بعد قرون من النسيان والإهمال عاد "طريق الحرير" إلى ذاكرة البشرية عن طريق الأفلام الوثائقية والبعثات التي نظمتها اليونسكو لاقتفاء أثر هذا الطريق. بعثات شملت البر والبحر لتؤكد أن هذا الطريق الحيوي لم يكن فقط معبرا للتجارة ولكن لتبادل الثقافات أيضا. وحول بعثة طريق الحرير البرية عام 1991 يدور الحديث في هذا الكتاب. في تقديمه هذا الكتاب يقول المؤلف: "أردت أن أركز فيه على حقيقة، مهمة لنا، نحن العرب، كادت تضيع في العدد الأكبر من الكتابات، المنشورة عن طريق الحرير، ومفادها أن الدور المهم لطريق الحرير، كشريان دفاق، لم يقتصر على نقل تأثيرات الشرق الأقصى إلى "الغرب" وحسب، بل إن الدور الأهم لهذا الشريان الحيوي هو، في قناعتي، أنه واسطة لنقل ثمرات الثقافة العربية- الإسلامية من الغرب) إلى الشرق. فالحديث عن طريق الحرير لا يجوز أن يكون في اتجاه واحد ووحيد، قادم من الصين، بل إن ثمة اتجاهاً آخر له، يبدأ في بلاد الشام والجزيرة العربية، البؤرة القديمة لانطلاق الثقافات إلى القارات الثلاث- آسيا، أوربا، إفريقيا- فقضية نقل الحرير تبقى ثانوية، بالمقارنة مع المهام الحضارية التي كانت تؤديها تلك الطريق" وبالفعل فإن هذا الدف يظل نصب عيني المؤلف على مدى رحلته الطويلة، الشاقة والشائقة، التي استمرت قرابة شهرين، قطع خلالهما زهاء 18 ألف كم فهو يحاول رصد "الجوانب المؤيدة لدور العرب والمسلمين الإيجابي، الذي لاتزال آثاره بادية في مظاهر الحياة في بلاد آسيا الوسطى... ففي الخرائب والمقابر ومراكز العمران أرى ملامح العرب والمسلمين، تمتد بين بحر الخزر وصحارى الجوع والموت وسهول تركستان". ومن أجل دعم وجهـة نظره هذه لا يكتفي الكاتب بمشاهداته، بل ويستعين بشهـادات العديد من الرحالة والبحاثة الغربيين، بمن فيهم الكاتب الألماني هيرمان، في كتابه، الصادر عام 1910، تحت عنوان "طريق الحرير القديم بين الصين وسوريا" مؤكدا أن ورود اسم سوريا، مقرونا باسم الصين، تحت موضوع "طريق الحرير" إشارة علمية وتاريخية إلى أهمية سوريا على طريق الحرير، كما يستشهد المؤلف بكتاب أوليغ- "بطريق الحرير"، الصادر عام 1990، والذي يشير فيه إلى تدمر وأهميتها، فيقول: " كانت تدمر نقطة التقاء جميع الناس، وظلت محافظة على غناها وازدهارها التجاري مئات السنين، وكانت أغنى وأجمل المدن المعروفة على طريق الحرير الغربي" أصل التسمية
لم يكن الحرير المادة الوحيدة، التي سلكت هذا الطريق القديم، فقد عبرته أيضا، مواد أخرى، قد لا تقل عن الحرير أهمية كالذهب، والفضة، والزجاج، والصوف، هذا بالإضافة إلى دوره الكبير في تحقيق الاحتكاك الحضاري والتفاعل الثقافي بين الأقوام والشعوب والحضارات المختلفة، وفي انتقال الأديان من الغرب إلى الشرق، فمن سوريا وصلت الديانة النسطورية، ومن الهند جاءت الديانة البوذية. "كان النسطوريون، وهم بمجموعهم آراميون... رسل ثقافة، فقد خرج رهبان ومبشرون عديدون من سوريا إلى أواسط آسيا، يحملون الكثير من العادات والتقاليد العربية..." إذن فلماذا طغت تسمية "طريق الحرير" على كل التسميات الأخرى، التي تداولها الناس في العالم؟ يؤكد المؤلف أن تسمية " طريق الحرير جديدة، لا يزيد عمرها على فرن واحد، وأن الباحث الجغرافي والجيولوجي، فون ريشتهوفن، أول من استخدمها في كتابه، الذي يصف فيه رحلته الاستكشافية إلى الصين، ولم تلبث هذه التسمية أن ذاعت وانتشرت، وبدأت تطغى على غيرها، بفضل "وقعها الحسن على المسامع والنفوس، وملمسها الناعم على الإحساس، وقيمتها المادية الكبيرة... ولما كان لتجارة الحرير الصيني من أثر كبير في تطور وازدهار العديد من البلدان". كاد الاهتمام بطريق الحرير يتلاشى، وأصبح، حتى عهد قريب، قصرا على الاختصاصيين والبحاثة، المهتمين بالعالم القديم تاريخيا وجغرافيا، أما العامة فكان جل اهتمامهم محصورا بمعرفة القصص والنوادر والخرافات ألتي تقرن به. بيد أن الردة في إلى الماضي التراثي، التي حدثت في السنوات الأخيرة، ردت إلى طريق الحرير بعضا من اعتباره. وفي العقد الماضي حديث انعطاف حاد في مجرى حياة "طريق الحرير"، حين بدأ عرض سلسلة من الأفلام الوثائقية، التنقزيونية، الشائقة، التي قام بتصويرها فريق علمي ياباني، متنقلا بين الصين وآسيا الوسطى وبلدان شرق المتوسط. ومع بداية العقد الجاري بدأ الاهتمام بطريق الحرير يزداد بوتائر سريعة في معاهد البحث العلمي، وفي الجامعات وأكاديميات العلوم في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، وقد وصل هذا الاهتمام ذروته إبان التحضير لبعثة "طريق الحرير- طريق الحوار"، التي نظمتها اليونسكو 1990- 1991، في إطار برامجه الثقافية حول هذا الطريق، والتي نفذ بعضها، ولا يزال الأخر قيد التنفيذ، بما فيها البعثات العلمية التالية، التي نفذت: - بعثة طريق الحرير- عام 1990 - بعثة عام 1992- نحو طريق الحرير، غير سيبيريا الغربية وجبال الأورال. البعثة البحرية
في عام 1990 أقلعت سفينة "فلك السلام" العمانية، من البندقية، النافدة البحرية الغربية لطريق الحرير البحرية، ومدينة ماركو بولو، الذي يرتبط اسمه بـ "طريق الحرير" أيضا، وعلى متنها المشاركون في بعثة اليونسكو البحرية. استمرت رحلة "فلك السلام " أربعة أشهر، مرت خلالها بشواطئ خمس عشرة دولة أوربية وآسيوية. لتلقي بمرساتها- أخيرا- في ميناء نانيفا، الياباني القديم، وفي إطار هذه البعثة، الأولى من نوعها، عقد العديد من الدورات والبعثات واللقاءات العلمية، التي سلط فيها الضوء على الكثير من المواضيع المهمة، ذات الصلة ب "طريق الحرير". البعثة الثانية
في صيف 1991 جردت اليونسكو بعثتها البرية لاستكشاف جز محدد من الطرق السهبية، ومعالمها، والمواقع المهمة والآثار المنتشرة فيها، انطلاقا من مدينة عشق اباد، عاصمة تركمانستان في 19 نيسان- أبريل- وانتهاء بمدينة ألما- آتا عاصمة جمهورية كازاخستان، في 17 حزيران- يونيو. وبدورها، جاءت هذه البعثة غنية بالمشاركين فيها، فقد ضمت وفودا من 27 دولة، وكان معظم المشتركين من المؤرخين والآثاريين والجغرافيين، بمن فيهم أساتذة في الجامعات والمعاهد والمؤسسات العلمية. ومن الدول ما مثلت بمندوب واحد، ومنها ما مثلت بأكثر، وهذه الدول هي، عدا الاتحاد السوفييتي- السابق-: أفغانستان، كندا، الصين، فرنسا، إسرائيل، اليابان، كوريا، منغوليا، باكستان، الفيلبين، بولندا، تايلاند، تشاد، تركيا، انجلترا، الولايات المتحدة، وسوريا..
كانت البعثة الثانية غنية- بدورها- بالمشاهدات الميدانية، والندوات العلمية، وتمخصت عن العديد من النتائج والتوصيات المهمة. ولما كان المؤلف (وهو ذو باع طويل في ميدان الجغرافيا، إذ يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الطبيعية (الجغرافيا) من جامعة لودفيغ ماكسميليان في ميونيخ، منذ عام 1970، ويعمل في هذا المجال في جامعة دمشق منذ ربع قرن تقريبا) من بين المشاركين في هذه البعثة، فإنه يطوف بنا على صفحات كتابه بين المدن والأوابد العريقة، التي سمعنا وقرأنا عنها الكثير، دون أن تتاح لنا فرصة رؤيتها. ومن بين هذه المدن يشدنا، بخاصة، تلك التي ارتبط اسمها بالتاريخ العربي- الإسلامي، والتي تدين للحضارة العربية- الإسلامية بازدهارها وشهرتها، ولما كانت هذه الشواهد والمعالم أكثر من أن تحصى، ويستحيل الحديث عنها في هذه العجالة، فسنكتفي بسمرقند نموذجا، باعتبارها الأكثر أهمية، والأوسع شهره. سمرقند الخالدة
تدل التنقيبات الأثرية على أن مدينة سمرقند تضرب بجذورها عميقا في أغوار التاريخ القديم. فقد اكتشفت فيها آثار، تعي إلى العصر الحجري القديم. لكن بداية ازدهارها تعود إلى القرن الخامس ق.م وقد استمرت حقبة الازدهار هذه حتى القرن الثامن الميلادي، حين فتحها العرب المسلمون (عام 87 هـ. 712 م.)، ومنذ ذلك بدأت مرحلة نوعية جديدة في تاريخها، وأصبحت تشغل مركز الصدارة في النهضة العلمية، الدينية والدنيوية، التي شهدتها آسيا الوسطى آنذاك، واستمر ذلك إلى أن حدثت المجزرة الكبرى، على يد جنكيز خان، ولكن سمرقند لم تلبث أن نهضت من كبوتها، وبدأت تستعيد أمجادها السالفة، مع بداية الحقبة التيمورية، أي منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، فقد رد لها تيمور اعتبارها، وجعلها عاصمته، وأراد أن ينافس بها مكة، ويجذب إليها أنظار المسلمين من شتى أرجاء آسيا... وفي عهده، وعهد أسرته، شهدت سمرقند نشاطا عمرانيا واسعا، فأحيطت بسور عظيم، بطول سبعة كيلو مترات، له ستة أبواب، ويتصل بقلعة منيعة، وثمة في الوسط قمر فخم- كوك ساراي، يحميه جدار شاهق، بعلو ثمانية أمتار، ومنذ ذاك أخذت المدينة تنافس كبريات الحواضر الإسلامية- القاهرة، دمشق، بغداد وشيزار. ولا تزال المدينة غنية بمساجدها ومدارسها ومدافنها وأبراجها ومآذنها وقبابها، ومنذ مطلع القرن الجاري تبذل الجهود، على قدم وساق، من اجل بعث المدينة القديمة، وإحياء معالمها الأثرية، فتمتد يد الترميم إلى أوابدها العريقة، وتدب الحياة في القيشاني الأزرق والأبيض وفي الزخارف الإسلامية، والكتابات القرآنية... أنى تجولت في سمرقند تطالعك الأوابد الشهيرة، ففيها أقيم أعظم مرصد فلكي في العصور الوسطى، شيده أحد أحفاد تيمور، المدعو أولوغ بك، المعروف بحبه للعلوم والرياضيات والفلك بخاصة، وفد استطاع أولوغ بك وعلماؤه تحديد طول السنة بدقة متناهية، يحسدهم عليها العلماء المعاصرون، فالفارق بين قياسهم في القرون الوسطى، والقياس المعاصر، يقل عن الدقيقة الواحدة.
وفي القسم التاريخي القديم من المدينة، المعروف باسم "ريجستان"، والذي أولاه تيمور جل اهتمامه، فجعله مركزا تجاريا وثقافيا ودينيا ورسميا، تطالعك عدة مبان تراثية عريقة، تعتبر بحد ذاتها شاهدا حيا على مدى الازدهار والتطور، اللذين شهدتهما سمرقند. فهنا كان يقوم عدد من المدارس المشهورة- "مدرسة أولوغ بك "، "مدرسة شيرادار"، "مدرسة تيليا كاري ". ومن المعروف أن المدرسة في آسيا الوسطى، في تلك الحقبة، كانت عبارة عن مؤسسة تعليمية، أقرب ما تكون إلى الجامعة. ومن الآثار العريقة الأخرى جامع بيبي خانم "المسجد الكبير"، الذي يعود بناؤه إلى العام الأخير من القرن الرابع عشر الميلادي، تخليدا لانتصارات تيمور في حملته على الهند. وقد اشترك في بناء هذا المسجد العديد من المعماريين من بلاد المشرق، وجيء بالأحجار الضخمة من أذربيجان والهند وإيران، ويتألف مبناه الرئيسي من كتلتين: الجامع الكبير والجامع الصغير، وللجامع مآذن عالية، بارتفاع خمسين مترا، وجميع جدرانه الخارجية وقبابه ومآذنه مزدانة بالقيشاني والموزاييك، وفق أشكال هندسية، غنية بالزخارف والكتابات الدينية، بخطوط غاية في الجمال والروعة. على أن الكتلة المعمارية، الأكثر تنوعا، والأوسع امتدادا، هي تلك الممتدة في القسم الشمالي الشرقي من سمرقند، والتي تضم عشرين مبنى كبيرا، فوق قبور الأسرة التيمورية والشخصيات الدينية والإدارية، وقد بنيت على امتداد تسعة قرون (الحادي عشر- التاسع عشر الميلادي). بالإضافة إلى كل هذه المشاهدات الميدانية، والمقابلات الشخصية، وشهادات المراجع، والأبحاث المختلفة، فقد جاء الكتاب غنيا بالصور والخرائط والرسوم، فأضفت عليه حيوية ورونقا، وزادته ثقة وتوثيقا، وأقل ما يقال فيه إنه إضافة نادرة ومهمة إلى المكتبة العربية.