مثل الثمار الطيبة التي يمكن أن يدب فيها الفساد، تكون الحياة الزوجية، وهناك ما يمكن تحاشيه، وهناك ما يمكن عمله، حتى لا تفقد الثمرة طيبها. يدب بالفشل أحيانا في الحياة الزوجية، وإحدى صوره الخلافات المتزايدة وإدمان الكراهية و"اللا تفاهم"، فينخر السوس في عظام هذه الحياة حتى تصبح هشة تخفف آلامها المسكنات، ولاسيما التضحية من أجل البقاء، والهدف استمرار الزواج شكلياً من أجل الأبناء. ولكن مرض الفشل موجود.. موجود، إلى أن تنهار الأسرة وتتصدع بعد وقت قريب أو بعيد، وعلى أية حال، لا يعني الاستمرار النجاح.
فهل نقتلع هذا الفشل من جذوره، أو نقومه أو نتحمله تحت شعار "من أجل الأبناء"؟، وهل تصبح الحياة، عندئذ، مناسبة حقا لأبنائنا، بؤرة الاهتمام؟! نستطلع في ذلك رأي العلم والدين والقانون.
* السؤال للدكتورة فؤاده محمد علي مدرسة علم النفس الاجتماعي بمعهد الدراسات العليا للطفولة: هل يمكن أن نجمل بعض أسباب الخلافات نجمل بعض أسباب الخلافات الزوجيـة؟ - من الصعب الفصل بين الأسباب الاجتماعية والأسباب النفسية لهذه الخلافات ومن ضمن الأسباب الاجتماعية التي يتصاعد معها عدم التفاهم بين الزوجين: أولا: الفجوة في المستوى الاجتماعي بين الزوجين كأن يكون أحد الزوجين من الريف والآخر من الحضر، هنا تتباين عادات وتقاليد كل منهما الأمر الذي قد يخلق الصراع بينهما في بعض المعاملات. ثانيا: الاختلاف الشاسع في المستوى الفكري والعلمي لأحد الزوجين أو حصوله على درجات علمية تفوق الآخر، وهذا من شأنه أن يخلق هوة في التواصل بين الزوجين وفي عملية خلق الأفكار المشتركة. ثالثا: الظروف الخارجية لكليهما، فالحياة مليئة بالمشاكل والضغوط الاجتماعية المختلفة ولاسيما مشاكل العمل والعلاقات مع الآخرين، كذا خلافات أحد الزوجين مع أهله مثلا. ونسأل د. فؤادة: إذا اعترفنا بضرورة وجود خلافات زوجيه لأنه لا يوجد زواج دون خلاف، فكيف نقلل حدة هذه الخلافات؟
- أرى ألا تبدأ الحياة الزوجية بكم كبير من التجاوزات وضرورة التقارب في معظم المواصفات لكلا الزوجين، وكما نقول إن "مرآة الحب عمياء" وأحيانا تصور المشاعر الرومانسية لدى الإنسان ان لديه مقدرة على التجاوز عن عيوب الحبيب، فهناك بعض الاختلافات لا يجوز التغاضي عنها لاسيما الفروق السنية الكبيرة بين الزوج والزوجة فهذا الاختلاف من شأنه خلق مشاكل عديده كأن يفوق الزوج زوجته بفارق سني كبير يصعب معه الاتفاق مثلا. وتضيف د. فؤادة: ودورنا كأهل خبرة وعلم أن نلجأ لنوع من توعية الزوجين ويتم ذلك عن طريق العيادات النفسية، ولا يعيب الزوجين التردد على هذه العيادات لحل مشاكلهما الزوجية التي يستعصي عليهما حلهـا كتلك المشاكل التي تسببها أعراض نفسية معينة لدى أحد الزوجين مثلا. من المؤكد أن تصاعد الخلافات الزوجية يتولد عنه نتائج اجتماعية سلبية للزوجين، وللأبناء، خاصة أن الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع فهل يمكننا تحديد بعض هذه النتائج؟ - القيم التي يتعامل بها الأزواج تنتقل إلى الأبناء، فكيف إذن أعبر عن حبي لأبنائي وأنا غير سعيدة، أو لا أشعر بالحب من الطرف الآخر؟.
فالأم المستقرة في زواجها تغذي طفلها حبا وحنانا والعكس، وكذلك الحال بالنسبة للأب فحين يأخذ الاهتمام الكافي يهتم بأبنائه ويغمرهم بقدر من الحب والاحترام وحين أحترم طفلي ينشأ لدّي طفل محترم لذاته والعكس صحيح.
كذلك يمكنني أن أقول أن بروز العدوان داخل الأسرة من النتائج السلبية للخلافات الزوجية، فأحيانا تخرج الأم عدوانها ضد أبنائها حين يستضعفها الأب ونسمى هذه الحالة " التفريغ الانفعالي"، مثال ذلك أن تلجأ الأم إلى ضرب أبنائها بكثرة فهي تعاني من ضرب زوجها لها ولا تدري أنها تفرغ انفعالها من ضرب زوجها لها في أ بنائها.
إذا تصاعدت الخلافات الزوجية واستطاع كلا الزوجين تحمل سوء عشرة الآخر فهل يُفضل استمرار الأسرة وسط هذا الجو المشحون بالمشاكل، أو نرجح الانفصال، واضعين في الاعتبار مصلحة الأبناء؟ - تقول د. فؤادة: " كلاهما مر"، فأبغض الحلال عند الله الطلاق، واستمرار الزواج وسط كم كبير من المشاكل يدفع ثمنه الأبناء. وأرى أن كل طفل يجيء إلى الحياة يأتي معه حقه في كل الحب وكل الاهتمام، لكن شعور الأبناء الدائم بالتهديد بانهيار الأسرة من قبل أي من أبويه، يطحن عظامه ويقلل من ثقته في ذاته. أما الطلاق فهو يصدم الأبناء بحياة جديدة مجهولة الأبعاد.
وإذا استمر الزوجان وسط هذا الجو المشحون بالخلافات فيجب أن تكون لديهما القدرة الكافية على التحمل دون أن نحمّل الأبناء ذنب التضحية. وإذا استحالت العشرة فلا بد أن يتمتع الوالدان بوعي كامل عن كيفية التقليل من كم الضرر النفسي الواقع على الأبناء كأن نغمرهم بقدر زائد من الحب من جهة الأبوين لنعوضهم عن تشتت الأسرة. ولكن العملية نسبية وتعتمد على الشخصيات ودرجة الوعي وحب الأبناء، إذا يهمنا في النهاية مصلحتهم.
الزواج ليس معركة
ويتحدث د. حسن الخولي أستاذ علم الاجتماع كلية البنات - جامعة عين شمس - عن الأسباب الاجتماعية للخلافات الزوجية فيقول: إن أسباب هذه الخلافات اجتماعية نفسية اقتصادية. فالحياة الاجتماعية محصلة للتداخلات. وقد تحدث هذه الخلافات لأسباب خاصة بالزوجين كعدم الحب، أو الحب الزائد، أو تدخل الأهل مثلا.. إلخ. وثمة أسباب اقتصادية خاصة بالإنفاق مثلا، وأسباب نفسية نتيجة علاقات داخلية للزوجين، أو التصادم في أساليب تربية الأبناء. ناهيك عن بعض العلاقات الاجتماعية المتسببة في نشوب هذه الخلافات ولا سيما علاقات الجيران أو العمل. ويعد التكافؤ من أم مقومات نجاح الحياة الزوجية، التكافؤ العمري، التكافؤ في المستوى التعليمي إضافة إلى تقارب المستوى الطبقي والمادي، وكلما زادت التناقضات زاد احتمال التوتر والخلاف.
وكيف نقضي على شر هذه الخلافات؟
- يقول د. حسن: لا يوجد بيت مثالي وجميع البيوت تعيش الخلافات والتوترات. بعض الخلافات عابرة وليست مقلقة. وللوقاية من تزايد الخلافات لأبد من: - عدم إشراك الآخرين في المشاكل الزوجية، لأن تدخل الأهلي مثلا قد يزيد حدتها.
- التفاهم، والتفاهم حول كل شيء وعدم العناد والبعد عن الأنانية.
- كذلك الاحترام المتبادل، فالزواج ليس معركة، إنما سكن ومودة ورحمة.
وإذا علمنا أن الشخصية السوية نتاج الأسرة الهادئة، وأن الخلافات الزوجية تؤثر بشكل سلبي الأبناء، وفي الزوجين لحاولنا تقدم من التروي والتفاهم الوصول بالأسرة إلى الهدوء لأن استمرار الخلاف من شأنه أن يجعل الأبناء في حالة دائمة من التوتر والقلق الأمر الذي نعتبره ضد التنشئة الاجتماعية السليمة وقد يؤدي إلى آثار نفسية مرضية. ويرجح د. حسن الخولي الانفصال في حالة تزايد الخلافات الزوجية ويعتبره علاجا لأن استمرار المرض دون علاج يؤدي إلى تفاقمه فإما التفاهم وإما الانفصال وهو آخر الحلول. وتوجهنا بسؤالنا إلى المستشار أحمد هاني: هل يمكن أن تتصاعد الخلافات الزوجية لتصل إلى ساحات المحكمة؟ - يقول: يتوقف الأمر على سلوك الطرفين، ويعود للمنشأ والعادات والتقاليد والبيئة فبعضهم يحلها بشكل ودي وغيرهم يلجأ إلى المحاكم.
- خلافات مثل: سوء عشرة الزوج كالضرب والسب والهجر.
ومن وجهة نظرك: هل يمكن أن تستقيم الحياة الزوجية بعد اللجوء للمحاكم ؟
- هذه بداية النهاية ولا يعود الصفاء للحياة الزوجية، والقضاء لا يعيد المياه إلى مجاريها. وأفضل الحلول الصُلح السلمي ذلك لأن تقاضي الزوجين يؤثر في الأبناء ويشعرهم بعدم الأمان. - هناك قوانين الأحوال الشخصية بأسرها مثل ( قوانين النفقة الزوجية، نفقة المتعة، ونفقة العدة) وتوجد قوانين عقوبات تتعلق بالشق الجنائي مثل ( الضرب، والسب، والقذف، والإهانة).
حين تختلف القيم
يفسر د. عادل عز الدين الأشول أستاذ ورئيس قسم الصحة النفسية كلية التربية جامعة عين شمس ومدير مركز الإرشاد النفسي بعض الأسباب النفسية الكامنة وراء الخلاف بين الزوجين: فيقول الأسباب النفسية للخلافات الزوجية تتلخص في: - عدم تناسق الاتجاهات بين الزوجين ولا سيما الميول والرغبات كأن يميل أحدهما إلى الانطلاق والمرح والآخر يميل إلى الانطواء والتقوقع، أيضاً التباين في المشاعر والأحاسيس بأن يكون أحد الزوجين رومانسيا والآخر يميل إلى الواقعية البحتة. - المرض النفسي من شأنه أن يحدث خللا في الحياة الزوجية، مثلا قد تتصور الزوجة أنها ستعتمد على زوجها ماديا ولا تجده أهلا لذلك، هنا قد تعاني نفسيا لأنها نظرت إليه على أنه كفيلها يصونها ويساندها نفسيا وماديا ومعنويا.
- عدم اقتناع أحد الزوجين بالآخر نعتبره بداية الاختلاف، فمع العشرة تظهر بعض الخصائص الشخصية لكل الزوجين فيبدو لأحدهما ان هذه الصفات الشخصية لا تروق له كأن يكون أحد الزوجين بخيلا، أو مبذرا. - مفهوم الذات لدى كل من الزوجين يؤثر في التوافق في الزواج فمثلا قد يعلي أحد الزوجين من ذاته فيقترب من الغرور أو الثقة الزائدة، وقد يحقر أحدهما أيضاً من ذاته فيصيبه الإحباط الدائم، كل هذا يؤدي إلى اضطراب العلاقة. - صورة الأب وصورة الأم لدى الزوجين: فالزوجة لا يمكن أن تكون صورة من أم الزوج وهو ما ينشده بعض الأزواج في زوجاتهم، الأمر الذي يخلق مشاكل عديدة فلا الزوجة تريد أن تتشبه بأم زوجها في كل شيء ولا الزوج يريدها كما هي.
- عدم النضج النفسي والاجتماع لأحدهما أو كليهما بمعنى عدم الاستقلالية عن الأسرة وعدم الاعتماد على النفس بما يجعل عملية تحمل مسئولية الحياة الزوجية غاية في الصعوبة.
وماذا عن التأثير النفسي الذي تتركه الخلافات الزوجية في الأبناء؟ - يقول د. عادل: إن تزايد الخلافات يولد لدينا أبناء مضطرين سلوكيا لافتقادهم المثال فالابن عادة المثال والده، والابنة المثال أمها، ولكن في ظل وجود الخلافات يفتقد الأبناء القدوة مما يؤثر في صحتهم النفسية وقد يصاب الابن بانطواء نفسي، اكتئاب أو توتر. - تؤثر هذه الخلافات في المستوى الدراسي للأبناء وينتج عن ذلك أبناء متخلفون دراسيا. وبرغم ذلك فإن تأثير الخلافات في الأبناء نسبي ويختلف طبقا للفروق الفردية مثل ( السن، النوع، قدرات التحمل). وينصح د. عادل الأشول بضرورة أن تتم عملية الاختيار الزواجي على أسس معينة حبذا لو كانت أسسا دينية لأن هذه الخلافات تصبح أقل. ويضيف: تتم في الخارج عمليات إرشاد نفسي وبيولوجي واجتماعي للزوجين قبل الزواج وأثناءه، ذلك لأن عملية الانتقال من بيئة لأخرى تتطلب تغييرا في كثير من العادات السلوكية، فكلما كان الإنسان قادرا على التخلي عن العادات السلبية التي لا تتفق والزواج لا سيما العادات ( اللا مسئولة) مثل ( الاستهتار بمواعيد الخروج من المنزل والعودة إليه، قلل هذا من احتمالات فشل الزواج ومن تزايد الخلافات.
وهل تتفق والرأي الذي يحبذ استمرار الزواج برغم الفشل التام من أجل نمو الأبناء في أسرة متكاملة؟
- أرى أن الاستمرار أفضل من الانفصال لأن المطلق لا يعيش مُطلقا طوال عمره فيشعر الأبناء أنهم في المنزلة الثانية الأمر الذي يعرضهم لاضطرابات نفسية.
سؤالنا الأخير لـ د. عادل: هل ثمة خلافات يصعب معها الاستمرار؟ * ونختتم موضوعنا عن الخلافات الزوجية باستطلاع رأي الدين، إذ لم تغفل الشريعة الإسلامية التطرق إلى الخلافات الزوجية، وآدابها وكيفية حلها بالقرآن والسنة. كان لقاؤنا مع فضيلة الشيخ محمد عبدالرحمن الواعظ بالجمعية الشرعية بالقاهرة لكي نسأله عن الطريقة المثلى لحل الخلاف بين الزوجين طبقا لما جاء في شريعتنا الإسلامية؟ - فيقول: فيما يتعلق بكيفية حل الخلاف فقد بينت الآية الكريمة كيفية الحل إذ قال الله تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما حكيما.يقول تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما مما يوحي بتحبيذ التوفيق: وعن أبن عباس رضي الله عنهما: أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظرا أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المخطئ حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة وأن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز.
وما زلنا نؤكد ونرى أن العملية (نسبية) فيما ينطبق على زوجين لا ينطبق على غيرهما من الأزواج، وما قد يعانيه الأبناء في أسرة مفككة ومنشقة قد لا يعانيه أمثالهم ي أسر مماثلة.
وبعضهم قالوا: ما قد ينكسر يعاد إصلاحه وهذه نظرة متفائلة، وتقابلها أخرى متشائمة، مفادها أن جميع الطرق مغلقة.
ويظل الوضع الأفضل هو اتقاء الكسر قبل ان يقع واختيار أبواب تظل مفتوحة.