رواية لمن يهوى القلب الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الحادي عشر
( رواية بونسوار سابقا )
دخل إلى غرفة تمارا مجددا وهو يشعر بالاختناق ..ولم يكن يريد سماع كلمة أخرى ..يكفي حواره مع ملك ..هذا قضى على ثباته الآن ! لكن "تمـارا" لم تتركه وشأنه بالطبع ..حيث هتفت بحنق: -أنت كنت فين يا أدهم ؟! نظر لها بجمود وأضاف قائلاً: -كنت في الشغل هكون فين يعني ؟! -لأ مأقصدش الشغل ..أنت جيت من بدري ودخلت عند الحيوانة دي !
بعث بها نظرة نارية وصاح بها بحزم: -إلزمي حدودك ومتتعدهاش أحسن لك ..ولمي لسانك ونفسك لأني على أخري تمام ؟! استكملت بلا مبالاة: -يا سلام ؟ لدرجة زعلت إني قلت عليها حيوانة ؟،إيه يا أدهم أنت نسيت عملت فيك إيه ؟! مش دي اللي قلتلي خلاص مبقاش لها مكان في حياتك ؟ ضغط على شفتيه كاظما انفعالاته بصعوبة،ثم أضاف: -أطفي النور دا أنا هنام ولو سمعت كلمة تانية...
قاطعته هازئة ساخرة: -هتعمل إيه ؟! اقترب منها ببطء أربكها ..اقترب منها للغاية للحظة ظنت أنه سيراضيها ..لكنها تفاجأت بقوله الذي أصابها: -هطلقك ... صدقيني هطلقك يا تمارا... الزمي حدودك معايا ودا آخر تحذير ... غادر الغرفة ما أن أنهى الكلام وتركها في حالة ذهول عارمة وهي تردد بصدمة من بين شفتيها: -يطلقني !
دخلت "ساندرا" إلى الشرفة وهي تحمل طبقا بيلاستكيا كبيرا يحتوى على الملابس التي قامت بغسلها منذ قليل، ومن ثم بدأت في فردها بعناية على الأحبال، وتارة ترجع خصلات شعرها الثائرة جراء مداعبة الهواء وتارة أخرى تعدل ثيابها الملتصقة والمبتلة بطريقة مثيرة جدا خاصة لـ أنثى في جمالها هي .. غافلةً هي عن عيون المارة العابثة المخترقة لها ..متناسية تحذيرات "حــازم" المتتالية القاسية عليها في كل مرة ..وكل مرة تنسى قوله .. فماذا سيحدث لها الآن وهو يقترب من البيت كثورٍ هائج ؟ ..يسير بخطوات عنيفة وهو يشعر بأنه يريد دفنها حية الآن !
سقطت منها قطع الملابس المبتلة حينما وجدته يندفع إلى مدخل البناية بعد أن رمقها بنظرة كانت قادرة على بث الخوف الشديد داخل قلبها .. ولم تكد تتحرك من مكانها حتى تعالى صوت جرس الباب خرجت من الشرفة وهي تقدم قدم وتؤخر الثانية .. وبعد عدة دقائق طويلة استطاعت فتح الباب وركضت هاربة منه ..دخل مندفعا خلفها وصوته عالي بشدة حيث يقوم بتعنيفها .. لم يستطع الامساك بها وجعلته يلف خلفها المنزل بأكمله،صاح بضيق شديد: -اقفي يا ساندرا كفاية بقولك اقفي...
قالت وهي تلهث بعد صعدت على السرير بخوف: -لا مش هقف يا حازم وصدقني أنا نسيت والله نسيت .. قال وهو يحاول مرة أخرى مسكها: -نسيتي ! يا شيخة دا منظر تدخلي بيه البلكونة واللي رايح واللي جاي يبحلق فيكِ .. أنتِ إيه مبتحسيش معندكيش دم ؟! كام مرة أقولك قوليلي كام ؟!
أشارت له بيديها الاثنتين قائلة من بين أنفاسها اللاهثة: -كتير والله كتير يا حازم ..والله أنا غلطانة صدقني مش هعمل كدا تاني أديني فرصة أخيرة .. توقف عن الركض خلفها وراح ينحني ويستند بيديه على ركبتيه وهو يلهث بشدة مع قوله: -الله يخربيتك قطعتي نفسي ..منك لله ..
توقفت هي الأخرى وظلت تأخذ أنفاسها بصعوبة،لكنها قالت بصدق: -أنا آسفة يا حازم عشان خاطري سماح المرادي والله هاخد بالي المرة الجاية صدقني .. رمقها بنظرة ثاقبة وهو يهز رأسه موافقا مع قوله: -طب تعالي .. حركت رأسها رافضة: -لا..
جلس على السرير بارهاق ومن ثم قال بصبر: -طب اتفضلي اعملي العشا أنا جعان وعلى لقمة الفطار من الصبح ... هزت رأسها موافقة ونزلت من على السرير بحذر وقالت قبل أن تبرح الغرفة: -هحضرلك الحمام الأول عشان كلك صماد .. نظر لها بغيظ ورفع حاجبا بصمت،فابتسمت له وخرجت من الغرفة تاركا إياه يتوعد لها ولن يمرر فعلتها تلك...
طُرق الباب في منزل "علي" ..فـ راحت ميرال تركض نحو الباب وهي تردد بابتسامة: -دا أكيد علي ..فتحت في سرعة لكنها صدمت بأن الطارق ليس "علي" .. بل كان شخصا آخر وقف يحملق بها للحظة ...قبيل أن يتكلم وهو يبتسم لها: -آسف إني خبطت يا أنسة في الوقت دا... آنسة!
كانت هذه كلمة "علي" الذي صعد الآن وأتى من خلف هذا الشخص ..وراح يرمقه من أسفله إلى أعلاه بحدة وقد قال: -نعم ؟! تنحنح الرجل بحرج جراء نظرات علي ..ليقول بتوتر: -أنا آسف.. بس كنت بسأل على شاكوش سلف وذردية... علي بغضب: -شاكوش وزردية ؟! أنت مين أصلا وإيه اللي جابك هنا ! -أنا مأجر الشقة اللي قدام حضرتك جديد يا أستاذ وكنت بعمل حاجات ووقفت على شاكوش ..
نظر له من عليائه متابعا: -آآه .. للأسف معندناش شواكيش .. ودخل إلى الشقة مغلقا الباب خلفه ..في حين هتف بزوجته بتعنيف لأول مرة: -ليه فاتحة الباب وواقفة تسمعيه ؟! ميرال وقد قالت: -أنا مش واقفة أسمعه يا علي ..أنا .. قاطعها بصرامة: -لأ واقفة المفروض فتحتي ولقيتي واحد غريب يبقى تقفلي فورا بدون حتى ما تفكري .. -إزاي يا علي الكلام دا ؟! افرض واحد عاوز حاجة مهمة يعني ولا حد محتاج مساعدة ؟
هو بتصميم: -أنتِ تسمعي اللي بقولك عليه يا ميرال مالك أنتِ ومال مساعدة الناس ؟،لو اتكررت تاني ... قاطعته والدته حين جاءت إليهما قائلة بحزم شديد: -إيه يا علي مالك في إيه ..أنت داخل تقول شكل للبيع ..مراتك معملتش حاجة لكل اللي بتقوله دا ! بينما دخلت ميرال إلى غرفتها وهي تبكي برقة كعادتها حين يتشاجرا ..
لتقول والدته بعتاب: -عاجبك كدا ؟ ليه يا علي متبقاش من الرجالة الخنيقة .. علي وقد زفر بضيق وهو يمسح على شعر رأسه قائلا: -يا ماما دا بيقولها يا أنسة ! ضحكت الأم بعفوية وقالت: -يا حبيبي وهي مالها بس،وهو كمان يعرف منين إنها مدام يعني ...يا علي بلاش التفكير دا أنت كدا غلطان ..يلا أدخل راضيها وحافظ عليها دي والله بتحبك أوي أوي .. استطاعت والدته أن تمتص غضبه وعصبيته، فانحنى مقبلا كف يدها مستأنفا: -حاضر..
ودخل إلى غرفته..قاصدا إصلاح ما أفسده حيث لا يتحمل غضبها وهي بالفعل لم تفعل شيئا .. لم يجدها فعلم أنها بالشرفة.. اتجه إليها وهو يبتسم بحب، لكنه صُدم ..بل أصابه الفزع ! فكانت ملقاه على أرض الشرفة وخيط رفيع من الدم يخرج من رأسها ..صاح بلا وعي منه' -ميـــرال !
انحنى وحملها فورا ثم اتجه إلى السرير وهو يردد اسمها بوجل بينما يضعها برفق وقد علم أنها غيبوبة سكر. دخلت والدته بصحبة شقيقته على إثر صوته... لم يتردد علي في أن يهاتف الطبيب في الحال بيد مرتعشة وقلب ينبض بالخوف الشديد ...
دخل حازم إلى المطبخ حيث توجد زوجته ساندرا ..التي ابتعدت ما إن اقترب هو ...فعقد ساعديه أمامه قائلا بجمود: -متخافيش يا ساندرا.. أنا مش هعملك حاجة وهكلمك بمنتهى الهدوء.. الست لما تخرج البلكونة لازم تغطي كل جزء منها ولما تفتح الباب ولما تخرج برا بيتها.. وأنتي مراتي ومن حقي عليكي إنك تسمعي الكلام دا وتعملي بيه تمام ؟ ومش دا كلامي ..دا كلام ربنا وفرض عليكي .. حياتك القديمة واللبس اللي كنتِ بتلبسيه دا انتهى ومات وحياتك دلوقتي حياة جديدة تماما ..تمام ؟
هزت رأسها في طاعة وأخبرته بهدوء: -والله يا حازم بنسى عشان لسة متعودتش، مش قصدي إني ماسمعش كلامك أو أكسره ..أوعدك هتكون آخر مرة .. تنهد بعمق وأخبرها باسما: -وأنا مصدقك يا ساندرا،انسي الموضوع.. هتعشينا إيه ؟ -مكرونة بشاميل... حك صدغه بابهامه قبيل أن يقول بتذمر: -أمري لله مع إني مبحبهاش ... -لا هتعجبك جدا يا حزوم صدقني .. -مصدقك مصدقك ..
وضعت الطعام بعد قليل على الطاولة ..ليجلسا معا ويتناول منها أول قطعة داخل فمه .. فكاد يبصقها بعد ثوان إلا أنه تحامل على نفسه وابتلعها ...لكنه لم يستطع كبح غضبه حيث قال: -وحشة أووووي يا ساندرا .. فغرت شفتيها بذهول وتابعت باحراج: -بجد ... !
أغمض عينيه بضيق ثم فتحهما مجددا وهو يمسح فمه ثم ينهض عن السفرة قائلا: -مش معقول يا ساندرا كل يوم كدا بقالنا ٦ شهور متجوزين وأنا مستحمل على أمل إنك تتعلمي بس كل يوم عك زي اليوم اللي قبله دي مش طريقة دي ... ساندرا وقد مطت شفتيها بضجر: -حازم ممكن اوي نجيب شغالة تطبخ كويس وقلت لك كدا كتير قبل كدا ...
التفت لها بعنف وهتف: -أنا عاوز آكل من إيد مراتي يا هانم ..وغير كدا أنا مدخلش حد غريب بيتي ..ثالثا بقى الميزانية متسمحش لوجود شغالة... أنا مش رجل أعمال زي أبوكي مثلا ! رفعت حاجبيها بضيق شديد واستكملت ببساطة: -بس أنا معايا فلوس وأقدر أجيب شغالة تطبخ عشان أنا مش بعرف .. احمرت عينيه من شدة غضبه وكأنهما جمرتين من نار ليقول: -فلوسك دي متلزمنيش وتبقي تصرفي منها لما تكوني عايشة لوحدك أو مش متجوزة راجل.. لكن أنا مقبلش أبدا كلامك دا سامعة ولا لا ؟!
تابعت تحاول تهدئته: -في إيه يا حازم هتقلب عليا ليه ..أهدى احنا بنتناقش ..مش بنتحارب يا سيدي بلاش شغالة هعمل اللي أنت عاوزه بس مش عارفه وأنت مش راضي تستحمل.. -أستحمل إيه أكتر من كدا ؟! بتهزري يا ساندرا ؟ -حازم متكبرش الموضوع وبعدين حتى مامتك اللي ساكنة في الشقة اللي تحتينا مش بتحب تخليها تعمل لنا أكل .. حازم وقد استأنف بنفاد صبر: -أنتِ المسؤولة عن البيت دا مش امي ولا حد غيرها والأمر لله هستحمل لحد ما تتعلمي بس متسوقيش فيها ..
هزت رأسها بإيجاب قائلة: -حاضر يا حازم .. وممكن تجيب أكل جاهز على فكرة اريح برضوه من كل دا .. عض شفته السفلى بغيظ وفضل الصمت في حين أنها ضحكت بمشاكسة مع قولها: -بهزر إيه مهزرش ..متبقاش قفوش كدا .. -قفوش ؟ -أيوة قفوش فك كدا يا معلم حازم ..
ضحك مقهقا وقال بمزاح: -مشافتكيش أمك وأنتي بتقولي الكلام دا كانت اتبرت منك ..متهيألي ممكن يغم عليها .. لم تكد تتكلم حتى سمعت معه أصوات ضجيج تأتي من الحي ..فنظر حازم ليجدها مشاجرة وبدون تردد أسرع نحو الباب لتركض خلفه هاتفة بخوف: -يا حازم ملناش دعوة ...تعالى هنا ! لكنه لم يصغ لها وأسرع إلى المشاجرة ..فهو وحش الحارة الذي يهابه الجميع !
انتهى الطبيب من حقن "ميرال" بحقنة الأنسولين ..وتلك المرة الأولى لها لقد ارتفع معدل السكر في جسدها لدرجة الاغماء كعادتها لكن تلك المرة كانت بفقدان وعي كامل ..وحيث قال الطبيب بجدية شديدة: -واضح إنها مش ملتزمة خالص لا في العلاج ولا حتى النظام الغذائي ..مش كدا يا مدام ميرال ؟! كانت قد عادت إلى وعيها فردت بصوت مرهق للغاية: -باخد العلاج بس ساعات بنساه ..
-مافيش حاجة اسمها ساعات .. الكلام دا غلط على صحتك أرجوكِ التزمي عن كدا لأن ممكن تدخلي في حاجات أنتِ مش قدها .. بينما سأل علي بقلق: -طب والأنسولين دا خلاص هتستمر عليه ! الطبيب برسمية: -عند اللزوم ..
انصرف بعد قليل بعد أن ألقى عليهم التعليمات الواجب فعلها ... في حين قالت السيدة سميرة بحنان: -ألف سلامة عليكي يا حبيبتي ربنا يشفيكي يارب -الله يسلمك يا طنط ... وقالت چنا بحزن بلا مبالاة: -سلامتك يا ميرال .. ردت ميرال بابتسامة: -الله يسلمك ...
توجهت سميرة نحو الباب وهي تتابع: هحضرلك الأكل اللي الدكتور قال عليه .. ثم اصطحبت ابنتها معها وأغلقت الباب خلفها.. ليندفع علي نحوها ويجاورها جالسا مقبلا جبينها المجروح جراء سقوطها على الأرض بعمق مع قوله: -ألف سلامة يا قلب علي .. ابتسمت له بحزن ...وبعينيها عاتبته برقة معهودة منها ..ليقول بلا تردد: -آسف .. مكنش قصدي أزعلك ..حقك عليا ..أنا بس اتجننت لما قلك أنسة وواقف يبحلق فيكي كدا !
تنهدت طويلا وأخبرته بصدق: -بحبك يا علي خليك جنبي .. كانت عيناها مليئتان بالعبرات وكأنها تتوسله ..لتتابع بصوت متحشرج باك: -أنا اللي آسفة يا علي .. مسح على شعرها بحنان وافر وسألها باهتمام: -أسفة على إيه ؟
حينها سقطتت دموعها في تسابق على وجنتيها وهي تخبره بمرارة: -عشان كل شوية بتعب ..وبيغم عليا ومش قادرة أسعدك ..وخايفة أكون عبئ عليك أو تزهق م.. ابتلعت باقي حروفها حين وضع إصبعه على شفتيها مانعا إياها من الكلام ...ليرد وقد اقترب منها لاهثا ومتنفسا أنفاسها: -كدا برضوه يا ميرال ؟ أنتِ مش واثقة من حب علـي ليكِ ولا إيه ؟ يا حبيبي أنا اختارتك بإرادتي وقلبي وعنيا،أنا كنت بنام أحلم بيكي وكنت بتمنى اليوم اللي تكوني فيه معايا وفي حضني .. دلوقتي بتقوليلي عبىء عليا ؟ أنا كدا هزعل والله ..
ابتسمت برضى وهي تحاوط عنقه بذراعيها مع همسها الحنون: -أجمل "علـي" في الدنيا كلها ...ماعنديش كلام اقولهولك أنت أكيد حاسس بكل حاجة في قلبي ليك .. أخذ نفسا عميقا قبل أن يستطرد بحزم رفيق: -اه بس دا مش معناه إني مش زعلان منك ..مش كل يوم بسألك أخدتي العلاج بتقوليلي اه ؟ بتضحكي عليا يعني ! حركت رأسها نافية وقالت: -أنا بكون نسيت أخده ولما بتسألني بخاف أقولك نسيت تزعقلي بصراحة ..
-تخافي أزعقلك ومش خايفة على صحتك ؟ لا ميرال أنتِ كدا بتهرجي على العموم من هنا ورايح أنا اللي هدهولك بنفسي كل يوم ..وارجوكِ يا ميرال متاخديش حاجة تتعبك أنا مش مستغني عنك .. -حاضر يا علي هحاول .. -لا مش هتحاولي هتمنعي مفهوم ؟! -مفهــــــوم يا علي ... ضحك وهو ينهض قائلا بحنان: -هجيب قطن وشاش ومطهر عشان اطهرلك الجرح.
أتت من خلفه وهو يجلس على الأرجوحة في حديقة القصر وأخذت تُدلك بكفيها كتفيه بنعومة ..فزفر أنفاسه على مهل واستسلم بصمت ... لتهمس بالقرب من آذنه: -آسفة يا حبيبي لو كنت ضايقتك .. مكنتش أقصد والله .. -حصل خير يا تمارا
هكذا قال وهو يشعر بالتعب والانهاك... رفع عينيه تلقائيا فوجد "ملك" في شرفتها ... فما كان منه إلا أن جذب تمـارا من يدها برفق قائلا وهو يبتسم باتساع: -تعالي اقعدي جنبي .. جاورته واحتضنته ..ليقوم هو بلف ذراعه حول كتفيها ويقبل جبينها بتمهل ...
وقد كانت "ملك" في هذا الوقت تشعر كمن فقدت حياتها جراء أفعاله .. وتساؤلات عدة دارت بخلدها.. هل كرهها أدهم بالفعل ؟! .. هل أحب تمارا أم هو متعمد جرحها كما جرحته فقط ؟! ثم لم تشعر بجسدها إلا وهو يتهاوى على أرض الشرفة ثم تسقط بقوة ...
رواية لمن يهوى القلب الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثاني عشر
( رواية بونسوار سابقا )
ترك تمـارا واندفع إلى الأعلى بعد أن رآها تسقط على الأرض،فما كان منه إلا أن ركض بسرعة الفهد إليها ..وراح يحملها من على الارض داخلا بها إلى الغرفة ووضعها على الفراش،تبعته تمارا ووالدته التي راحت تهتف بقلق شديد: -ملك! في إيه يا أدهم مالها ؟ -مش عارف ..مش عارف !
أسرع يجذب زجاجة عطرها ثم نثر بعض القطرات منها على ظهر يده وقربه من أنفها برفق، وراحت والدته تنثر قطرات من المياه على وجهها لتأن ملك بخفوت ووهن شديد ..ويتنفس أدهم بارتياح حامدا ربه ...فقالت السيدة چيهان بجدية: -أكيد الاغماء دا من قلة الأكل يا ملك ..مش قولتلك يا حبيبتي قلة أكلك دي هتسسب لك مضاعفات كتيرة ؟ ثم نظرت إلى أدهم الصامت بعتاب وقالت بضيق: -ما تقول حاجة يا أدهم ..
نظر لها ولم يتحرر من صمته بعد ..فردت تمارا نيابة عنه: -ادهم هيقول إيه يا طنط ؟!،أدهم قالها متاكليش ؟! ولا هي اللي بتمثل أصلا وعاوزة تسطعتفه وخلاص .. لتهتف بها چيهان: -عيب يابنتي الكلام دا والله،أنتِ عاوزة إيه أكتر من اللي حصل ما كفاية بقى يا تمارا ! تمارا تحدثت بعصبية: -أنا مش عاوزة أوصل لحاجة ..هي اللي عاوزة توصل لإيه بعد اللي عملته ؟ هي نسيت عملت فيه إيه ؟ كذبت عليه وخدعته وحرمته من اكتر حاجة بيتمناها أنا لو من أدهم عمري ما أسامحها أبدا ..كفاية إنها لسة على ذمته أصلا!
-بشعة .. هكذا نطقت ملك بمرارة شديدة ودموع أليمة كادت تحرق روحها المعذبة ...لتُكمل بوهن: -أنتِ إنسانة بشعة أوي .. تمارا باستهجان شديد: -مسكينة اوي حضرتك ..صحيح اللي تفتكره موسى يطلع فرعون ! -اخرسي بقا ! هب أدهم واقفاً ما إن نطق بهذه الجملة ..ومن ثم تابع بصرامة: -كفاية كدا ..أخرجي من هنا وعلى أوضتك يا تمارا فورا ...
رمقته بغضب قبل أن تستدير خارجة من الغرفة، وراح أدهم يلقي نظرة أخيرة على زوجته ملك، نظرت حملت مشاعره في هذه اللحظة نحوها ..خوفه وعتابه ومحبة خالصة لها .. ولم يتكلم فلا يوجد ما يقوله رغم مشاعره المشتتة ..
استدار خارجاً هو أيضا بلا إضافة بعد هذه النظرة وتركها في عتمتها وحيرتها من جديد... بينما بقيت معها السيدة چيهان التي نهضت مردفة بحنو: -هجبلك حاجة تاكليها وجاية حالا .. برحت الغرفة في سرعة ,وتركتها وسط ظلام ليس له من نور ..
جلست ساندرا بصحبة السيدة "فوزية" والدة زوجها حازم ورغدة شقيقته أيضًا في بيتها الذي يقع أسفل شقتها التي بالأعلى.. ران عليها القلق البالغ وسيطر عليها الخوف الشديد ..زوجها المتهور سينهي على حياته ذات مرة جراء تدخله في تلك المشاجرات ..حدثته مرارا وتكرارا أنها ليست بغنى عنه ..وأنه السند لها ولجنينها ..
لكنه لا يستطيع أن يجلس هادئاً دون التدخل في هذه الأمور .. -متخافيش يا ساندرا ..حازم ياما وقف في خناقات زي دي وربنا بيعديها عشان هو قصده بيكون خير .. هكذا قالت والدته تحاول تهدئتها برفق،لترد ساندرا بدورها: -ربنا يسترها .. وقالت "رغدة" بلا اكتراث: -بكرة تتعودي كدا زينا يابنتي ..عادي هو دا حازم!
"بعد قليل" ... قد دخل حازم إلى الغرفة وراح يمسح عرقه عن جبينه الندي بظهر يده .. بينما تنهدت ساندرا بارتياح على سلامته ..ليقول حازم: -الحمدلله عدت على خير .. -هتفضل كدا لحد امتى قلت لك ميت مرة يا حازم ملناش دعوة بالناس ومتدخلش!
قالت ساندرا جملتها هذه بغضب، ليرد عليها بغضب مماثل: -مش أنتِ اللي هتقولي أتدخل ولا لأ يا ساندرا ..دول كلهم أهل حتتي ولازم أتدخل بينهم وأحكم بالعدل حتى لو هموت فيها .. صمتت بغيظ لعدة دقائق..قبل أن تواصل: -تمام .. أنا طالعة أنام .. وانصرفت على ذلك ..فقالت والدته بعتاب: -براحة شوية هي خايفة عليك ! -سيبك منها أنا عارف هراضيها إزاي ..
تنهدت الأم قائلة: -ربنا يهدي سركم .. صمتت قليلاً وهي تتبادل النظرات مع ابنتها رغدة ...فقال حازم وقد شعر أن هناك خطب ما: -خير... في حاجة ولا إيه ياما ؟! أومأت "فوزية" رأسها بإيجاب وتابعت: -في عريس عاوز يتقدم لرغدة .. تهللت أسارير وجه حــازم وراح ينظر إلى شقيقته متابعا ببسمةٍ واسعة: -بجد ؟ ..مين ؟
ابتلعت رغدة ريقها بارتباك وأخبرته بحذر: -صاحب المحل اللي بشتغل فيه ... عقد حازم ما بين حاجباه وسألها بحزم هادئ: -صاحب محل الهدوم اللي بتشتغلي فيه ؟!, على حد عِلمي دا راجل متجوز وكبير في السن وعنده عيال قدك تقريباً.. صح ولا إيه ؟! أغمضت عينيها هاربة من نظراته، بينما تقول بخفوت: -صح ..
نظر لها متهكما وصاح: -صح في عينك يا شيخة ! أنتِ اتجننتِ؟ ثم التفت إلى والدته: -إيه ياما الكلام دا ؟, أنتِ سيباها تقول الكلام دا عادي ؟ -غُلبت فيها يابني وقلت نفس اللي قلته أنه متجوز ومخلف بس بتقولي أنا حرة .. -حرة؟ لا منتيش حرة ! تأففت رغدة بضيق: -ماشي بس أنا راضية ..ودا لا هو عيب ولا هو حرام ..
أرسل لها حازم نظرة تهكمية شديدة وهو يردف بعصبية: -قولي بقى إنك راضية عشان فلوسه صح ؟!, راجل عنده بدل المحل عشرة ..معاه فلوس كتير ما هو أنتِ طول عمرك بتحبي الفلوس ودا نفس السبب اللي خلاني وافقت إنك تشتغلي جنب دراستك عشان مش قادر أكفي طلباتك الكتيرة جدآ..بس أنا اللي غلطان إن وافقت أخليكي تشتغلي ..كان لازم أعرف إنك خطر ..خطر على نفسك يا رغدة..
أضافت رغدة بحدة: -ياااه كل دا عشان قلت إني عاوزة أتجوز ..وافرض يا سيدي ...أظن من حقي ولا إيه ؟! حازم وقد وثب قائما،هاتفا بغضب عارم: -كسر حُقك يا قليلة الأدب،أنتِ تنسي الزفت دا خالص واللي بتقوليه دا جنان،تخاريف وقلة رباية .. ثم التفت إلى والدته قبيل أن يبرح المنزل قائلا: -عقّليها ..
-على فكرة أنا عندي امتحان بكرة! قالتها -ميرال- بقلق يشوبه حزن، بعد انتهت من طعامها الصحي وأخذت علاجها أيضًا.. ليقول علي ببساطة: -بسيطة إن شاء الله، هتقعدي دلوقتي تراجعي وانا كمان هقعد معاكِ .. قالت بسعادة: -بجد ؟, أخيرا هتذاكرلي يا علي .. -طبعا ..يلا يا بطل هات ايدك ..
مدت له يدها بارهاق فجذبها برفق إليه حتى وقفت على قدميها .. ليحملها ويتجه بها إلى الأريكة جاعلا إياها تجلس بأريحة، ثم وضع أمامها طاولة صغيرة كما قام بجلب مذكراتها والكتب خاصتها..وجاورها قائلا بابتسامة: -يلا بينا ؟! -يلا بينا ؟ دا كدا أنا مش هذاكر لك يا ريمو كدا خطر ..خطر خالص!
ضحكت بنعومة وهي تُقبّل كتفه كعادتها ومنحته نظرة تحمل شكرا خاصا جدا له ..ليقول بجدية مصطنعة: -امسكي نفسك بقى يا ريمو عشان كدا أنا مش هعرف أركز .. -حاضر يا علي .. لكنه قال رافعا حاجبه: -وبعدين حقوق إيه ووجع قلب إيه اللي أنتِ دخلاه دا ؟! المفروض كنتِ تدخلي فنون جميلة مثلا .. حاجة تليق بيكِ كدا!
-لا يا علي بحب الحقوق، أنا شايفة نفسي محامية شاطرة تقدر تدافع عن المظلوم وتجيب حقه من الظالم .. علي وقد نظر لها متابعا: -فعلا ...والناس بقى تستقصدك وتحاول تأذيكي والجو دا .. ميرال بلا مبالاة: -عادي مش بخاف ...طول ما أنا على حق مينفعش أخاف .. -ممم وإيه كمان يا ريمو ...اشجيني يا حبيبي .. ميرال متنهدة ومبتسمة: -وأنت هتحميني دايما..مش أنت حرس ؟!
-آه حرس ..دا شغلي اللي بحبه أوي،بس مش بحبه اكتر منك .. ضاقت عيني ميرال مع قولها: -يعني إيه مش فاهمة؟ -يعني أنا مش هوافق على شغلك يا حبيبتي.. أنتِ مش للشغل يا ريمو،أنتِ للدلع.. والرقة ..وكل حاجة جميلة بعيدا عن أي حاجة متعبة زي الشغل والكلام دا... -لا يا علي متضحكش عليا بكلمتين !
-والله ما ضحك يا قلبي ..سيبي الشغل لأصحابه وخليكي أنتِ ليا لوحدي نظرت له بتذمر: -علي ... قرص علــي وجنتها بخفة مع قوله الحاني: -خلينا نتكلم بعدين في الموضوع دا ودلوقتي ركزي معايا .. أومأت برأسها موافقة وقد ابتسمت قائلة: -ماشي ..يا علـي.
جلست السيدة چيهان في صحبة "ملك" بعد أن حاولت تطعمها بعض اللقيمات وقد استجابت لها ملك بغير شهية ... لتقول السيدة چيهان بلطف: -إن شاء الله أدهم هيبقى كويس وكل الامور بينكم هتتصلح يا ملك .. هزت ملك رأسها بيأس ..لتستطرد چيهان: -انا حاسة بيكي وبالنار اللي جواكي صدقيني،بس دا ميمنعش إنك غلطانة اوي يا ملك ..غلطانة جدآ.
فقالت ملك مؤكدة على ذلك ببكاء مرير: -عارفة إني غلطانة ..بس أنا كنت خايفة من كل حاجة .. كنت بفكر ليل مع نهار ..ياترى جوازنا هيفضل في السر لحد امتى ؟, يا ترى والد أدهم لما يعرف هيعمل معايا ايه ..مش جايز يجبر أدهم يطلقني ويرميني في الشارع ؟! ولو أنا ام لطفل ساعتها كان مصيره هيبقى إيه ؟! .. إزاي هجيب طفل وأنا لسة معرفش أهل جوزي !
أسئلة كتير دارت جوايا ..ولكل الأسئلة دي كان الجواب إني أمنع الخلفة، بس والله كان مؤقتا لحد ما ربنا ييسر لنا الأمور وحياتنا نستقر .. ومن يوم ما استقرينا هنا وانا أخدت عهد على نفسي أوقف الحبوب ..لكن طبعا الأخت تمارا دخلت أوضتي ودورت على أي حاجة تذلني بيها ..يمكن مثلا بكون بخون أدهم ! فتزحني من سكتها ..لكن لسوء حظي الشريط وقع في ايديها بس صدقيني أنا كنت بطلت أخده ..
چيهان وقد ردت بجدية: -يمكن معاكي حق في كلامك ..بس غلطتك إنك خبيتي على أدهم حاجة زي كدا ومش بس كدا دا أنتِ كذبتي عليه وقولتيله إنك مش بتخلفي..سنتين بحالهم يا ملك ! وهو بيواسي فيكِ ويوعدك إنه عمره ما هيبص لغيرك وهيصبر ويصبرك بالكلام .. وأنتِ بتسمعي عادي كدا! نكست ملك رأسها للأسفل وقد استأنفت من بين دموعها: -أنا عمري ما هنكر إني مش غلطانة أنا فعلا غلطانة وقاسية ...
انخرطت في بكاء حار ما إن ختمت جملتها،فراحت السيدة چيهان تضمها إليها بحنان وربتت عليها قائلة: -حاسة بيكي ..يمكن لو تمارا مش في حياة أدهم مكنتيش هتزعلي بالشكل دا،اسأليني أنا ..الست لما جوزها بيتجوز عليها بتتكسر وبتنطفي ..بتحس إنها ملهاش قيمة ..وأنها حاجة مهمشة ..مش مالية عينه ..وبتسأل نفسها كتير،أنا قصرت في إيه ؟! طب ليه ؟! ...
زي شوقي كدا الله يرحمه ..راح اتجوز عليا بعد العمر الطويل ..ياريته شاب صغير أقول مفتون ! لا خلاص احنا كبرنا بس أنا مازلت مش مقصرة ..ساعتها اختارت كرامتي اللي هو داس عليها ... ومع ذلك لما عرفت إنه عمل حادثة رجعت وفضلت جنبه في آخر أيامه لأن مهما كان العشرة متهونش إلا على ولاد الحرام. بس الوضع يختلف كتير معاكي يا ملك أدهم بيحبك وعمره ما كان هيتجوز عليكي لولا اللي حصل في فرح تمارا ...هو ماختارش يعيش معاها بإرادته هو اختارك أنتِ بإرادته ... وهي فترة وهتعدي أنا واثقة من كدا ..
ثم صمتت قليلاً لتستكمل بحنو: -هحاول معاكي أرجع لك أدهم متخافيش .. نظرت لها ملك نظرة امتنان واضحة مع قولها: -أي واحدة مكانك عمرها ما كانت هتعمل معايا كدا،أنتِ إنسانة جميلة أوي ربنا يبارك في عمر حضرتك ..
مر الوقت .. أصبحت الساعة الثانية صباحا بعد منتصف الليل،جلست ساندرا بعد أن ارتدت إسدال الصلاة الخاص بها في شرفة المنزل،وأخذت تنتظر "حازم" ..فعندما صعد من شقة والدته كان يشعر بالاختناق ولذلك خرج ...لكنه لم يعد إلى الآن ..شعرت بالقلق يتسرب إليها ..وكانت عيناها تتابعان الطريق بخوف .. مرت لحظات أخرى فدخلت إلى غرفتها جالسة على الفراش قائلة: -يا ترى أنت فين يا حازم ..
غفت في مكانها ولم تشعر بشيء حولها إلا على لمسته -هو- بعد قليل .. ففتحت عينيها بفزعةٍ،ثم تنفست الصعداء قائلة بعتاب: -حازم ..أنت كنت فين ؟! والجواب لم يخرج من شفتيه ..بل كان واضحا في عينيه الحمراوتين.. اللتين أخبرتها أين كان ! -تاني يا حازم ؟! مش وعدتني إنك هتبطل ؟! ليه ؟! ..ليه ؟!
تملكت منها العصبية الشديدة وتعالى صوتها قليلاً بغيظ،ليقول بمنتهى الهدوء: -ششش وطي صوتك ..إيه ما تيجي تاخديلك قلمين أحسن ؟! -كلمني ورد عليا زي ما بكلمك ..بلاش الطريقة المستفزة بتاعتك دي ! -أنتِ عاوزة إيه؟! عاوزة نكد ؟! صح؟ مش كل ما تشوفيني تسمعيني الاسطوانة المشروخة دي، أنا قلت لك هحاول مش هبطل مرة واحدة ! احتد الحديث بينهما ..لتكمل ساندرا بغضب ناري: -كلامي معاك مش اسطوانة مشروخة يا حازم، كلامي في منتهى العقل والمنطقية ومن حقي عليك تسمعه وتعمل بيه كمان !
ضحك حازم متهكما ..ليستأنف: -يعني تمشي كلامك عليا! هو أنا مش راجل ولا إيه ؟،مش واحدة ست هتقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا ساندرا .. صاحت بضيق: -أنا مراتك ..ومن حقي لما تعمل حاجة غلط أنبهك، زي لما قلتلي اتحجبي وأنا اتحجبت وزي لما بنسى ادخل البلكونة وأنا لابسة الطرحة وبتنبهني وبسمع كلامك وبعتذر كمان ..فـ sorry يا حازم كون إنك راجل دا ميدكش الحق تكلمني بالأسلوب دا لمجرد إني متضايقة من أسلوبك أنت... مش هي دي الرجولة ..
توسعت عيناه فجأة ثم أظلمت بقوة جراء كلمتها الأخيرة ..بينما نظرته كانت كفيلة لإعلامها بأنها أخطأت الآن ..لكنها ظلت على موقفها هذا منه .. ليقول بصوت جهوري: -تعرفي أنا ممكن أعمل فيكي إيه بعد الكلمة دي ؟!؛ بس أنا هنام ...هنام يا ساندرا ودا أحسن ليكِ وليا ! ثم صمت قليلا ليكمل بصوت حاول أن يكون هادئ: تعالي !
نظرت له بغضب مع قولها: -ياريت تنام زي ما قلت أنا مش تحت أمرك على فكرة ومش خدامة عندك! هو بضيق: -لا مش خدامة عندي أنتِ مراتي! فاهمة؟ -مش فاهمة ومش كل حاجة هتقولها هتتتفذ فاهم؟فوق بقى من دور سي السيد دا ! خرجت من الغرفة ما أن أنهت جملتها المتهكمة، أما هو فقد استلقى على الفراش قائلا بهدوء مستفز: -نكدية ..
رواية لمن يهوى القلب الجزء الأول للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثالث عشر
( رواية بونسوار سابقا )
خرجت إلى حديقة القصر تاركة نفسها لمداعبة الهواء الحُر مغلقة عيناها،تفتحهما تارة وتغلقهما تارة أخرى،إلى أن وقعتا على "أدهم" الجالس هناك تحت شجرة كبيرة،مستندّا إلى جزعها ويغلق عيناه أيضاً، بينما يبدو على وجهه الإرهاق الشديد والحزن الواضح ... اقتربت بحذرٍ وتمهل في اتجاهه وقلبها ينبض بوجل واشتياق كبير .. أهذا أدهم حبيبها ؟!
ماذا فعلت به وذاتها؟ ..الآن تخاف لمسه فيثور ويغضب ويشمئز منها! تتوق للمسة واحدة منه وعناق حنون يحتويها ويشعرها بالأمان ..أنه هُنا مازال جوارها ...مازال أمانها والسند ..
تنهدت بعمق تنهيدا ممدودا وراحت تقترب أكثر، ثم نزلت على ركبتيها أمامه مباشرة وانطلقت دموعها تسيل على خديها بألم، كتمت آهات خرجت من صدرها رغما عنها وهي تحاول مد يدها إليه، أتتها الجرأة ووضعت يدها على وجنته مرورا بذقنه في اشتياق بالغ، ثم اقتربت أكثر إلى أن قبلت جبينه بعمق، ففتح عينيه الجامدتين بلا أي تعبير ..تقابلت عيناه بعينيها في نظرة ...
ابتعدت "ملك" قليلا عنه بحذر كي تتمكن من رؤيته، ليطل أدهم النظر إليها بصمت قاتل ..فقالت هي بلوعةٍ: -أدهم ... تحركت شفتيه ناطقا بكلمة واحدة ..كلمة واحدة فقط كانت بمثابة خنجر: -بكرهــك ..
حينها صرخت فجأة بأعلى صوت وتندى جبينها،يبدو أنه كابوس مزعج للغاية،لتجد نفسها جالسة على الفراش وسط ظلام الغُرفة،وشخص ما يفتح بابها ويدخل في تلهف بعد أن أشعل الإضاءة،لقد كان هو .. -أدهــم- ..أدهم هنا وفي عينيه نظرة قلق وخوف،يقترب منها ويسألها باهتمام: -أنتِ كويسة ؟!
نهضت عن السرير في سرعة وبحركة واحدة كانت تعانقه بقوة، تدفن وجهها عند كتفه،تتوسل وتعتذر وتعترف! تعترف بذنبها في حقه ..وتتوسل كي يعفو ويصفح ..كلمات كثيرة غير منظمة خرجت منها وسط دموعها الأليمة المتوسلة، فما كان منه إلا أن بادلها العناق،وضمها بقوة إليه ..بشوقٍ اجتاح قلبه اجتياح.. لم يعد قادرا على هذا الوجه الصلب ..هذه حبيبة القلب ..وحدها من تسكن فؤاده .. طال عناقهما ..بينما ذراعه في صعود وهبوط على طول ظهرها من شدة شوقه وانفاسه !
أنفاسه راحت تعبر عن كل ما يحمل من احتياجٍ لها ..لكنه تركها فجأة وكأنه تذكر ما فعلته به،تركها وابتعد قليلاً وأنفاسه في تصارع،لتقترب هي ولم تبتعد بل قالت برفق وهي تمسح دموعها: -سامحني ..وتعالى نبدأ من جديد ..أرجوك .. حرك رأسه رافضاً لما تقول ...ليقول: -معدش ينفع ..خلاص كله انتهى يا ملك !
-لا منتهاش ومتحكمش عليا بالموت ..أرجوك أديني فرصة تانية،دا ربنا بيسامح يا أدهم ليه أنت مش راضي تسامحني ؟! صاح فجأة بحدة عارمة: -عشان بسببك أنتِ..إبني اللي بتمناه من الدنيا ..أمه هتبقى تمارا ! اللي هتربيه تمارا ..اللي حامل فيه دلوقتي تمارا ..عارفة يعني إيه تمارا ؟ تمارا اللي عمري ما توقعت إني ألمسها مجرد لمسة ... دلوقتي حامل مني وكله بسببك ..كنت مصدوم ومجروح منك وكنت عايز أقهرك زي ما قهرتيني ..بس للأسف أنا اللي اتقهرت لأن ماكنتش أحب أبدا إن إبني يكون له أم زي تمارا ..يا خسارة يا ملك فات الآوان !
وضعت يديها على ذراعيه قائلة برجاء: -لا ..لا مفاتش الآوان ..لسة في أمل إحنا ممكن نخلف ليه بتقفلها في وشي ليه يا أدهم ... -عشان هي كدا مقفولة بضبة ومفتاح .. أنتِ دمرتيني لا أنا قادر أسامحك ولا قادر أبعد عنك ! ابتعد عنها بعنف ذاهبا إلى باب الغرفة، نظر لها قبل أن يخرج من الغرفة وقال بحزن: -أنا اللي بتمنى أسامحك أكتر منك يا ملك! وخرج دون أي إضافة أخرى ذاهبا إلى غرفة تمــارا، بينما جلست ملك وشيء ما يُخبرها أن جملته الأخيرة تلك ما هي إلا بصيص أمل بينهما ...
"في صبيحة اليوم الموالي" استيقظ "حازم" من نومه, فلم يجد "سانــدرا" جواره ككل يوم، سمع صوت يأتي من خارج الغرفة يبدو أنها بالخارج وتحديدا في المطبخ .. نهض عن الفراش بهدوء واتجه إلى الخارج قاصدًا إياها، بالفعل دخل المطبخ واتجه نحوها قائلة وهو يمسد شعر رأسه: -صباح الخير يا ساندرا .. فأجابت عليه باقتضاب وهي تسكب طعام الفطار في الأطباق: -صباح الخير ..
تنهد بصوت عالي وقد علم أنها غاضبة، فقال بمراوغة: -المفروض يكون فيه حاجة اسمها صباحك هنا يا حبيبي، صباح القشطة،صباح السكر... كدا يعني يا ساسو! -ساسو! هكذا قالت بنبرة تهكمية, وخرجت من المطبخ وهي تحمل الاطباق قائلة: -الفطار جاهز ..
زفر زفرة عنيفة وتبعها حيث صالون المنزل، وضعت هي الأطباق على الطاولة وكادت تذهب لولا يده القوية التي جذبتها إليه مع قوله: -خلاص يا ساندرا ..مش لازم تنكدي .. قالت بلا تردد: -لازم ..وهنكد عليك عيشتك طول ما أنت كمان بتنكد عليا .. -أنا مش بنكد عليكِ يا ساندرا دا أنتِ على فكرة .. ردت بنظرة ثاقبة: -لما حضرتك تيجي شارب يبقى بتنكد عليا ولا لا ؟!
أجاب بجدية: -بس دا شئ ميخصكيش يا ساندرا .. ودي حاجة متنكدش عليكي ! -عيبك إنك مش قادر تفهم إني شريكة حياتك ...عارفة يعني إيه ؟ يعني كل تفاصيلك زي ما أنت مشاركني كل تفاصيلي ...أنا ماحبش جوزي يكون بيشرب. . -ساندرا أنا مش بشرب خمرة دا كل الحكاية سيجارة حشيش يعني...
-كله زي بعضه ..وكله بيغضب ربنا،أنا نفسي أعرف إزاي بتصلي وبتشرب ؟, إزاي حجبتني وبتشرب, إزاي دايما بتدافع عن المظلوم في الحارة وأنت بتشرب, إيه يا حازم في إيه متبقاش متناقض ! رفع حاجبه مع قوله' -مش تناقض،بس يا ستي مافيش حد كامل، كلنا فينا عيوب وكلنا بنغلط! -وأنا مقولتش حاجة يا حازم، اغلط بس اتعلم من غلطك ..مينفعش تستمر فيه .. -ما أنا قلت بحاول يا ستي أنتِ هتصدعيني على الصبح ليه ...
أشارت له قائلة بغيظ: -شوفت هتقلب عليا إزاي ؟! اقترب منها ممسكا برأسها وراح يقبله مع قوله: -يا ستي لا هقلب ولا حاجة وبعدين متنسيش انك غلطتي فيا امبارح برضوه وأنا عديت بمزاجي ..ها! -أنت اللي استفزتني بسبب كلامك .. -طب خلاص يا ساندرا خلاص ..ممكن نفطر بقى ولا إيه ؟! هزت رأسها بهدوء لكنها أردفت بعناد: -مش قبل ما توعدني إنك هتبطل ... تنهد قائلا: -ماشي يا ستي أوعدك !
انسابت دمعاتها واحدة تلو الأخرى وهي تُشاهد صور والدها عبر هاتفها المحمول، لتهمس من بين دموعها: -ربنا يرحمك يا بابا. توجه "علي" إليها وجاورها قائلا بخفوت وهو يمسح على شعرها: -الله يرحمه .. ردت بحزن: -يارب ..كل لما بفتكره يا علي بحزن جدا،مات فجأة كدا وأثر فيا أوي .. -الله يرحمه ويغفر له يا حبيبتي كلنا هنحصل بعض ..
اومأت برأسها قائلة: -فعلا ..ربنا يرحمنا جميعاً.. عاوزة أعمله صدقة جارية يا علي .. -نعمله يا حبيبتي، بس متزعليش عشان خاطري..الزعل وحش عشانك يا ريمو .. ابتسمت وهي تمسح دموعها العالقة مع قولها: -أنا مش بزعل طول ما أنا معاك يا علي، ربنا يديمك نعمة في حياتي يا حبيبي .. ثم صمتت قليلاً قبيل أن تضيف بحذر: -علي ...
رد عليها مهتما: -نعم يا ريمو .. أرجعت خصلة من خصلات شعرها خلف أذنها، وقد قالت برقة: -نفسي أبقى أم .. تنهد علـي وقربها منه قائلا بهدوء: -عارف ..بس للأسف مينفعش ...خطر جدا وأنتِ عارفة! -بس أنت ذنبك إيه يا علي ..أنا دايما بعاتب نفسي و... قاطعها بجدية قائلا: -إيه الكلام دا؟! وأنتِ كمان ذنبك إيه يعني؟!
-ذنبي إني حبيتك وفضلت وراك لحد ما اتجوزتك يا علي .. ضحك علي مقهقها ..ثم قال من بين ضحكاته: -والله؟ ..دا على أساس إني مكنتش بحبك وبموت فيكي مثلا ؟! يا حبيبي دي إرادة ربنا وأنا راضي ومبسوط كدا بحياتي ... -بس أنا خايفة يا علي.. -من إيه بس. أخبرته وعيناها تتلألأن بعبرات حارقة: -من يوم ..تكون فيه زهقت ..نفسك تكون أب ..زهقت مني شخصيا ومن مرضي ..
ابتسم ممسكا بذقنها وقد أخبرها بصدق: -هو أنا كل شوية أزعق وأقول إني بحبك جدا ؟! وإنك ست البنات كلهم؟! ميرال بلاش بقى الكلام دا أنتي كدا متعرفيش غلاوتك عندي وكدا بجد هزعل واخر مرة هقولك انسي الكلام دا وإلا هزعل فعلا والله .. تعلقت في عنقه وقد قالت بدلال راق له: -ماقدرش على زعل "علي" كله إلا علي .. -طب كدا الامتحان هيروح عليكي ولا أنا متهيألي ؟!
هبت واقفة وركضت إلى خزانة ملابسها مع قولها المرتبك: -كدا يا علي كنت هتنسيني الامتحان .. -أنا برضوه! ماشي! عادت إليه وهي تحمل الثياب ثم ألقتهم على السرير واقتربت من المرآة تنوي تزيين شفتيها ووضع القليل من مستحضرات التجميل..لكنها ألقتهم على الفور ما أن آتاها صوته الجهوري وهو يقول بعصبية: -بتعملي إيه ؟
ابتلعت ريقها وابتعدت عن المرآة بهدوء قائلة بحزن: -ولا حاجة مش بعمل .. هو بصلابة: -أها بحسب ! مطت شفتيها بطريقة طفولية وشرعت في ارتداء ملابسها بخجل، ليبتسم وهو يقول يحاول ارضائها: -أنتِ زي القمر لوحدك فمينفعش تحطي أي حاجة أنا مش هستحمل !
راحت تمشط شعرها الطويل المُهلك أمام المرآة بضيق وهي تقول بتذمر: -اوف معنديش وقت أسرح شعري، لو سمحت يا علي متتكلمش خالص دلوقتي أسكت .. قهقه ضاحكا وهو ينهض متجها نحوها وقد عانقها مستندا بذقنه على كتفها قائلا: -بتزعقيلي؟ حركت رأسها سلبا بخجل، فأخذ منها ممشط الشعر ليقوم هو بتصفيف شعرها بحب شديد،ثم ألقى كل تركيزه على خصلات شعرها العسلي قائلا بتنهيدة حارة: -شعرك حلو اوي يا ريمو ..
فقالت بلا اكتراث: -بفكر أقصه بيضايقني كتير .. رفع حاجبه محذرا: -اوعي ..والله ازعل وأجيب ناس تزعل! ضحكت برقة واكتفت بالصمت، ليقول باهتمام: -أعملك ضفيرة؟ -أيوة بس بسرعة بقى عاوزة الحق ألف الطرحة وألحق الامتحان يلا علي بسرعة يا علي .. -عنيا حاضر عنيا! قالها مقلدا إياها فضحكت مرة أخرى وهي تقول: -كدا يا علي! انتهى أخيرا من عمل الجديلة ..ليقول وكأنه قام بإنجاز هام: -أخيرا ! ..
بعد مرور الوقت .. طُرق الباب في منزل "علي"،فتوجهت "چنا" كي تفتح الباب،قالت ما ٱن فتحت بتساؤل: -حضرتك مين؟! فأجابت سيدة عجوز بشوشة الوجه: -إزيك يا حبيبتي أنا جارتكم الجديدة .. چنا مبتسمة بهدوء: -اه أهلا وسهلا -أهلا بيكي يا حبيبتي، ماما موجودة ..
دخلت چنا كي تنادي والدتها، وبالفعل بعد قليل قد حضرت السيدة سميرة قائلة بابتسامة: -اتفضلي .. فقالت السيدة مبادلة إياها الابتسامة: -صباح الخير،أنا أسفة إني بخبط عليكم .. -لا متقوليش كدا تنوري ..
-النور نوركم والله، أنا بس كنت جاية أعتذر عشان إبني خبط عليكم امبارح وطلب حاجات يصلح بيها حاجات في الشقة، أحنا أسفين لو سببنا لكم أي إزعاج .. فقالت سميرة بهدوء: -لا أبدا دا حتى الجيران لبعضها يا حبيبتي.. -تشكري كلك ذوق والله ..متؤمرنيش بحاجة؟! -يا حبيبتي الامر لله تسلمي -سلام عليكم ..
انصرفت السيدة ..وأغلقت سميرة الباب،قائلة لإبنتها: -شكلها ست طيبة أوي ..وبيني وبينك يا چنا علي أحرج الولد أوي .. چنا بتأكيد: -أيوة بصراحة ..بس هو عمل كل دا عشان بيغير على الست ميرال بتاعته .. -مش مراته يا چنا،كل راجل بيغير على حبيبته يا بت ..
ضحكت خاتمة جملتها،ومن ثم استأنفت: -عقبالك لما ربنا يرزقك بابن الحلال يا چنا وأطمن عليكي ويحبك كدا زي ما علي بيحب مراته ويخاف عليكي .. ابتسمت چنا قائلة بسخرية: -ابن حلال إيه يا ماما أنا خلاص كبرت وكمان مبقتش أفكر في الموضوع دا .. -حرام عليكي متقوليش كدا في وشي أنا عشمي في ربنا كبير.. بكرة يجيلك نصيبك .. -إن شاء الله يا ماما ...
ولجت "رغدة" إلى محل الملابس الذي تعمل به، وهي تبتسم كعادتها حينما تدخل هذا المكان، لينهض رجل في عقده الستين ناظرا لها مبتسما أيضاً قائلا بغمزة من عينيه: -صباح الفُل .. بينما يتابع بغزل صريح: -والجمال والحلاوة على زينة البنات ..
ابتسمت رغدة بخجل وقالت: -أسفة اتأخرت النهاردة شوية معلش أصل رحت الجامعة الأول وبعدين رجعت تاني على بيتنا عشان أدي لمرات أخويا المحاضرات أصلها بتروح على الامتحانات بس وأنا اللي طالع عيني بجد .. ختمت جملتها بضحكة ناعمة، ليقول ضاحكا:: -حنين اوي .. جعلها تضحك مرة ثانية بصوت أكثر نعومة ودلال، لكنها ابتلعت باقي ضحكاتها هذه فجأة عندما وجدته أمامها !
نعم شقيقها حـازم ..الذي دخل الآن إلى المكان ووجه محتقن بدماء الغضب، فيما يهتف بصرامة قاتلة: -ويا ترى بقى يا حاج سعيد أنت بتشغل بنات الناس عندك عشان المسخرة دي ؟ -جرى إيه يا حازم حاسب على كلامك يا أخي! -أحاسب على كلامي؟! هكذا قال وهو يقترب منه، بينما يتابع بغضب: -طب ما تحاسب أنت على بنات الناس، يا أخي عيب على سنك دا والله!
-حازم..أنت بتتكلم كدا ليه! أختك في الحفظ والصون! -حفظ وصون! هو فين دا يا معلم؟! انا كل اللي شوفته دلوقتي ضحك ومسخرة! تنهد الرجل وقال بجدية شديدة: -طب من الآخر كدا أنا عاوز أختك في الحلال يا حازم ..
حازم وقد نظر إلى شقيقته بصرامة, ثم عاد ينظر إلى سعيدة بعينين حادتين قائلا بلا تجميل للكلمات: -طلبك مرفوض، معندناش بنات الجواز، ولا كمان فيه شغل بعد النهاردة ...يلا يابت .. شدها معه من ذراعها وخرج بها خارج المحل قائلا: -أقسم بالله لأعلمك الأدب يا رغدة ..