بلحظة كان بدر يقتحم ذلك المكان، ليجد ذلك الرجل يحمل أيسل ببطء شديد وهو يترنح في مشيته، لتستعر نيران غيرته التي اشتعلت بين جنبات صدره وهو يرى ذلك القذر يحملها ويداه تصل لأي جزء من جسدها..!
زمجرة عنيفة تود إختراق حنجرته لتصل للنور، لا يحق لأي مخلوق لمس ما هو له، ما يخصه، يخصه وحده، أيسل أصبحت ملكية خاصة له، النيران التي نشبت بكل خلية بجسده لم تجعل عقله يسعفه ليذكره بمَن تكون ومن يكون وما الظروف التي اجتمعا بها، بل اصبح كالثور الهائج لا يرى سوى الخط الاحمر امامه... إندفع نحوه يجذبه من ملابسه بعنف ودن أن يعطيه الفرصة كان يكيل له اللكملات ليفرغ به كل غضبه وجنونه وغيرته...
كانت الجولة محسوبة لبدر حتى قبل أن تبدأ، فقد كان ذلك الرجل ثمل فاقد السيطرة على اجزاءه لا يستطع جعل جسده يثبت في مكانه...
فقد الرجل وعيه دون عناء يُذكر، فتركه بدر مرمي ارضًا وهو يبصق على وجهه ويصيح بجنون: -كلب ابن وخسارة أوسخ ايدي بيك.
ولكن حينما سار خطوتان إنتبه للبنزين المسكوب في كل ركن من ذلك المكان، فعاد ينظر للرجل للحظات ثم تقدم منه ليجذبه من ملابسه نحو الخارج بسرعة ثم رماه في ركن ما في الشارع على بُعد مسافة معقولة من الملهى الليلي، و ركض وبسرعة يعود للملهي ليركض نحو البار ويجلب ماء ثم عاد لأيسل التي كانت مُلقاه ليجلس جوارها بسرعة ثم وضع رأسها على قدمه، وبدأ يلقي ببعض قطرات من الماء على وجهها وهو يضرب على وجنتاها برفق مناديًا:.
-أيسل، أيسل فوقي يلا، أيسل اعاد الكرة أكثر من مرة، واخيرًا قررت أيسل العطف على بدر الذي كان القلق ينخر روحه نخرًا..! وتفرق جفناها لتبزغ حياته من بينهما في نفس لحظات بزوغ عينيها البنية التي شابهت وجه القهوة... ليحيط وجهها بين يداه متنهدًا بعمق، وهو يناديها من جديد بصوت أكثر إصرارًا: -أيسل، فوقي وركزي معايا يا أيسل لازم نمشي من هنا.
أمسكت أيسل برأسها وهي تعقد ما بين حاجبيها تحاول نثر التركيز والوعي بين بقاع عقلها المظلم في عالم اللاوعي، وما إن إرتكزت نظراتها عليه حتى همست بتعجب مشدوهه: -بدر! أنت جيت هنا ازاي وبتعمل إيه؟ -زي السكر في الشاي، قومي الله يرضى عنك مش ناقصة غباء.
قالها بدر بتلقائية ونفاذ صبر وهو يمسك جسدها ليعاونها على النهوض، فنهضت هي باهتياج تتفحص ملابسها لتجد كل شيء كما كان فتنفست الصعداء ليسألها هو بقلق يشوبه الحنان: -انتي كويسة؟ اومأت هي برأسها وتمتمت بخفوت: -كويسة الحمدلله دايخة شوية بس لكنها أردفت بعدها بصوت جامد: -بس أنا مش همشي من هنا قبل ما أكمل اللي جيت عشانه!
لم يكن ينوي محاسبتها في هذا المكان، ولكن يبدو أنها لن ترضخ حتى ينفث بوجهها كل غضبه الأسود الذي يجعل احشاؤوه تتلوى بضراوة وهو يكتمه بشق الأنفس.. وبالفعل أطلق العنان لذلك الوحش الكامن داخله ولم تستكين نيرانه بعد، فراح يزمجر فيها بشراسة وهو يقترب منها خطوة: -إنتي مجنونة؟ إنتي بكامل قواكي العقلية جيتي المكان القذر ده وشوفي اللي كان هيحصلك لو لا قدر الله كنت اتأخرت شوية!
كز بدر على أسنانه بعنف، يكره دور الباردة الذي تصطنعه، يكره تصنعها للامبالاة بينما هو يرى من هنا قمم جبال ثباتها وبرودها تنهار لتنصهر بين ألسنة اللهب التي تحاوطها من كل جانب...!
ثم هدر فيها بجنون وجسده كله يشع عنف: -بطلي ام البرود واللامبالاة دي، ولا اه سوري أنا نسيت إنك بتفرحي لما بتلفتي نظر الرجاله وبتفرحي لما بتحسي إنهم هيتجننوا عليكي!
-أنت واحد مش محترم صرخت بها أيسل ورفعت يدها تنوي صفعه ولكنه كان الأسرع ليمسكها قبل أن تصل لوجهه، ليلوي ذراعها خلف ظهرها وهو يجذبها له ليلتصق ظهرها بصدره دون عناء، لفحت أنفاسه اللاهبة العنيفة جانب وجهها لتشعر بدقات قلبها تتبعثر والفوضى تعم كيانها كله، بينما هو استطرد جانب اذنها بوحشية عاطفية:.
-انا اللي مش محترم ولا انتي اللي انسانه معندكيش احساس ولا دم، مش مدركة انا في الدقايق اللي فاتت حسيت بإيه وأنا شايف حيوان سكران شايلك وانتي مغمى عليكي ومعرفش إيه اللي حصل وعمل فيكي إيه، لمسك ولا لا؟ عراكي عشان يرضي غريزته القذرة ولا لسة؟! كانت أيسل تتنفس بصوت مسموع، تدرك مدى عمق جرحه الذي يتناثر نزيفه بين حروفه، تكاتلت عليه وحوش الغيرة التي غذاها ذاك المشهد لتمزقه ببطء وبقسوة...!
ولكن لن تتراجع وتخمد نيرانها هي حتى تتم ما جاءت من أجله، فابتلعت ريقها قبل أن تتشدق بصوت مبحوح تتمنى أن يفهم ما تعانيه: -أنا مش هقدر أمشي لو معملتش كده يا بدر افهمني بليز أخذ بدر زفير عميق قبل أن يفلت يدها من بين قبضته القاسية ببطء فاستدارت هي لتصبح في مواجهته، امامه تمامًا ولا يفصلهما شيء...
هنا، حيث السكون، حيث لا يدوي صوت سوى صوت أنفاسهم اللاهثة، حيث عينيها المُخضبة بالوجع حين تمتزج بعيناه السوداء العميقة في وصال حار مُهلك من العاطفة جعل الدنيا صغيرة جدًا خلال تلك اللحظات في نظرهما... لتهمس هي قاطعة ذلك الصمت، بصوت متهدج، مبعوث من رماد الألم بعدما حُرقت بقسوتهم مرارًا وتكرارًا:.
-أنا لازم اوجع قلبهم على المكان القذر ده زي ما وجعوا قلبي بقسوتهم وجحودهم، لازم أحرق المكان ده علشان يعرفوا إن القرف ده ممكن يغور وميبقالوش وجود في أي لحظة، لكن أنا لأ، انا بنتهم من لحمهم ودمهم، أنا اللي هفضل باقية ليهم! لم يملك بدر سوى أن يومئ برأسه مؤكدًا، لا يستطع ألا يوافقها وهو يراها تفرش أمامه ولأول ما يجول بصدرها ويجعل قلبها يضخ ألمًا بدلاً من الدم...! ثم خرج صوته حازمًا اجشًا وهو يخبرها:.
-بس انتي هتخرجي وهتتفرجي من بعيد وانا اللي هولع وهنمشي على طول فهزت رأسها بسرعة مستنكرة وبإلحاح تابعت: -أنا اللي هولع بليز يا بدر، لو سمحت سيبني اعمل اللي هيريحني!
نظر بدر يمينًا ويسارًا ولحسن الحظ لم تكن توجد كاميرات كما خطر بباله، فامسك بيدها الصغيرة بقبضته بإحكام ثم سحبها للخارج بهدوء حتى أصبحوا على أعتاب ذلك المكان لتقف أيسل اولاً وبدر خلفها، أمسكت عود الكبريت ثم أشعلته لتلقيه بعيدًا عنهم بخطوات وبلحظة ودون ذرة تردد... وفي تلك اللحظات تشكلت علاقة عكسية، إشتلعت النيران بذلك المكان ليصبح الرماد المتبقي منه تميمة تُحيي روحها هي من بعد موتها...
حاول بدر سحبها ولكنها كانت متيبسة ترفض الخضوع وتحدق بتلك النيران بوله وكأنها السكين الذهبية التي نالت بها قصاصها... ليردف بدر بحدة مُحذرًا إياها: -يلا يا أيسل أكيد الناس هتتلم دلوقتي اول ما يحسوا بالحريق اومأت أيسل برأسها بسرعة: -طيب يلا.
ولكنها حينما تحركت لم يسعفها الحذاء ذو الكعب العالي والبنزين المسكوب ارضًا لتلتوي قدمها وتسقط ارضًا لتمسها تلك النيران للحظات معدودة من الزمن ولكنها صرخت بألم وهي تبتعد بسرعة في نفس اللحظات التي سحبها بدر بها بقوة... ليمسكها من كتفاها برفق متساءلاً بنبرة نضحت منها اللهفة والقلق: -انتي كويسة؟ النار طالتك؟ فأومأت هي بألم وهي تمسك ملابسها عند ظهرها، ثم غمغمت عاقدة حاجبيها: -أيوه إتلسعت بس بسيطة يلا نمشي.
وبالفعل غادروا معًا بسرعة قبل أن يأتي أي شخص...
في القرية... تحديدًا في غرفة قاسم البنداري... كان طريح الفراش، ممسكًا بصورة متهالكة وقديمة جدًا لشابة في العشرينات من عمرها، وضعها جوار قلبه وهو يتحسسها متمنيًا لو كان القدر سنح له ليتلمس ملامحها المشرقة يومًا ما...!
خرج صوته حاملاً الاشتياق، ذلك الشعور المتزايد حد الوجع، حينما تشتاق وتجن معاقيل روحك لروح لم تعد في دنيانا، ولم يمهلك القدر فرصة لتنتشل بضع ذكريات من مخالبه لتعيش عليها، بل تركك خالي الوفاض، تعاني مرارة الأمرين والاشتياق مشتركًا بينهما...! -وحشتيني يا زينب، وحشتيني وهتفضلي وحشاني لحد ما اجيلك ثم هز رأسه ليكمل بوجع:.
-بس انتي مش وحشاني من يوم ما مُتي بس، لأ يا زينب إنتي وحشاني من يوم ما أخبارك إتقطعت عني، من يوم ما اتجوزتي راجل تاني واتحرمتي عليا! ثم إرتسمت ابتسامة عرجاء ضعيفة على ثغره وهو يستطرد بذات النبرة: -بس تعرفي يا زينب، بنتك مش شبهك، ممكن تكون شبهك في الشكل، لكن الروح لا، بتك قوية وشرسة وقادرة تدافع عن الراجل اللي بتحبه ماستسلمتش للواقع، بتحارب وهتحارب ثم هز رأسه بصلابة ليكمل وكأنه يوعدها ويطمئنها:.
-بس متقلقيش، أنا شايلها فوق راسي والله، عارف إن يونس ابني عنيد وبيقسى عليها حتى لو حاول مايبينش قدامنا لكن والله من جواه حنية الدنيا وعادت تلك الابتسامة للظهور وهو يردد بشجن:.
-تعرفي يا زينب، من اول لحظة لمحتها فيها في اليوم اياه لما حصل الموضوع اياه بينها وبين يونس، وانا لاحظت الشبه الواضح بينكم، وماكدبتش خبر وخليت معارفي يجبولي من الشغل اللي كانت فيه كل المعلومات عنها وشهادة وميلادها وكل حاجة، ومن اللحظة اللي عرفت فيها إنها بنتك وانا قررت إن يونس لازم يتجوزها، مع اني مش مصدق إن يونس يعمل فيها كده، انا ماربيتوش على كده يا زينب، لكن ماسبتش للشيطان سبيل وقولت لازم اجوزهم ولو ليهم نصيب في بعض ربك قادر يربط خيوطهم ببعض.
ثم هز رأسه بسرعة: -ماكنتش اقدر أظلمها وأخليها تعاني زي ما انتي عانيني يا زينب، انا اسف يا زينب، انا اسف يا غالية فرك عيناه بعنف يمنع تلك الدمعة التي كانت تلح ليطلق سراحها من بين جفناه، ولكنه أبى، فتابـع بصوت حاني وبنبرة مختنقة: -بس انا بحبها، اوعي تكوني مفكره إني بكرهها علشان هي مش مني، لا، انا بحبها عشان هي بنتك انتي، كل ما اشوفها هشوفك فيها ثم عاد ليتحسس الصورة متمتمًا بصوت يكاد يسمع:.
-انا اسف، سامحيني يا زينب، سامحيني يا حبيبتي!
عودة للقصر... وصل كلاً من أيسل وبدر، فنهضت فاطمة التي كانت تنتظرهم على أحر من الجمر لتركض نحو أيسل صارخة بفرحة وقد تهللت أساريرها: -أيسل، وحشتيني اليوم ده يا حبيبة ماما فاحتضنتها أيسل بقوة تغرق نفسها بين أحضانها الدافئة وقد بردت من قسوة وجفاف الوحدة..! وهمست بابتسامة واهنة: -وانتي كمان وحشتيني اكتر يا مامتي رفعت فاطمة رأسها لتتفحصها بقلق ليطمئن قلب الأم الملتاع داخلها:.
-إنتي كويسة يا قلبي؟ عملتي إيه في اليوم ده؟ وأكلتي كويس ولا لأ؟ اوعي يكون حد ضايقك هناك؟ فهزت أيسل رأسها وبهدوء ورقة راحت تطمئنها: -انا كويسة يا حبيبتي متقلقيش ومحدش ضايقني ولا حاجة واكلت لم تُخفى عن بدر تلك الاختلاجة اللحظية في ملامحها حينما سألتها فاطمة عن إزعاج أي شخص لها، فتنافرت عروقه وذلك المشهد يعاود غزو مخيلته ليكتسحها من جديد مخلفًا خلفه مشاعر عنيفة وعاطفة متأججة...
إنتبه حينما إلتفتت فاطمة له لتردد له بامتنان حقيقي: -من وقت ما شوفتك طالع في الوقت ده كنت متأكدة إنك رايح تجيبها، شكرًا يا بدر شكرًا جدًا فتنحنح بدر بحرج مجيبًا: -مش محتاجة شكر يا ست فاطمة، انا عملت اللي أي راجل مكان كان هيعمله وكمان احنا بينا إتفاق! اومأت فاطمة وهي تربت على كتفه بابتسامة حلوة: -بس برضو لازم اشكرك، ربنا يحفظك لشبابك.
بادلها بدر الابتسامة المُجاملة ولم يُعلق، ثم لاحظ تشنج ملامح أيسل وهي تمسك ظهرها، ليبتلع ريقه بعدها متمتمًا في هدوء: -بعد اذنك يا ست فاطمة عايز أتكلم مع أيسل في حاجة بس.
اومأت فاطمة برأسها موافقة، ليسحب بدر أيسل من ذراعها برفق متوجهًا بها نحو غرفتها وبيده الكيس الذي به المرهم الذي سيضعه لها، حمد الله أن مريم لم تكن موجودة في إستقبالهم الان ويبدو أنها نامت لحسن حظه وإلا لكانت اضجرته بمشاجراتها وكلامها الذي أصبح يثير حنقه مؤخرًا...
دلفت أيسل اولاً لغرفتها، ثم وقفت أمام الباب لتمد يدها له متسائلة بهدوء: -شكرًا يا بدر، فين المرهم بقا عشان ادهنه انا مش عايزه أتعبك اكتر؟ فرفع بدر حاجبه الأيسر مستنكرًا: -نعم ياختي! أخرتها شكرًا يا بدر وبتطرديني من اوضتك بعد الفيلم الاكشن اللي عملناه سوا من شوية ده؟! والله ما حد داهنلك المرهم ده غيري انتي بتقولي إيه!
ثم دفعها برفق ودلف ليغلق الباب خلفه، فسألته أيسل و دبشها يتقافز من حروفها وهي تردد بتوجس: -أنت دخلت ليه؟ اطلع برا انا اللي هادهنه لنفسي يا قليل الأدب كاد بدر يضحك ولكنه تمالك نفسه ليخبرها بجدية: -صدقيني هدهنهولك عشان مش هتعرفي تدهني لنفسك ده في ضهرك، وهطمن انها حاجة صغيرة وخارجية وهطلع على طول! للحظات زاغت عينـا أيسل بتردد ولكن الخجل جعلها تهز رأسها نافية بإصرار: -لأ برضو اطلع برا انا هتصرف وهدهنه.
فاقترب منها يسألها بتهديد عابث: -هتقعدي زي الشاطرة وترفعي التيشرت وتخليني ادهنهولك بما يرضي الله ولا أجي ارفعه انا وادهنهولك برضو بما لا يرضي الله؟ جلست أيسل على الفراش على مضض، ثم رفعت التيشرت بتذمر تقنع نفسها أنه سيرى جزء من ظهرها فقط ولن يحدث شيء سيمر الامر خلال لحظات...!
ولكن ما إن جلس بدر خلفها ووضع ذلك المرهم وبدأت أصابعه تتلمس ظهرها ببطء شديد حتى بهت كل شيء أقنعت به نفسها، شعرت أن دقات قلبها تثور وتتجمهر بعنف بين جنبات صدرها، ودوار حاد من المشاعر يُداهمها...
بينما بدر يلعن نفسه ويلعن تهوره الذي دفعه لفعل تلك اللعنة، تعالت أنفاسه وهو يحس بدماؤوه تغلي بين شرايينه وتلك العاطفة تتأجج من جديد بشعور لذيذ ومُهلك... يشعر أنه أحس بملمس النعيم الذي يفصل بينهما أميال وعوائق شتى، النعيم الذي سيحترق بلظى الشوق حتى يصل له...!
وما إن إنتهى أجبر نفسه على الابتعاد لينهض محاولاً لفظ تلك المشاعر من شرنقة جوارحه الحارة، يهز رأسه وهو يقنع نفسه أنه رجل، وهي أنثى، ومن الطبيعي أن يتأثر بأنوثتها!.. يحاول تذكير نفسه أنها أيسل، تلك الفتاة الأنانية القاسية التي ترضى الاذى لغيرها...
بينما هي مغمضة العينان مأخوذة بتلك العاصفة العنيفة من المشاعر والتي لم يُخرجها منها سوى صوت بدر وهو يقول بخشونة: -خلاص كده خلصت اومأت هي برأسها موافقة ثم همست بنعومة: -شكرًا يا بدر ثم حاولت تغيير الموضوع فقالت متسائلة بابتسامة لم يراها وهي تعطيه ظهرها: -مقولتليش يا بدر، أنت روحت هناك ليه؟ -يعني إيه ليه! هو إنتي كنتي عايزاني ماروحش؟ فهزت رأسها نافية: -لأ بس متوقعتش إنك تيجي، جيت ليه اصلاً؟
فأجابها بعنفوان: -عشان أي راجل شرقي عنده دم مش هيسيب واحدة مكتوبة على أسمه تبات في مكان زي ده، حتى لو كان إيه! حينها نهضت أيسل تقترب منه، حتى وقفت أمامه مباشرةً تكاد تكون ملتصقة به، لتنظر لعيناه محدقة بها بثبات ثم سألته من جديد بنعومة: -بس كده؟ فعاد بدر خطوتان للخلف، يكفيه ضعفًا امام مشاعره الرجولية، يجب أن يضع ماهيتها التي يكرهها دائمًا نصب عيناه!.. ثم هز رأسه مؤكدًا بهدوء وجمود:.
-ايوه كده، حتى لو انتي فيكي كل العبر متنسيش انك مراتي وكان لازم اعمل كده، ومتنسيش إن بينا إتفاق يا أيسل هانم! قال اخر كلماته ثم استدار ليغادر في هدوء، مخلفًا بعده سكون تاااااام، وها قد عدنا لنقطة البداية...!
في القرية... دلفت ليال لغرفتها تنظر يمينًا ويسارًا خشية من تواجد أي شخص، لتخرج هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين، فأجابت بضجر: -ايوه -ايه يا ليلو مش عايزه تردي عليا ولا إيه!؟ فزمجرت فيه ليال بصوت منخفض: -أنت عايز إيه تاني؟ ليرد هو ببرود: -عايز الفلوس اللي قولتلك عليها -منا قولتلك اصبر عليا شوية.
-مش هينفع انا محتاج الفلوس دي ضروري حياتي متوقفة عليها، وبعدين دا انتي متجوزه يونس باشا البنداري بجلالة قدره مش هتعرفي تتصرفيلي في كام الف! -اوف منك، قولتلك الوضع متزفت بيني وبين يونس مش هعرف -مليش فيه اتصرفي، الفلوس تجيني خلال يومين ماذا وإلا يونس باشا حبيب القلب هيعرف كل حاجة من طق طق لسلامه عليكوا وهيعرف أصل الحكاية كلها وهيعرف مين اللي زقك عليه!
تأففت ليال والقلق يساورها حيال ذلك الحقير ومما ممكن أن يفعله، فقالت بعدها: -صدقني يونس حتى مش بيخليني اخرج عشان اعرف اقابلك! وفي تلك اللحظات تحديدًا وعلى ذكر يونس كان يقتحم الغرفة بعنف وهو يقترب منها مزمجرًا بشراسة والشك يقطر من حدقتاه: -انتي بتكلمي مين ومش عارفه تشوفيه؟
للحظات فشلت ليال في إيجاد سبيل لنجدتها من بين براثن غضب يونس التي لوحت لها من حدقتـاه السوداوتان..! ليقترب هو منها خطوة اخرى مكررًا سؤاله بلهجة أشد لم تأتي خالية الوفاض بل غذت بذور القلق التي نبتت بين ثنايا روح ليال : -ردي عليا مين اللي كنتي بتكلميه ومش عارفه تشوفيه؟! ثم صرخ بعدها بذهول باذقًا تلك الكلمة التي كانت قد تكتلت في جوفه تأبى الخروج: -بتخونيني يا ليال؟!
حينها هزت ليال رأسها بسرعة وهي تجيبه بما أسعفها عقلها به لتمسك لجام خياله الذي إنطلق نحو هاوية مُظلمة العودة منها ضارية ودامية...! -لا طبعا أنت بتقول إيه، أنا مستحيل أعمل كده يا يونس مستحيل فسألها باستنكار ممسكًا ذراعها بقسوة وهو يكز على أسنانه بعنف: -امال مين اللي كنتي بتكلميه واللي انا السبب انك ماتعرفيش تشوفيه!؟ إنطلقت تلك الاجابة من بين شفتاها قاصدة إختراق هالة الشك التي غلفت عقله كليًا:.
-ده واحد كان بيحبني من أيام ما كنت عايشة في منطقتنا ولسه لحد دلوقتي بيطاردني واضطريت أقوله كده علشان يسيبني في جالي! -كدابة هدر بها يونس منفعلًا بغير تصديق وهو يضغط على ذراعها بقبضته أكثر متعمدًا إيلامها، وعقله يكاد يهلك من فرط الأفكار والتساؤلات التي تحيط به كالحلزون ويدور هو حولها بلا هوادة...! لتسارع هي القول بملامح متشنجة من ألم ذراعها الذي سيترك اثرًا بالتأكيد:.
-والله مش بكذب يا يونس، لازم تصدقني المرادي ترك ذراعها فجأة، ليلتقط أنفاسه اللاهثة من فرط إنفعاله، ثم قال بلهجة آمرة مشيرًا للهاتف الذي تقبض عليه بيدها: -إتصلي بيه دلوقتي قدامي عشان أصدق، لأني معنديش ثقة فيكي ولو واحد في الميه! ثم اقترب منها ممسكًا بشعرها بعنف ليقترب بوجهه من وجهها مغمغمًا بهسيس خطير أنبأها عن فرش عقله لسيادة شيطان الغضب والجنون:.
-ولو طلعتي كدابة وعقلك وزك بس انك تخونيني وديني وما أعبد يا ليال هخليكي شبه ميته بتتمنى الموت الحقيقي ومش هتطوليه وهتشوفي مني وش مشوفتيهوش قبل كده! ثارت الفوضى بين جنبات صدرها والرعب يسيطر على مقاليد روحها وهي تراقب عيناه السوداء تُنذرها بجحيم مُظلم ومُهلك وقد إصطبغت عيناه بلونه... فأجبرت شفتاها على النطق محاولة الدفاع عن نفسها بحروف مبعثرة كحالها:.
-أنا آآ، لأ أنا مش بكذب يا يونس، هخونك ليه وأنا بتمنى إنك تحبني وتعتبرني مراتك بجد! فنفضها تاركًا إياها بنفس القسوة وهو يشير برأسه نحو الهاتف وكأنه لم يسمعها: -إتصلي وافتحي الاسبيكر رفعت الهاتف بحركة اكثر بطئًا من السُلحفاه، يا الهي، تشعر أنها تضع بيدها الجمرات في قالب المنجنيق لتحرق صفحة البداية بينها وبين يونس والتي لم تكتمل حتى بعد...!
ناشدت الله بكل الطرق التي تعرفها في سرها، فقط لا يُفضح أي شيء، لا تحترق من أي جانب يا الله... وبالفعل إتصلت بذلك اللعين ليأتيها صوته البارد قائلاً بتسلية: -كنت متأكد إنك هتتصلي بيا تاني، هاا قررتي إيه يا ليلو؟! فتمتمت ليال بصوت من المفترض أنه غاضب ولكنه خرج باهتًا مرتعبًا كما لم تكن يومًا: -قررت إيه يا متخلف أنت أخرج من حياتي بقا!
زجرها يونس بعيناه بتحذير لتتعامل بهدوء وبتلقائية تناسب علاقتهم التي لا يدري ما ماهيتها... ليسمع ذلك الحقير يتابـع بنفس البرود المُستفز: -تؤ تؤ، كده أنا ازعل، وزعلي وحش، عارفه ليه يا ليلووو؟ لأن آآ... فقاطعته ليال بسرعة مزمجرة بهلع خوفًا من إكمال جملته: -قولتلك متتصلش بيا تاني ابدًا وأخرج من حياتي مش عايزه أعرفك تاني ابدًا فأكمل هو وكأنه لم يسمعها:.
-لأن زعلي يعني يونس باشا يعرف كل حاجة حصلت وبالتالي زعله هو كمان، وإنتي اكيد عرفتي إن زعله وحش اوي يا ليلو!
للحظات لم يتعرف يونس على ذلك الصوت الذي أشتبه به، ولكن الان بعد أن تمعن التركيز به، ضربه الضوء الذي تسلط فجأة على ما كان مجهول لتدوي الصدمة بين ثنايا عقله كقنبلة مُدمرة في أعتى الحروب...!
هذا صوت صديقه جمال، صديقه الذي كان يعتبره من أعز أصدقاؤوه، صديقه الذي خانه في نفس الليلة الملعونة من حياته، خانه بأبشع الطرق، عاون تلك المحتالة ليال لتُدمر علاقته بمعشوقته الوحيدة...
ولكنه لم يصدق، يقسم أنه لم يصدق نفسه، كذب نفسه، أجل، صدقهم هم حينما قالوا أن جمال لم يعود لمصر منذ سافر ابدًا وبالتالي لم يكن له وجود في تلك الليلة، وكذب ذاكرته التي ترسل له شرارة من الماضي تحرقه وهو يتذكر أن جمال كان موجودًا في تلك الليلة وكان دوره رئيسي في تلك اللعبة..!
ولكن الان وقد إتضح للأسف أنه مُحق وأنه لم يكن ثمل كما قالوا بل كان مُخدر ولكنه حينما أتاه جمال ورآه لم يكن مُخدر بالكامل...! وكم تمنى أن لا يكون محق، آآه من ذلك الألم الرهيب المصحوب بخيبة الأمل، يشعر أن شريان الحياه قد ثُقب داخله بضراوة وسيظل ينزف حتى الموت... لمَ، فقط لو يعلم لمَ فعل به هذا، لمَ!؟
إنتبه لــ ليال التي كانت صامتة، تعتقد أن صمته تراتيل ما قبل قربان العذاب والذبح..! ليصدح صوت جمال متأففًا بانزعاج من ذلك الصمت: -يوووه ما تردي يابت انتي اخلصي؟! أغلقت ليال الخط باندفاع قبل أن ترفع عيناها بترقب ليونس الذي لم يحرك ساكنًا، كان جامد المحيا، ملامحه لا تنطق بما يعبث بعقله!. لتهمس ليال مبتلعة ريقها بصوت مبحوح: -يونس أنا آآ... فسألها يونس بصوت بارد خاوي من كل المشاعر الإنسانية:.
-إنتي حبتيني فعلاً في يوم من الأيام يا ليال؟
في البداية لم تستوعب ليال سؤاله، ولكنه قد أحسن تقديم لوحة السؤال لها لترسم عليها الأجابة الوحيدة التي تتفن في رسمها والتعبير عنها، فراحت تجيب دون تردد بنبرة مبحوحة: -اكتر من اي حد واي حاجة في الدنيا دي والله العظيم ليتفتت قناع جموده الذي كان يغطي ملامحه، ويعلو أزيز مرجل الغضب الذي يغلي داخله وهو يجذبها له محيطًا ذراعاها بقسوة ثم أخذ يهزها وهو يهدر فيها بعنف:.
-كدابة، انتي كدابة، اللي بيحب حد مستحيل يأذيه بالطريقة دي، مستحيل يجبره على حاجة ويعمل حاجة هو عارف إنها هتوجعه جدًا ثم لمحت طيف حنين مشوب بالألم وهو يستطرد: -مستحيل يحرمه من حاجة هو بيحبها ويوجع قلبه كده، انتوا ليه عملتوا فيا كده؟ ليه بتحقدوا عليا بالطريقة دي وانا عمري ما رضيت الأذية لحد بقصد او بغير قصد ثم دفعها بعيدًا عنه يرمقها بنظرات مزدردة وكأنها وباء:.
-انتي واحدة أنانية متعرفش يعني إيه حب أصلًا، واحدة عملت كده لأسباب شخصية وتغاضت النظر عن أي حاجة تاني! ثم تهادت نبرته للهدوء التام الذي يشبه السم القاتل ببطء شديد، لا تشعر به إلا حين تموت: -أنا بكرهكم، بكرهكم كلكم، وبكرهك انتي بالذات لم يستطع كبت تعجبه حينما إستكان إلتواء شفتا ليال المقارب للبكاء ليصبح ابتسامة غريبة لا حياة فيها ولا مرح...
ثم قولها الهادئ الساخر الذي ينافي ما تصرخ به عيناها المتحجرة بالدموع: -بجد! بعد كل الاستنتاجات العظيمة دي بتكرهني، لا برافووو بجد ثم صارت تصفق ببطء، إلى أن توقفت وهي تحدق به لينقلب هدوئها لثوران وجنون تام وهي تمسكه من ياقة قميصه مزمجرة فيه بجنون: -بعد كل حاجة عملتها عشان اوصل لقلبك بتكرهني، بعد ما رميت حياتي ورا ضهري بتكرهني، بعد ما استحملت كل الاهانة دي بتكرهني!
ثم ابتعدت لسنتيمتر لتفتح ازرار قميصها حتى ظهرت رقبتها ومقدمة صدرها، وراحت تضرب على رقبتها بعنف وهي تصرخ فيه متابعة بنفس الجنون: -مين قالك اني محاولتش أطلعك من حياتي، أنا حاولت أنتحر من اليأس، حاولت اخنق نفسي وأموت وأخلص زي ما انت بتتمنى كل يوم وبتحاول تخنقني، بس فشلت... ثم أشارت لرسغها بهيستيرية وأردفت: -حاولت أقطع شرايين ايدي وبرضو فشلت، حتى الموت فشلت فيه!
ثم زمجرت فيه بصوت عالي مبحوح حتى شعرت أن حبالها الصوتية كادت تُمزق: -مكنتش لاقيه سبب إني أعيش بعد وفاة ماما، ولما عملت اللي عملته فكرت إني بفتح باب اقدر اوصلك من خلاله وخاطرت بكل حاجة، وبعد كل ده بتكرهني.
كان يونس يتابعها مبهوتًا مكانه، وكل كلمة منها تخترق صدره لتسبب دوي عنيف، مصدومًا من ذلك العشق الذي أصبح لعنتها، ذلك العشق دفن روحها في أسفل سافلين برماده الأسود ولم يتبق منها سوى أشباح تحاول إيجاد الخلاص لتلك الروح...! إنتبه لها حينما بدأت تلطم خديها بعنف غير مبالية بأي ألم جسدي، وتصيح بهيستيرية: -اكرهني يا يونس، اكرهني، اكرهني فأمسك هو يداها بقوة يحاول إيقافها وهو يزجرها بحدة خفيفية:.
-اهدي، ليال اهدي، بقول اهدي ولكنها لم تهدئ ابدًا، كانت في حالة هيستيرية تمامًا، ألم تكفيها قسوة والدها وتصرفاته الغير إنسانيه ولا أبوية ابدًا، ألا يكفيها تهديد لعين بحياة والدها تتذكره كل ليلة قبل أن تنام، ليأتي هو ويكمل عليها...!؟
فلم يفعل هو سوى ما أتى بعقله ليُخرجها من تلك الحالة الهيستيرية، فكبل يداها بيد واحدة خلف ظهرها، وباليد الاخرى كان يثبت وجهها ليجتاح شفتاها في قبلة هوجاء، عنيفة، مضطربة المشاعر ومتأججة العاطفة...!
شفاهما تتلاقى في وصال حار، يحاول فيه تذوق ذلك العشق الذي يقطر من بين شفتاها عله يصبح دواء لكلاهما...! مطلقًا الحرية لشعور ماكر كان متخفيًا تحت ظلال الكره والاشمئزاز، لينطلق مدغدغًا أعماقه، متناثرًا داخله هنا وهناك، مسيطرًا على جزء ملحوظ منه...
بينما هي كانت مسلوبة الانفاس، تحاول إستدراك ما يحدث، ولكنها لم تعي ابدًا، لم تعي سوى وحالتها الهيستيرية تصبح بوابة لعبور ذلك الطوفان الجارف من العاطفة الحارة حينما لامست شفاه الغليظة نعومة شفتاها...
أبتعد يونس اخيرًا حينما شعر بحاجتهما للهواء، ليسألها بأنفاس لاهثة ونبرة خشنة: -هديتي وفوقتي ولا لسه عايزه تفوقي؟! لتضربه على صدره بقوة واهنة وتلك الحمرة تتضرج بوجنتاها من فرط الانفعال والخجل في آنٍ واحد، ثم ركضت نحو المرحاض لتدلف ثم تغلق الباب خلفها لتحبس نفسها به، وتأخذ نفسًا عميقًا...
بينما يونس لم يختلف حاله كثيرًا، لا يدري لمَ فعل ذلك ولا كيف، لا يدري إن كان فعله ليخرجها من تلك الحالة ام استجاب لوسوسة عاطفية غريبة بإذنيه، ولكنه يشعر بشيء غريب، لا يشعر بالندم يمزقه إربًا كالمرة السابقة...!
إجتمع كل مَن بالمنزل على صوت طه الذي إقتحم القصر تتبعه زوبه وهو يصرخ مناديًا بصوت عالي همجي: -أيسل، إنتي فين تعالي يا شيطانة اظهري، يا حجه فاطمة اقتربت منه فاطمة بسرعة تردد بدهشة وتعجب: -في إيه، هو أنت داخل زريبة! ولكنه لم يرد عليها بل أشار نحو أيسل التي وقفت أمامهم بكل برود راسمة ابتسامة ثلجية مقصودة، وزمجر:.
-هي دي اللي ربتيها احسن تربية وعلمتيها أحسن تعليم، علمتيها تبقى شيطانة وتقطع أكل عيش الناس فضحكت أيسل دون مرح وهي تتشدق بازدراد: -أكل عيش مقرف ومقزز زي كل حاجة في حياتكم! بينما فاطمة تردد مدهوشة لا تستوعب شيء: -تقطع اكل عيش إيه وشيطانة مين، خليك دوغري وقول انت عايز ٱيه يا راجل أنت! فاقترب طه من أيسل وتابع بنفس الانفعال المغتاظ:.
-مش انا اللي عايز، أنا جاي النهارده أعرف هي اللي عايزه إيه وحرقت مكان أكل عيشنا ليه فشهقت فاطمة وهي تستوعب التهمة التي يلقيها على أيسل، فراحت تردد دون لحظة تردد واحدة: -لأ طبعا أنت بتقول إيه أيسل هتعمل كده ازاي وليه أصلًا؟! فأشار طه نحو أيسل ساخرًا بمرارة: -اهي قدامك اهي اسأليها انا جاي عشان اسألها نفس السؤال فتوجهت عينـا فاطمة تلقائيًا نحو أيسل لتسألها بهدوء متأهبة لأجابة: -إيه اللي بيقوله ده يا أيسل؟
فنزلت أيسل درجات السلم ببرود وهي تومئ برأسها مؤكدة في تهكم واضح: -ايوه عملت كده في اكل عيشكم ولو الزمن رجع بيا ورا هعمل كده تاني وتالت ورابع فصرخت فيها زوبه هذه المرة قاطعة ذلك الصمت من طرفها: -ليه، عملتي كده ليه ده احنا صدقناكي! عقدت أيسل ذراعيها معًا، متنفسة بعمق واخيرًا قد سنحت لها فرصتها لتلقي ذلك السؤال عن كاحليها:.
-وانتوا ليه؟ ليه عملتوا فيا كده زمان ولسه بتأذوني؟ ليه رميتوني؟ ليه بتكرهوني وانا حتى لسه ماستوعبش يعني إيه كره؟ وبالطبع بقي سؤالها معلقًا في الهواء، لتهز رأسها بابتسامة باردة: -لو لقيتي اجابة لسؤالي هتعرفي اجابة سؤالكم إنتقلت بنظراتها لطه الذي زمجر بجنون والجشع يتزاحم في ساحة عيناه: -بس انا مش هسكت، هاخد حقي منك وهسجنك حينها تدخل بدر مغمغمًا بصوت أجش لم يخلو منه البرود: -متقدرش! أعلى ما في خيلك إركبه.
بينما أيسل تمتمت ببرود وهي تهز كتفاها بلامبالاة: -لو تقدر تثبت إني عملت كده إثبت واسجني! تعالت أنفاس طه والغضب يفور بين أعماقه اكثر فأكثر، فسحب زوبه من ذراعها نحو الخارج وهو يقول بتهديد صريح: -هثبت وهاخد حقي وهوريكي، بس مترجعيش تعيطي وتقولي انتوا امي وابويا ليه عملتوا كده!
كانت مريم تراقب ما يحدث بعينان كالمرصاد، يتماوج الحقد بين عيناها ولكنها تخفيه بشمس البراءة والهدوء الكاذبة...! وما إن خرجوا وتوجهت أيسل نحو فاطمة حتى تنحنحت هي بحرج مصطنع وخرجت بسرعة علها تلحق بـ زوبه وطه...
وبالفعل وجدتهم يسيران خارج القصر فركضت نحوهم بسرعة تنادي: -استنوا فتوقفا بالفعل يرمقانها بنظرة مستفسرة، فلم تهذي هي بمقدمات كثيرة بل قالت مباشرةً والمكر ينضح من حروفها: -إنتوا عايزين تاخدوا حقكم من أيسل وتردولها اللي عملته فيكم صح؟ فأومأ طه مؤكدًا على مضض، لتسأله هي بنبرة أشد خبثًا ومكرًا، ناعمة كجلد ثعبان سام: -واللي يجبلكم حقكم ويبرد ناركم منها؟ لتتسع ابتسامة طه شبيه بابتسامتها القذرة وهو يرد بـ:.
-نديله عنينا لو طلب! -حيث كده اسمعوني كويس اوي قالتها بنبرة منخفضة وهي تنظر يمينًا ويسارًا لتتأكد من عدم وجود اي شخص ثم بدأت تملي عليهم خطتها التي لا تقل دناءة عن دناءة روحها المُشبعة بالحقد...
في القصر... جلست فاطمة متقهقرة مذهولة من تفكير أيسل، لتسألها في ذهول: -ليه يا أيسل؟ ليه تعملي كده؟ من امتى وأنتي بتخلي كرهك وعصبيتك تتحكم فيكي؟! فنطقت أيسل بثبات وهدوء ولم تخترق ذرة ندم او تردد حروفها ابدًا:.
-علشان كل اللي عملوه فيا زمان، علشان يعرفوا إن المكان ده مجرد خردة ممكن في لحظة تتحرق زي ما اتحرقت وحياتهم هتستمر عادي جدا، لكن انا بنتهم، انا مينفعش حياتهم تستمر عادي من غيري انا اهم من المكان القذر ده اللي فضلوه عليا دايما لم تجد فاطمة ما تجابهها به وقد أعطوها كافة الاسباب والاسلحة لتحرقهم بها، فيما أيسل تتابع بصوت متهدج من الألم: -مش ذنبي إنهم خلفوني بالغلط وندموا يا مامي، مش ذنبي!
فاحتضنتها فاطمة مسرعة تؤكد برأسها بحنان فطري: -مش ذنبك طبعا يا حبيبتي، هما اللي ما يستاهلوش جوهرة زيك في حياتهم عشان كده ربنا عاقبهم بس بنفسهم!
في اليوم التالي... لم يخمد قلق بدر ابدًا تجاه تفكير مريم الذي هو متأكد أنه يتسرب نحو سبيل لن يعجبه ابدًا وربما يكون سبيل قاتل ومُهلك لأيسل فيُدمره هو الاخر بنفس الحجر..! لذا قرر ألا يبعد عيناه ابدًا عن أيسل، على الأقل لحين إنتهاء مدة إتفاقهم وحينها سيأخذ مريم رغم إرادتها لأقرب طبيب نفسي او يحبسها حتى في منزلها...!
وقف أمام غرفة أيسل يطرق الباب لتفتح له أيسل فسألها في هدوء وهو يراقب ملابسها المحتشمة الذي أكد عليها ارتدائها: -خلصتي لبس؟ اومأت أيسل برأسها وقالت مؤكدة على مضض: -ايوه خلصت، مع اني مش عارفه بطاوعك ليه، قال ايه عشان اختار معاك هدية للسحلية اللي تحت دي كبت بدر ضحكته بصعوبة، ثم قال بنبرة حاول جعلها جادة:.
-منا قولتلك عايزك تختاري معايا حاجة ليا، وكمان انتي نفسك كنتي عاوزه تشتري حاجة، فهتيجي معايا الشغل اخلص ونطلع نشتري مع بعض وبعدين نروح كانت أيسل تتابعه بملامح غير راضية، ولكنها لن تتغاضى النظر عن السلم الذي يوضع لها لتتسلق نقطة البداية بينهما، لن تتغاضى النظر عن فرصة ستجعل تلك السحلية تتلوى بها من الغيرة كما حصل بها دومًا...! -طيب يلا، اكسب فيك ثواب.
قالتها بدلال وترفع مصطنع وهي تمد يدها لتضعها بكفه الممدود لها وبالفعل غادرا سويًا تحت أنظار فاطمة الراضية ومريم الحاقدة اللامعة بالغيرة والغضب...
بعد فترة... في ورشة صغيرة يقوم بها بدر باعمال النجارة الخاصة به، دلفت أيسل فجأة بعد أن ملت الجلوس وحدها بالخارج، وافكارها تتقازفها يمينًا ويسارًا، ولكنها حسمت امرها...! أغلقت الباب خلفها وتتقدم منه لتخرجه من اندماجه المعروف في عمله... كان يبدو عليه الإنهاك وهو يطالعها بنظرات باردة متسائلاً: -خير يا أيسل هانم؟ حضرتك عايزه إيه من هنا وقفلتي الباب لية؟! تقدمت منه وهي تقول بثقة أذهلته:.
-عايزه أتكلم معاك في حاجة يا بدر بدأ يَدعي إنشغاله بما كان يفعل فأمسك بالخشب وهو يجيب دون أن ينظر لها؛ -ما أظنش إن في حاجة تتكلم فيها الهانم مع النجار اللي بيشتغل عندهم واللي اضطرت تتجوزه غصب عنها عشان إتفاق! وجدها فجأة تتقدم منه اكثر حتى أصبحت امامه مباشرة لتمسك كف يده فجأة وهي تهمس بنعومة فطرية وجرأة لطالما تحلت بها: -بدر أنا معجبة بيك أنا حاسه إني آآ...
ولكن قبل أن تكمل قاطعها حينما جذب كف يده بعنف من بين يداها الصغيرتان، للحظة شعر أن كهرباء أصابت اتزانه بمجرد لمسها، شعر أنه إن أحس ملمس الجنة بكل جوارحه سيهتاج كل ساكن داخله كان يكتمه بشق الأنفس...!
وقبل أن تنطق كان هو يضحك بلا مرح مستطردًا بسخرية قاسية: -معجبة! معجبة إيه بس ده انا لو اتجوزت بدري كان زماني مخلف قدك، انتي طفلة بالنسبالي انا عمري ضعف عمرك ثم استدار يعطيها ضهره متظاهرًا بلملمة اشياؤوه وهو يتابع بنبرة مشدودة متذكرًا غرورها الدائم الذي يمقته فيها، عله ينهي أي تبعثر سببته هي داخله: -وبعدين من امتى الهانم بترخص مشاعرها كده وبتعرضها على النجار اللي شغال عندهم؟!
كانت أيسل صامتة، حتى أنفاسها كانت مكتومة، وقبضتها مُغلقة مشدودة تضغط على كفها حتى كادت عروقها أن تنفجر من فرط إنفعالها الذي تحاول كتمانه... وما إن أنهى جملته حتى اومأت برأسها دون أن تنطق بحرف ثم استدارت لتغادر، ولكنها توقفت للحظة لتستدير لتواجهه، كانت عيناها على قطرة عرق كانت تنحدر من وجهه لرقبته ببطء...
فاقتربت منه جدًا حتى أصبحت شبه ملتصقة به وهو مسكتين تمامًا يقف بجمود منتظرًا ما سيحدث، لتقرب وجهها منه كثيرًا حتى لم يعد يفصلهما شيء ثم رفعت إصبعها لتسير من أعلى لأسفل ببطء على رقبته فلم تغفل عن تلك الرجفة العنيفة التي هزته ما إن لمست جلد رقبته الأسمر، لتمسح قطرة العرق تلك بإصبعها ببطء وهي تهمس قرب اذنه: -افتكر كلامك ده كويس اوي عشان الطفلة دي هتجننك يا بدر ومش أيسل اللي تخسر!
ثم أستدارت لتغادر فوقفت امام الباب تفتحه بالمفتاح في نفس اللحظات التي شعر فيها بدر أن كل ذرة به ثارت وبجنون من ذاك القرب، شعر بعاطفة كانت مكتومة تفور لتحرق مسام جلده، ورائحة شعرها الناري الفواحة، آآهٍ من تلك الرائحة التي التقطتها أنفه بمجرد أن اقتربت منه لتزيد من اهتياج كل خلية به فتسممها بشعور غريب ومشاعر متناقضة، لقد جنته وأنتهى الامر...!
وقبل أن تنتهي من فتح الباب وفي تلك اللحظات وجد نفسه يقترب بسرعة الفهد ليجد نفسه خلفها تمامًا يكاد يكون ملتصق بها، فحُبست انفاسها فجأة ما إن شعرت بأنفاسه خلفها مباشرةً، ليرفع إصبعه ليمسك خصلاتها التي كاد يجن ليلمسها، ثم قربها من أنفه دون شعور مستسلمًا لتلك الرغبة اللحوحة في استنشاق عبيرها مرة اخرى، ليغمض عيناه متأوهًا في أعماقه مُنهكًا من تلك المشاعر...
فنطقت هي بحروف ملجلجة: -ابعد يا بدر! أفاق من نشوة الشعور بقربها، ليردف بما كان يجب قوله، كاذبًا في كل حرف: -مش انا اللي تجنني واحدة زيك، مش انا اللي أنبهر ويجنني شعرك الأحمر اللي يشد كل اللي يشوفه او عنيكي اللي واخده نفس لون القهوة! ثم اقترب منها اكثر ليردد عند أذنها بصوت خشن:.
-انتي بالنسبالي مجرد الهانم الصغيرة اللي فيه بينا إتفاق، افهمي ده هيكون احسن لينا احنا الاتنين يا أيسل هانم! الهانم مينفعش تختلط بالنجار اللي بيجي يشتغل عندهم..! ثم ابتعد لتفتح هي الباب وتخرج بسرعة ثم اغلقته خلفها لتضع يدها على قلبها الذي ثارت دقاته وبجنون... مهما كانت قوية، شرسة، جريئة، ما إن تقترب منه لتشعر بهالة رجولته وخشونته تصبح لينة هشة مبعثرة كحليب أبيض لم يخالطه سواد تلك الدنيا...!
ستريه مَن هي تلك الطفلة، ستجعله يتوسل حبها وحينها ستذكره بذلك الاتفاق اللعين الذي يردده على مسامعها دومًا...
كانت ليال عند حظيرة الخيل تتفحص ذلك الخيل الأبيض بشرود، كم يُشبهها، جامح، شرس، ولكنه وفي ومُحب، مُكبل بالأغلال ومُقيدة حريته مثلها...! إستفاقت من شرودها على صوت هاتفها الذي صدح معلنًا وصول رسالة فأمسكته لتفتح تلك الرسالة فاتسعت عيناها برعب وهي تقرأها: -انا حذرتك بس الظاهر إنك فكرتيني بهرج معاكي، عموما الرسالة بكل التفاصيل وصلت موبايل يونس دلوقتي، انتي وحظك بقا لحقتيه قبل ما يشوفها او لا!
إتسعت حدقتاها بهلع، معرفة يونس كل ما حدث يعني دمار كل شيء، يعني خروجها من حياته بلا رجعة قبل أن تنال قلبه، يعني مقتل والدها وبسببها ايضًا...! فتحت الحظيرة للخيل وفكت قيده ثم ركضت باقصى سرعة نحو غرفة يونس، حتى وصلت ففتحت الباب دون مقدمات لتتصنم نظراتها على يونس الذي كان ممسكًا بهاتفه و...
ما إن تقابلت نظراتهم دأبت ليال على تمحيص نظراته لتقرأ ما بين سطورها من مشاعر، فسحبت نفسًا عميقًا حينما وجدت فقط تعجب ودهشة من اقتحامها المفاجئ للغرفة، وقبل أن ينطق يونس بأي شيء كانت تشير له بيدها مسرعة وهي تردد: -تعالى معايا بسرعة إلحق! عقد ما بين حاجبيه ودهشته تتألق أكثر بين ساحة عيناه السوداء: -اجي معاكي فين وألحق إيه؟ فضربت على رأسها وهي تصرخ بنبرة درامية:.
-أنت لسه هتسأل، إلحق الحصان، في حياة بتضيع! وذنبها هيبقى في رقبتك وعندما وجدته متصنم مكانه يحاول استيعاب ما تقول، دخلت بسرعة لتسحبه من ذراعه نحو الخارج، فالتقط هو قميصه بسرعة ليرتديه مستجيبًا لجنونها الذي لا يعرف سببه... ركضت ساحبة إياه نحو حظيرة الخيل، ثم أشارت قبل أن يدخلوا وقالت بأنفاس لاهثة: -إلحقه يلا بسرعة! فصرخ فيها يونس بارتباك لا يدري ما يحدث: -ألحق إيه هو انا هولده! ما تنطقي يابت إنتي!
فهتفت بلهجة سريعة وهي تشير نحو الداخل: -الحصان هرب من المكان المحبوس فيه، لازم تلحقه لتتسع عينـا يونس بذهول قبل أن يستطرد بانفعال ونفاذ صبر: -انتي هبلة يابت، طب ما يهرب عادي هو هربان من سجن أمن الدولة!؟ امتعضت ملامح ليال وهي تزم شفتاها كطفلة مذنبة ثم غمغمت بغيظ: -أنت بتزعقلي ليه، طب ماهو عادي يهرب اهوه امال حابسينه ليييه ما عادي يهرب؟!
ضرب يونس على وجهه يستغفر الله بصوت خفيض قبل أن ينظر لها بغيظ وكأنه يود قتلها في التو واللحظة: -حابسينه قدرة واقتدار يا ليال، ليكي شوق في حاجة؟ فرفعت كتفاها ببراءة تلقائية: -لا طبعا يا باشا اللي تشوفه توجه يونس نحو الحصان وهو يسألها متنهدًا والغيظ لازال يخضب سوداوتاه: -وبعدين إنتي فكتيه وخرجتيه ليه اصلاً؟ فتنحنحت ليال لتجيب بهدوء وتأثر درامي مصطنع: -ده هو اللي طلع يجري كان مكبوت يا حبة عيني الحبسة وحشة!
فسألها يونس رافعًا حاجبه الأيسر: -يعني مش انتي اللي فكتيه وخلتيه يجري؟! لتهز رأسها نافية ببراءة تامة: -تؤ تؤ، هو اللي كان مكبوت وطلع يجري منع يونس ضحكته من التسلل لأطراف ثغره والتي كادت تشقق عبوس وجهه.. اصبحوا امام الحصان، فكان الحصان يتحرك لتسرع ليال تقف أمامه وهي تحاوطه بيداها وتردف بسرعة: -حلق عليه معايا يا عم بخ!
هذه المرة لم يستطع يونس كتم ضحكته الرجولية التي صدحت عالية، لتبتسم هي تلقائيًا، واخيرًا أشرقت شمسها المسربلة به، تشرق وقتما يُشرق هو وتُظلم وقتما يتشبث هو بظلمته وسكونه...! فيما استدرك يونس نفسه ليقول وبقايا ضحكاته عالقة بفمه: -طب اوعي من قدامه بس انتي.. وبالفعل ابتعدت منصاعة لكلامه، ليتوجه يونس بالحصان ليعيده لمكانه، فاتسعت حدقتاه وهو يرى الدجاج الموضوع أمامه، ليسألها بصوت مصدوم:.
-مين اللي جاب الفراخ دي هنا؟ لترد هي بشجاعة وفخر: -انا جبتهاله حسيته هفتان شوية! كاد يونس يُصاب بجلطة حرفيًا وستكون هي السبب الرئيسي، ليهتف بعدها بنفاذ صبر متساءلاً باستنكار: -مين اللي قالك تجيبي الفراخ دي هنا يا ازكى اخواتك؟! الحصان مابياكلش أي لحوم، وبعدين حستيه هفتان تجيبيله فراخ، هو انتي جايه تزوري حموده ابن خالتك اللي لسه راجع من الحج؟! فسألته ليال ببراءة وهي تعض على شفتاها:.
-هو طلع مش المفروض ياكل فراخ عشان يتغذى كويس؟! -لأ -يقطعني! تمتمت بها ليال ضاحكة وهي تركض من أمامه قبل أن يفتك بها، وكذلك يونس لم يستطع منع ابتسامته التي عادت تحلق على ثغره، سيفقد عقله حتمًا إن ظل يتعامل مع تلك المجنونة، ولكن لمَ أحس أن جنونها ذاك قد راقه نوعًا ما!؟..
في القصر... كانت أيسل جالسة في غرفتها أمام لوحتها الحبيبة، تاركة العنان لفيض افكارها لينطلق سابحًا بين بحور تلك اللوحة فيُشكلها بألوانه المشعثة...! أنهى سكونها وعزلتها دخول مريم الغير مرغوب بتاتًا، وهذا النفور تربع على ملامحها وهي تقول ببرود: -خير اللهم اجعله خير، متهيألي انك عارفه إن بدر مش هنا!
كانت مريم تضع يداها خلف ظهرها وهي تقترب منها ببطء وتبتسم بشيء من المكر ثم أردفت بخفوت ونعومة شابهت جلد ثعبان سام: -لأ منا مش جايه عشان بدر، انا جايالك انتي عقدت أيسل ما بين حاجبيها بتعجب واضح وهي تردد مستنكرة: -جايه عشاني أنا! ليه هو في إيه بيني وبينك عشان نتكلم فيه؟ فهزت مريم رأسها نافية بنفس البساطة المُقلقة: -لأ منا برضو مش جايه اتكلم! -امال جايه ليه؟
برز فحيح الثعبان السام من بين حروفها وهي تخبرها بصوت غامض: -جايه أخد حقي حينها نهضت أيسل لتهز رأسها بعدم فهم مغمغمة بحدة: -حق إيه يا ام حق إنتي؟ انتي مجنونة يا بت انتي؟ وبلحظة حدث كل شيء، اصبحت مريم امامها مباشرةً فجذبت رأسها بعنف لتكتم فاهها ثم وضعت قطعة القماش على فاهها لتربطها من الخلف، ثم كبلت يداها بيدها للخلف خلال محاولات أيسل المهدورة في التحرر من بين قبضتها او الصراخ لينجدها أي شخص...!
وما إن انتهت مريم حتى قالت بصوت بدا لأيسل طلسم لاستحضار شيطان ما: -هتعرفي ازاي وانتي حتى مش فاكره ولا على بالك الغلبانة اللي دمرتي حياتها كانت أيسل متسعة العينان، تحاول استيعاب ما تتلفظ به تلك المجنونة من تراهات!.. فيما استكملت مريم وهي تحدق بالفراغ امامها وكأن تلك الذكرى قد وجدت مكانها في عقلها المُبطن بالسواد والحقد، فاشتعلت لتزيده سوادًا وظلمة...
-مش فاكره مريم صاحبة اختك، مريم اللي كانت مع أختك ريم في نفس بيت الدعارة في اليوم اياه، مريم اللي اتصلتي بأختك ساعتها وخلتيها تنزل بسرعة من غير ما تقول لحد عشان عرفتي من البواب إن البوليس جاي! مريم اللي ماخلتيش أختك تروح تشهد إنها كانت معايا وإننا مكناش نعرف إنه بيت دعارة، مريم اللي إتحبست بسبب انانيتك ٣ سنين ظلم، مريم اللي اتشوهت في السجن وبرضو السبب الرئيسي إنتي!
كانت أيسل مذهولة، تحاول إلتقاط أنفاسها وإستيعاب أي شيء من هذا الحقد، ذلك الحقد الذي تراكم وتراكم في جوف مريم ثم ودون مقدمات هطل على أيسل من كل جانب حتى لم تعد قادرة على إلتقاط أنفاسها وسط ذلك الفيضان الضاري من الحقد...!
فهزت مريم رأسها بعنف ساحبة إياها للخلف وهي تتشدق بغضب مجنون: -إتصدمتي ليه؟! كنتي متخيلة إني هنسى إنك كنتي السبب في كل اللي حصلي؟
حينها بدأت أيسل تهز رأسها نافية تحاول النطق، صحيح أنها فعلت هذا ولكن ابدًا لم يكن بدافع الحقد او عن دراية، بل لم تكن تعلم ابدًا بوجود تلك الفتاه في ذلك اليوم، اعتقدت أن أختها ريم تتسكع كالعادة مع اصدقاء السوء الذين ولابد أنهم يعلمون أن ذلك المكان كان للدعارة ..
ولم يكن من الذكاء أن تجعل ريم تشهد في قضية دعارة فتُصاب سُمعتها بصك السوء الذي لن يُزال ابدًا...! ربما فعلت ذلك بدافع الأنانية نعم تعترف، ولكن ريم كانت الأخت والصديقة الوحيدة التي عرفتها طوال حياتها، لم تكن تعلم أن تلك الرغبة في الحفاظ على أختها ستكون اليد التي تدفع شخص اخر نحو هاوية اللاعودة...
بل لم تكن تتخيل أن احدهم لديه تلك القدرة على إحياء وحش الحقد داخله كل تلك الفترة دون أن تقتله مخالبه..!
دفعتها مريم بعنف للخلف حتى سقطت أيسل متمددة على الأريكة، ثم وقفت على رأسها لتخرج تلك الزجاجة الصغيرة من يدها وهي تستطرد بابتسامة مضطربة: -دلوقتي هعمل فيكي نفس اللي حصل فيا بس باختلاف الطريقة، هشوهك! فهبت أيسل بفزع تمسك يدها الممسكة بتلك الزجاجة قبل أن تلقيها على وجهها، كانت تصارع حقد مريم حرفيًا، فقوة مريم كامنة في ذلك الحقد الذي أصبح كالسم مدسوس بين عروقها..!
وأثناء هز أيسل الهيستيري لرأسها في مواجهة مريم، حُلت عقدة الرباط فعفى عنها وإنفك تمامًا ليسقط من على فم أيسل حينها صرخت أيسل وبأعلى صوت ظنت أنها تمتلكه: -يا بــــــدررر لا تدري حتى لمَ صرخت بأسمه هو تحديدًا ولم تفكر، هي فقط أطلقت سراح تلك الصرخة المتحشرجة في جوفها وتلك الحروف كانت مرسال من قلبها بالفزع والذعر لقلب بدر الذي لم يتأخر في تلبية النداء وخلال دقائق معدودة كانت يقتحم الغرفة...
فصرخت أيسل من وسط بكائها: -إلحقني يا بدر ركض بدر دون أن يفكر مرتان ناحية مريم صارخًا بذهول لم يستطع كتمه: -إنتي بتعملي إيه يا مريم إنتي إتجننتي! لم تبدو مريم طبيعية ابدًا وهي تتجاهل محاولات بدر لإبعادها، وقولها لأيسل وهي تضحك بشر غريب: -انتي مفكراه هيلحقك! محدش هيلحقك ابدًا وحقي هاخده يعني هاخده.
أثناء الشد والجذب ما بين ثلاثتهم سقط بعض من مياه النار من تلك الزجاجة على يد أيسل التي صرخت بألم رهيب وهي تمسك بيدها، في نفس اللحظات التي نجح بها بدر في رمي تلك الزجاجة بعيدًا عنهم ثم كبل مريم بقوة ليبعدها عن أيسل وهو يزمجر في مريم بعروق بارزة: -اهدي بقا وبطلي جنان، إنتي خلاص عقلك شت مابقتيش مدركة انتي بتعملي إيه؟
فهزت مريم رأسها نافية وبدت وهي تتابع حديثها وكأن كل شياطين الدنيا نفثت بها في تلك اللحظات..! -كفاية تمثيل يا بدر بقا انا عرفتها كل حاجة، يلا ساعدني عشان هاخد حقي دلوقتي! -اسكتي واتحركي قدامي قالها بدر وقد كز على أسنانه بغيظ والغضب يتضخم داخله اكثر لا يتخيل ما كان سيحدث لو تأخر عدة دقائق اخرى... فجذب بدر مريم نحو الخارج وهو يردف بعنف: -يلا تعالي، احنا هنمشي من القصر ده انهارده اصلاً.
فهدرت فيه مريم بعضب هيستيري وهي تنفض يدها بعيدًا عنه: -انا مش ماشيه من هنا قبل ما اخد حقي منها حينها تدخلت أيسل مزمجرة فيها بعصبية هوجاء وقد تفجرت عروقها من كثرة ضغط الألم او الغضب: -اخرسي يا مريضة، انا مليش علاقة باللي رسمه عقلك المريض انا كل اللي عملته إني لحقت أختي ولحقت سمعتها اللي كانت ممكن تتدمر لو راحت شهدت في قضية اداب ويمكن كانت اتحبست!
تنفس بدر بصوت مسموع وهو يحدق بـ أيسل، فـ تقريبًا أيسل خلال تلك اللحظات قطعت تلك الحبال التي تكبل قلبه الذي اصبح مُتيم بعشقها دون أن يدري حتى...! فيما ألقت مريم بنظراتها تجاه بدر وسألته بنبرة حادة: -أنت هتساعدني ولا لأ يا بدر قبل ما حد يجي؟ فاقترب بدر من أيسل الواقعة ارضًا حتى تهيأ لها للحظات أنه سيطيع تلك الحربائة، لكن وفي اللحظة الاخيرة سألها بخفوت وهو يمسك يدها متفحصًا إياها: -إنتي كويسة؟
اومأت أيسل مؤكدة برأسها، حينها تدخلت مريم لتصرخ حارقة اخر الكروت التي تمتلكها: -انتي مفكراه حبك زي ما انتي هتموتي عليه! كل حاجة حصلت كانت عشان يساعدني أنتقم، هو جه اشتغل هنا اصلاً واتجوزك عشان ينتقم منك وأكيد هو لسه بيكمل التمثيلية دلوقتي بس انا بقا زهقت من التمثيلية دي ومش هكمل وهاخد حقي!
بهتت ملامح أيسل بشحوب، وقد تفجرت تلك الحقيقة التي كانت متوارية خلف حروفهم منذ ثوان ولم تحاول أيسل إظهارها، ولكن حينما تفجرت فجأة نصب عيناها تفتت قلب أيسل ليصبح مجرد شظايا صغيرة مُدمَرة...!
عودة للقرية في صعيد مصر... جلست ليال في الحديقة ممسكة بصورة والدتها الحبيبة ودموعها تنهمر على وجنتاها كالأمطار في ليلة شتوية قاسية وهي تتذكر احدى الذكريات التي لا تود تذكرها ابدا...
كانت في العاشرة من عمرها، ذات يوم حينما خرجت من غرفتها على صوت صراخ والدتها المتألم وهي تبكي ووالدها قد تسلط عليها بعنفه وقسوته المعتادة، فكان يضربها وهو يزمجر فيها بجنون: -برضو مانسيتيهوش! اه هتنسيه ازاي ماهو حبيب القلب فبكت والدتها أكثر وهي تهز رأسها نافية:.
-حرام عليك انا متقية الله من يوم ما اتجوزتك وعمري ما جبت سيرته وحافظه عرضك ومتقية الله فيك وفي بنتي، أنت اللي مش قادر تنسى إني كنت بحبه وبتبرر خيانتك بده! فرفع يده ليضربها أكثر وهو يهب منفجرًا ما كان يخبئه: -أيوه مش قادر أنسى ومش هنسى، مش هنسى إنك حاولتي تهربي مني يوم الفرح بسببه ومش هنسى إنك كنتي رافضاني دايمًا بسببه ومش هنسى إنك كنتي بتاخدي حبوب منع الحمل عشان متخلفيش مني وبرضو بسببه!
صرخت زينب فيه وهي تنفي التهم الثقيلة التي يرميها على كاهلها: -لأ مش بسببه، بسبب قسوة قلبك اللي مش قادر تخلص منها، وبسبب الحقد اللي بيكبر جواك يوم عن يوم وبسبب انك خاين! فتابع ضربها بعشوائية وهو يهدر بصوت متجبر: -اخرسي، انا الراجل انا اعمل اللي انا عاوزه ومش من حقك تحاسبيني! حينها ركضت ليال نحو والدتها وهي تدفع قدم والدها بعيدًا عنها صارخة بغضب طفولي: -سيب ماما ابعد عنها ماتضربهاش.
فدفع ليال بعنف بعيدًا غير آبه بكونها طفلة، ثم غمغم بازدراء: -غوري من وشي ما انتي شبهها! وكالعادة حينما يفرغ غضبه بها وبوالدتها يغادر دون أن يفكر في الاعتذار لها يومًا... بينما زينب تبكي وهي تحتضن ليال وتنوح بصوت متهدج من الألم الذي ينضح منها: -اااه، ياريتني ما استسلمت واتجوزته، ياريتني ما بعدت عن الشخص الوحيد اللي حبيته، ياريتني ما استسلمت لقدري..
يا ليت ويا ليت ويا ليت، دائمًا كانت تنوح زينب بتلك الكلمات ندمًا، ولم تنتبه لكونها تزرع تلك الكلمات زرعًا داخل طفلتها ليال، توشم روحها بعدم الاستسلام ابدًا وإلا ستصبح العاقبة وخيمة جدا... حتى أصبح السيناريو يتردد داخل عقل ليال كلما اوشكت على الاستسلام، فكلما فكرت في لعنة الاستسلام ذكرت نفسها أنها يجب أن تحارب حتى تهرب من مصير مؤسف اسود ربما يكون مصيرها كما حدث مع والدتها...!
عادت من ذكرياتها تمسح دموعها المنهمرة وهي تحاول اخذ نفسًا عميقًا وإنتشال نفسها من بين براثن الذكريات...
بعد فترة... اقتربت ليال ممسكة بكوب القهوة في يدها وتوجهت نحو قاسم الذي كان جالس امام الشرفة في انتظار قهوته، وما إن اصبحت امامه حتى هتفت بصوت رائق وابتسامة حلوة تخفي خلفها دموع عالقة برموشها: -صباح الأناناس على أحلى وأغلى الناس، يعني حمايا البرنس قاسم باشا وبس فضحك قاسم وهو يشير لها بيده: -خلاص يابت يا لمضه انتي، هو انتي بتقدميني للانتخابات!
ضحكت ليال هي الاخرى وهي تجلس جواره متمتمة له بهدوء والابتسامة لازالت محافظة على مساحتها اعلى ثغرها: -انا غلطانه برفع من معدنياتك ثم مدت القهوة له وتابعت: -اتفضل ياسيدي قهوتك اهيه، قولت اجبهالك وبالمرة اقعد معاك شوية عقبال ما هتلر ابنك يخلص مع السباك فوق ابتسم قاسم في حنو ثم اقترب منها بمقعده ليمسك يدها بين كفاه المجعدان ثم ربت عليهما بحنان الأب الذي لطالما افتقدته ليال:.
-أنا عارف إن يونس لسه معاملته ناشفة معاكي شوية، هو محتاج منك شوية صبر بس وصدقيني لو قدرتي تخليه يحبك هتشوفي يونس تاني خالص، ولعلمك انا مستني بس اول ما ينسى البت الملونه بتاعته دي وساعتها انا اللي هربيهولك، انتي جوهرة يا ليال ولازم يعرف قيمتك كويس اوي قبل ما تبدأوا حياتكم سوا بس لازم نلعبها صح!
للحظات شعرت ليال بتلك النغزة المؤلمة تستيقظ من غفوة المرح والسكون، ولكنها سرعان ما أطاحت بها أرضًا مرة اخرى وهي تبتسم مقتربة منه وتردد مشاكسة اياه: -والنبي انت قمر وهصبر عشانك، بقولك ايه ما تتجوزني أنت؟ تعالت ضحكات قاسم على تلك الشقية التي للأسف لم يعطي يونس لنفسه الفرصة لها لتتسرب لأقفال قلبه فتفتحها جميعها رويدًا رويدًا ولكنه سيحرص على أن يحدث...!
فاستعاد قاسم اتزانه وهو يخبرها في هدوء مبتسمًا: -طب يلا يابت يا شقية انتي اطلعي لجوزك زمانه خلص مع السباك ومحتاج ياخد دوش وحد يجهزله هدومه وفطار عشان يروح شغله اومأت ليال برأسها بسرعة وهي تقف مقتربة برأسها منه قليلاً: -انت تؤمر يا قمر...
وبالفعل صعدت ليال متوجهة لغرفتهم لتجد السباك يغادر مع معداته فابتسمت له وهي تقول ملوحة بيدها: -مع السلامة يا عم محمود تعبناك معلش! ليبادلها ذلك الرجل المسن الابتسامة الصافية ثم غادر وهو يلقي التحية على يونس الذي بمجرد مغادرته اقترب من ليال ليمسك ملابسها م عند مؤخرة رأسها مغمغمًا باستنكار وهو يقلدها:.
-مع السلامة يا عم محمود تعبناك! هو انتي داخله القهوة ياختي وبتردي السلام على الزباين ولا إيه! مفيش اي احترام لوجودي؟! فهزت ليال رأسها بسرعة وببراءة أجابت: -لا طبعًا ليه بتقول كده، ده عمو غلبان وطيب والله وانا زي بنته! رمقها يونس بنظرات غاضبة من أعلاها لأسفلها ثم تركها، لتسارع هي القول متابعة: -طب أقولك حاجة بمناسبة سيرة عم محمود؟ فسألها يونس بهدوء متنهدًا: -حاجة إيه؟
فهتفت ليال بجدية مُضحكة خالطتها الفكاهه: -بمناسبة الكورونا اللي انتشرت في الصين وكده، اللي عنده الانفلوانزا لن يُصاب بكورونا، المصدر: عم محمود السباك قالي مفيش فايروس بيخش على شغل التاني!
ضحك يونس هذه المرة من قلبه ولم يحاول كتم ضحكاته لتشاركه ليال الضحك وهي تتذكر ذلك العجوز اللطيف الذي أحبته بصدق...! ثم سرعان ما ثبتت نظرات يونس السوداء العميقة التي تعيث الفوضى داخلها على ليال واقترب منها ببطء لتعود هي للخلف، وقعت نظراتها على أزرار قميصه المفتوح أولها منذ موقف الحصان، فابتلعت ريقها وهي ترى يونس يقترب اكثر ثم همست بصوت مبحوح: -أنت بتقرب كده ليه! شكلك ناوي تغرغر بيا!
فرفع يونس حاجبه الأيسر ورد باستنكار: -آآ إيه يا عنيا؟ أغرغر بيكي إنتي؟ ليه إتصيت في نظري؟! اقترب يونس حتى لم يعد يفصلهما شيء، اقترب من اذنها حتى شعرت ليال بأنفاسه الساخنة على جانب وجهها فأصابتها تلك الرعشة المصحوبة بمشاعر لاهبة داخلها، طارت كلها مهب الريح حينما همس يونس عند اذنها بصوت أجش: -في فار وراكي بيتمشي شوية بس اوعي تصرخـ...
ولم يستطع إكمال جملته فصرخت ليال بفزع دون مقدمات وهي تتعلق برقبته كالأطفال وتصرخ وهي تحاول رفع قدمها عن الارض والنظر خلفها: -هو فييين، مشييييه خليه يمشيييي قوله يمشي بسرعة حاول يونس فك ذراعها الذي كبل رقبته حرفيًا وهو يصيح فيها بحنق: -انتي هبلة! أقوله يمشي إيه هو انا بقولك جايب واحد صحبي وهدخله اوضة النوم عليكي، ده فار! كادت ليال تبكي كالأطفال ولازالت متعلقة بأحضانه ترفض الابتعاد:.
-والنبي مشيييه مش عايزه أشوفه انا بترعب منهم.
إلتصاقها به بتلك الطريقة وتشبثها بأحضانه جعلا ثورة من نوع اخر كان يكتمها بشق الأنفس تندلع بين ضلوعه، فابتلع ريقه بتوتر يحاول قمع تلك الثورة من العاطفة الحارقة بإدخال العقل وهو يُذكر نفسه أنها غريزته الذكورية فقط، وأنه قرر التقرب منها حتى تسنح له الفرصة لمعرفة ما تخبأه عنه او معرفة مكان ذلك اللعين جمال حتى ولم تكن توجد طريقة غير هذه، او ربما هو اقنع نفسه بذلك..!
ثم قال بخشونة وقد حملت نبرته بحة خاصة تلحنت تحت ظلال تلك العاطفة التي تأججت دون ارادته: -هو اصلاً مشي بسبب صريخ حضرتك اللي زمانه اتفزع منه، ممكن تبعدي بقا وتسيبي رقبتي! ألقت ليال نظرة خاطفة للخلف حتى تتأكد من صدق كلامه ثم تركته على مضض مطأطأة رأسها ارضًا بحرج فيما إلتقط هو أنفاسه المسلوبة...
شعر يونس بلهاث الغضب يطغي على أنفاسه حتى كتمها، الغضب من تلك العواطف التي تداهمه فجأة في قرب تلك الليال... فسار نحو دولابه وهو يُخرج ملابسه وتابع بصوت أجش وقد تنحت تلك المشاعر جانبًا: -اطلعي برا يا ليال عقدت ليال ما بين حاجبيه بتأسف وصوت خافت: -سوري لو ضايقتك بصريخي بس آآ... فأكمل يونس بصوت اكثر حدة: -اطلعي برا يا ليال.
وبالفعل خرجت ليال وهي تتنهد بضيق من تغيراته المفاجئة، ولكن حاولت ألا تعكر فرحتها بالتغيير الواضح نسبيًا بينهما هذا اليوم...!
بينما في الداخل ضرب يونس الدولاب بعنف وغيظ، يود لو يسيطر العقل على كافة مشاعره الرجولية، ولكن يجدها تنساب من بين قبضة تحكمه في قربها، وما يثير حنقه أنها حتى لا تتعمد إثارة أي مشاعر رجولية فيه!
في يوم آخر... كانت ليال تجوب غرفتها ذهابًا وإيابًا وهي ممسكة بهاتفها تحاول الاتصال، واخيرًا أجاب الطرف الاخر بنبرة غليظة: -نعم بتتصلي ليه؟! -انتي مابترديش عليا ليه حضرتك؟ بقالي كام يوم بحاول اتصل فقالت ببرود: -مش فضيالك لتهتف ليال بغيظ واضح: -مش فضيالي! امال حضرتك فاضيه بس تقولي لابويا على العنوان اللي انا فيه؟ -نعم! أقول لأبوكي بتاع إيه هو انا فضيالك انتي او ابوكي عقدت ليال ما بين حاجبيها بعدم فهم:.
-يعني مش انتي اللي ادتيه عنواني امال مين؟! محدش يعرف إني اتجوزت يونس ويعرف عنواني إلا انتي لما اتفقنا -معرفش، حلي مشاكلك بعيد عني ومتتصليش بيا تاني فأردفت ليال من بين أسنانها والغيظ يتدفق من حروفها: -لو طلعتي أنتي اللي قولتي لبابا صدقيني هعرف يونس كل حاجة وتخيلي بقا هيعمل إيه لما يعرف إن حماته المصون هي اللي زقتني عليه عشان أبعده عن بنتها! اهتاجت فرائص الاخرى وهي تخبرها بتهديد مُبطن:.
-ومتنسيش أنا قولتلك إيه لما اتفقنا، لو يونس عرف اي حاجة صدقيني مش هتشوفي وش باباكي تاني.
لم تعلم ليال بمَن كان يقف خلف ذلك الباب يستمع لها والصدمة تتشبع عيناه السوداء و...