ما تحتاج إليه من العلم بهذه المعاني على ما قال الأوائل في ذلك" (ص 20) وقد جعل المؤلف رسالته في أربعة عشر بابا. نماذج من الرسالة
رأينا، بعد أن قلبنا الأمر على وجوهه، أن نختار نماذج من هذه الرسالة يكون كل منها وحدة كاملة. فاخترنا الباب الأول عن "التدبير في نفس المسير وأوقات الطعام والشراب والنوم والباه"، وبعض الباب الثالث في أسباب الدلك، والباب الثامن في امتحان المياه المختلفة.
"الباب الأول كيف ينبغي أن يكون التدبير في السير نفسه وأوقات الطعام والشراب والنوم والباه. ينبغي أن يكون السير في الأوقات التي يكون منها الهواء في أحمد أحواله، أعني أن يكون قريبا من الاعتدال وأن يكون بريئا من الحر المفرط والبرد المفرط وأن يشد الحقوين والصدر والصلب بعمائم لينة شدا معتدلا يمنع البدن من الاهتزاز في أوقات الحركة الدائمة وأن يتوقى تناول الغذاء في أوائل المسير أو في وسطه. بل يكون التدبير في المسير والغذاء والراحة والباه على ما أصف. ينبغي أن يكون السير إذا كان البدن مستريحا والمعدة نقية من الطعام وخروج فضل الغذاء من البطن والأمعاء. وليتوق المسافر أن لا يكون أكله في المسير، فإن اتصل وطال صير ما يغتذي به في السفر سويق السلت (1) أو كعكا وسكرا يشربه بماء بارد أو شراب الخوخ (2) أو شراب الأجاص أو جلاب (3) وسكنجبين مجمعين، بعد أن يكون السكنجبين (4) أقل، (لأن هذا وحده لا يكفي) (5) في أوقات المسير والحركة، أو أكل لوز مقشر من قشرته مع سكر. فإذا نزل المنزل بادر بالراحة والنوم مدة يسيرة، فإن احتاج إلى استعمال الباه كان استعماله ذلك بعد الراحة اليسيرة من تعب حركة المسير. ثم يستعمل صب الماء الفاتر على بدنه ومرخه بلا دهان (6) المعتدلة المزاج المقوية للأعضاء والمصلبة لها، كدهن الورد ودهن الآس والأدهان المعمولة بالأفاويه العطرية، ثم يدلك ويصب على البدن ماء فاتر أو معتدل البرودة ليصلب البدن ويشد ما قد تخلخل منه بحركة المسير. ثم يتغذى بعد ذلك بالغذاء الذي قد أحكمت صنعته وعنصره ووفق من كميته على أنه يكفي إلى أن يبلغ المنزل الآخر إن كان السير متصلا. وأصلح ما يغتذي به ما يولد أخلاطا معتدلة سليمة من الاستحالة إلى الأخلاط الرديئة والفساد في المعدة مثل لحوم الجدايا والحملان الحولية والفراريج والدراريج، إذا كانت صنعتها سليمة من الفلفل والكرويا والخولنجان والدار صيني (7) وسائر الأبازير الحارة. فإن اقتصر في صنعتها على الشواء والكردناج (8) كان صالحا. فإن وجد البيض فمخه (9) نيمبرشت (10) كان من أحمد ما يتغذى به، وبعد الاغتذاء ينبغي أن يستعمل النوم والراحة إلى وقت الحركة للمسير الثاني. فإن من تدبر بهذا التدبير يسلم من أن تحتد في بدنه الأخلاط أو يعرض له إعياء أو غيره من الآفات التي تتولد عن الحركة والسير الشديد المتصل (11).
أصناف الغمز
"الباب الثالث في أصناف الغمز ودلك القدم وفي أي الأحوال يحتاج إلى كل صنف من أصناف الغمز وفي أيها يحتاج إلى دلك القدم. الغمز ثلاثة أصناف فمنه صنف يكون بدلك شديد مفرط الشدة يصير به البدن إلى حال انتفاخ ولا تثبت فيه أصابع الغامز على موضع واحد من البدن، بل يجول على البدن صعدا وسفلا، وهذا الصنف من الغمز اسم الدلك به أولى من اسم الغمز. ومنه صنف يكون بضغط شديد وكبس على الأعضاء تلزم فيه الكف والأصابع موضعا واحدا من البدن على خلاف الصنف الأول. ومنه ما يكون ذلك برفق ولين لا شدة معه ولا إتعاب للغامز. فالغمز الذي يكون بالدلك الشديد يحتاج إليه إذا قد اجتمعت في البدن بخارات كثيرة متكاثفة قد تحيرت في البدن وبقيت فيه، وحدوث هذه البخارات يكون إما عن راحة كثيرة وبطالة وغذاء كثير وإما عن تعفن وحرارة غريبة خارجة عن الطبيعة، وذلك إنما يتهيأ عند تكاثف الجلد وتلبده. ففي هذه الأحوال جميعا ينبغي أن يستعمل هذا النوع من الغمز، أعني الذي يكون بدلك شديد ومسح بقوة صالحة وأن يكون ذلك في الأعضاء التي تغمز متساويا ولا تكون أطراف الأصابع والإبهام في ذلك أكثر مما تعمله الراحة وسائر الكف. فإن استعمل هذا الصنف من التغميز يخرج تلك البخارات المحتقنة ويحللها عن البدن، فيحدث من ذلك للبدن راحة بينة. وهذه الحال من الغمز ينبغي أن تتوقى وتجتنب فيمن قد تعب تعبا شديدا أو استعمل رياضة مفرطة. وذلك أن من كانت هذه حاله يكون قد انحل عن بدنه بالتعب والحركة وسخف وتحلل منه ما لا يحتاج معه إلى زيادة تحليل وتخلخل، بل هو إلى تشديد بدنه وتصليبه أحوج. وأما الغمز الذي يكون بشد اليد على الأعضاء شدا شديدا لا بالدلك الشديد فذلك يحتاج إليه في وقت الإعياء المتولد عن التعب، وذلك أن هذا الغمز يشد البدن ويجمع بعضه إلى بعض حتى يذهب عنه التخلخل والتسخن الذي اكتسبه من التعب. فأما الغمز الذي يكون برفق ولين فيحتاج إليه في التدبير الذي يسمى الإنعاش، أعني به تدبير الناقة (12) من مرض حار وفي أبدان المشائخ والصبيان وفي أبدان المعمرين" (13). اختلاف المياه وفسادها
الباب الثامن "في امتحان المياه المختلفة ليعلم أيها أصلح. أجود المياه وأحمدها: "ما كان لا طعم له ولا رائحة ولا لون وهذا ال** من المياه يكون صافيا، سليما من مخالطة سائر الأجسام إياه. وذلك أن كل ماء يحس له طعم أو لون أو رائحة فإنما يحس ذلك فيه من جوهر آخر قد خالطه، فيظهر ذلك الجوهر في طعمه ولونه ورائحته. ولذلك ينسب ذلك الماء إلى ذلك الجوهر الذي خالطه فيسمى ماء كبريتي أو بورقي أو قفري أو نطروني أو بغير ذلك من الأسماء. فما كان سليما من مخالطة شيء من هذه الجواهر فإنه لا محالة يكون صافيا في لونه، لذيذا في ذوقه، طيبا في رائحته، ينفذ عن المعدة إلى الأعضاء نفوذا سهلا. فأما ما غلبت عليه رائحة كريهة أو طعم رديء أو لون كدر فينبغي أن يجتنب. وأقوى دلائل الماء المحمود: الدليل الذي ذكره بقراط وهو أن يبرد سريعا ويسخن سريعا وأن يكون في ينبوعه في الصيف باردا وفي الشتاء فاترا. والمياه المجتمعة من الأمطار في نقايع نظيفة هي مياه محمودة نافعة لأن الشمس قد طيبتها وأذهبت كل آفة كانت فيها وسخنتها وحللت أجزاءها. فأما المياه التي نكون من ذوبان الثلج والجليد وما شابه ذلك فهي كلها رديئة ضارة، وذلك أن في وقت جمودها يتحلل كل ما كان فيها من جوهر رقيق لطيف ويبقى أغلظ جوهرها وأكثفه. فلذلك ينبغي أن تجتنب وكذلك كل ما كان من المياه مجتمعا في مواضع مستترة عن الشمس كثيرة التبن والطين فإنها كلها رديئة" (14).
معالجة المياه
اخترنا هذه الأبواب الثلاثة كاملة لكي تتضح للقارئ النظرة الكاملة لبعض الأمور التي عني بها قسطا بن لوقا البعلبكي. لكن هذا الرجل تناول في رسالته أمورا أخرى لا تقل أهمية عما ذكرناه. ففي الباب التاسع مثلا (ص 58 و 60)، يتناول الطرق التي تتبع في إصلاح المياه الفاسدة. فإنه، بعد أن يقرر فساد المياه، لا يترك صاحبه في حيص بيص. فهو يقول "فإن اضطر مضطر إلى أن يشرب شيئا من هذه المياه الفاسدة... فينبغي أن يحتال لإصلاحها، بما أصف: ينبغي أولا أن يطبخ طبخا صالحا، أعني أن يغلي على النار، وأن يمزج بعد الطبخ ببعض الأنبذة أو الافشرجانات، وأن يكون ما يمزج به من الأنبذة في ضد طعم الماء. (ص 58). والأنبذة واضحة المعنى. ولكن ما هي الافشرجانات؟ هي، على ما يتضح من النص ومن التفسير، أنواع من العصير الذي له ما يصفي هذا الماء الكدر، إلا أننا لا نجد عنده تفسيرا أو توضيحا لهذا العصير.
أما الماء الكدر والملح فيجب أن يصفى مرارا حتى يصفو وتذهب عنه كدورته. ويضيف أن الشعير يصلح لتصفية الماء الكدر (هوامش 239 و 240 و 241 ص 124 و 125). وهكذا فإن هذا الطبيب يتابع إرشاداته بخصوص الماء، كما أنه ينصح ابن مخلد في أمور تتعلق بالحيات وسمومها. ويبدو لنا هنا: لماذا بدأ قسطا بن لوقا حديثه لابن مخلد بأن أشار إلى نوعين من العناية الصحية الواحد العام والثاني المتعلق بتدابير متصلة بالحج. ولعل الجواب هو أن الأمور العامة التي أشار إليها كانت صالحة لكل سفر بقطع النظر عن وجهته، إذ إن المرء يكون له شيء من الحرية في اختيار الطريق وانتقاء الوقت المناسب للسفر، أما فيما يتعلق بالحج، فالطريق معين، والوقت محدد. ومن هنا فقد كانت الأخطار والمشكلات التي يتعرض لها الحجاج تختلف عما يلاقيه المسافرون الآخرون. والذي نريد أن نقوله هنا هو أن رسالة قسطا بن لوقا البعلبكي في تدبير سفر الحج. تمثل ما توصل إليه الطب العملي في دنيا العرب في القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي، وقد وضعه المؤلف في رسالة واضحة الأسلوب دقيقة المبنى. في رسالة من هذا النوع وترجمة على هذا النوع من العناية وهوامش قد لا يكون لها مثيل نستمتع نحن بقراءة لطيفة وعلم غزير. وهذا هو السبيل لإحياء تراثنا.. ولعلنا نقوم نحن بمثل ما قام به غرت بوز (Gerrit Bos).