كان يطل عليها بجسده دون أن يمسها، وجه يونس أمام وجه ليال مباشرةً، عيناه السوداء تحاصر بنيتاها تقدح عاطفة ذكورية لا يدري متى اشتلعت بين جنبات صدره وهبت لتنشب بظلمة عيناه..! بينما ليال كان صوت تنفسها عالي، دقات قلبها في ازدياد مستمر حتى شعرت أن الهواء الذي تسحبه لصدرها لم يعد يجد مكان وسط ثوران تلك المشاعر الحادة داخلها.. أمسكت وجهه قبل أن يقترب منها لتهمس له بصوت خرج مبحوحًا:.
-يونس لأ، ابعد يا يونس، بلاش وأنت مش في وعيك لم يكن يجيب بل كان محدقًا بها، يسمعها ولكنه كان مُلقى بين براثن عالم اللاوعي فلم يعد قادرًا على السيطرة على أي رد فعل...! فهمست مرة اخرى بصوت اكثر إلحاحًا: -ابعد عني يا يونس ولكنه لم يعط الاستجابة المرجوة بل اقترب بوجهه من رقبتها، مغمضًا عيناه، مستسلمًا لتلك العاطفة التي أحكمت قبضتها الحارة على كل خلية به...
وما إن لمست شفتاه رقبتها البيضاء حتى ارتجفت متفاعلة مع تلك العواطف وازداد إنقباض أنفاسها الثائرة، لتحاول تلفظ تلك المشاعر لخارج شرنقة روحها، فقالت بحروف متقطعة مرتجية: -بالله عليك أبعد، هتكرهني اكتر اول ما تفوق والله لم يتزحزح من مكانه لمدة دقيقتان، ثم ابتعد فجأة ليتمدد على الفراش جوارها، يحدق باللاشيء...!
بينما ليال تزفر بعمق سامحة للهواء ليجتاح رئتاها بارتياح، لم تكن لتسمح له أن يكرهها أكثر، لن تستطع التأقلم مع حقده إن تزايد..!
رفعت جسدها بخفة تنظر نحوه لتجده أغمض عيناه واستسلم لنوم عميق، فاقتربت منه ببطء لتسند وجهها على صدره الصلب، تطالع ملامحه التي تشع رجولة وخشونة والتي أطاحت بقلبها لتأثره بلعنة ذلك العشق..! ثم مدت يدها بتردد ولأول مرة تسنح لها الفرصة لتتحسس وجهه بأصابعها المرتجفة، يا الله كم تعشقه، تعشق كل شيء به، وكم يكرهها هو!.
خرج صوتها مرتعشًا ككليتها وهي تهمس متسائلة وتلك الحسرة تستبيح حروفها لتظهر بشكل بائس: -أنت ليه مش بتحبني يا يونس؟ ثم هزت رأسها بسرعة وهي تكمل بتوسل وكأنه يسمعها: -طب مش عايزاك تحبني على الأقل ماتكرهنيش كبحت بصعوبة تلك الدموع التي لمعت بعيناها، وهي تردف متسائلة بنبرة مختنقة: -هو انا وحشة يا يونس؟ أنت ليه بتكرهني اوي كده؟!
في اللحظة التالية جاءتها الاجابة متمثلة في هيئة ذكرى مريرة لذلك اليوم، ذكرى لم تغادر عقل كلاهما ولم يتوانى صدأها عن تمرير جوفهم...
حينما أمسكه والده من ذراعه يُعيده مكانه بقوة وهو يردد على مسامعه بحزم كمن يُصدر فرمان موته: -اقف مكانك، أنت غلطت يا يونس ولازم تتحمل نتيجة غلطتك، البنيه دي ملهاش ذنب في اللي حصل، وخلاص فيروز ماهياش راجعالك تاني بعد اللي حصل، فأعمل حسابك انا هاخدك انت والبنيه دي وهتكتب كتابك عليها عندنا في البلد.
ثم عقد ما بين حاجباه ليردف بحدة: -وبعدين أنت كل حاجة بتكدبك يا يونس، وأنت اصلًا مش فاكر إلا طشاش من اللي حصل، فـ ازاي عايزنا نكدب كل دول ونصدقك أنت؟ إتسعت عينـا يونس وهو يستمع ما يتفوه به والده، وسرعان ما كان يصيح مستنكرًا: -لا يا حاج لا، أنا اكتب كتابي على الجرسونه الكدابة ال دي؟! ده انا ماستنضفش أشغلها خدامة عندي هخليها مراتي! مستحيل اللي بتقوله يا بابا أسف هخالف كلمتك المرة دي.
دب والده قاسم البنداري على الأرض بعصاه بعنف لتصدر صوت كان بمثابة بوق يعلن تأهب الحرب على اقدامها: -مبقاش قرارك يا يونس، اللي حصل محدش غيرك هينفع يصلحه، وبعدين متنساش إني داخل على إنتخابات والموضوع ده ممكن يُضرني ويضر بسُمعتنا عمومًا، يابني ده احنا في ناس مستنية غلطة لينا!؟ كان يونس مطأطأ رأسه أرضًا، يشعر أن كل شيء سقط عليه كجبل عتيّ ما عاد قادر على ردعه...!
إلى أن رفع قاسم وجهه الملتوي بالتذمر والرفض، ليستطرد في شموخ: -ارفع راسك يا يونس، اوعى تدي فرصة لحد إنه يوطي راسي او راسك، وبعدين احنا منعرفش الخير فين بس اكيد مش في خطيبتك الملونة المتكبرة دي!
سافرت عينـا يونس نحو ليال التي كانت تراقبهم عن بُعد بصمت مستمرة في البكاء لتثير شفقتهم، عيناه حملت قسمًا بالعذاب والأنتقام، نظرته كانت كطرف سيف أسود حاد لن يعود لغمده حتى يمزقها وسيعلم مَن الذي جعلها تفعل ما فعلت سواء بإرادتها او رغمًا عنها...!
فنطق لسانه بما لا يرضاه قلبه قاطعًا ذلك الصمت: -ماشي يا حاج أنا موافق، بس هطلقها وقت ما دماغي تهفني وهتجوز عليها لو حبيت! من بعد ما اكتب كتابي عليها مش عايز حضرتك تحط أي قيود في حياتي تاني هز قاسم رأسه بنفي حازم: -عداك العيب وأزح يابن البنداري! حينها أدركت ليال أن الليالي القادمة ستأخذ من ألمها وشقاءها قربان لذلك العشق...!
عادت ليال من براثن الذكريات ثم وضعت رأسها على صدره لتستطرد بألم رهيب نخر قلبها نخرًا حتى جف من كثرة نزيفه لتدفنه هي بصمتها المستمر: -انا والله ما وحشة يا يونس، أنا عملت كده علشان بحبك ومش عارفه أنساك، كان عندي أمل إنك تحبني أصبحت دمعاتها الحارقة تتسرب دون أن تشعر على وجنتاها، فراحت تهذي وكأنها تستجديه أن يرأف بها فتعطها حقها في العيش:.
-طب أعمل إيه عشان تحبني، قولي أعمل إيه عشان تحبني زيها، والله العظيم هي ما بتحبك قدي ولا حد في الدنيا دي هيحبك قدي.
وما أقساه ذلك الشعور، حينما توهب كل ما تملك من مشاعر لأحدهم فتُقابل بالمقت والرفض، فترتد تلك المشاعر داخلك لتصبح نصل حاد يُمزق روحك التي لم تكن تستجدي سوى وصال يُرضي شغف تلك المشاعر داخلها...!
اليوم التالي صباحًا... في القصر... خرج بدر من غرفته بهدوء ينوي التوجه لعمله كعادته كل يوم، ولكن أستوقفه مشهد تلك السيارة المركونة أمام القصر مباشرةً فتملك منه الفضول ليتوجه نحو فاطمة والدة أيسل التي وجدها جالسة على الأريكة تشرب قهوتها الصباحية، فتنحنح في البداية هاتفًا بهدوء: -صباح الخير فردت هي بابتسامة مُرحبة: -صباح النور، تعالى أقعد يا بدر.
جلس بدر بالفعل جوارها ليسألها بخفوت محاولًا رسم ابتسامة مُجاملة لتزيين محياه: -ازي حضرتك يا ست فاطمة؟ فأومأت هي برضا: -الحمدلله بخير، انت عامل إيه يا بدر؟ -الحمدلله تمام سألته فاطمة بعدها باهتمام وهي تعيره كافة انتباهها: -في حاجة مضيقاك في القصر؟ او أيسل عملت حاجة تاني؟ فهز بدر رأسه نافيًا، ثم راح يغطي على سبب وجوده الحقيقي وهو يتمتم لها بجدية مسرعًا:.
-لا لا مفيش اي حاجة، انا بس قولت اصبح عليكي وانا رايح الشغل -تسلم يا بدر متحرمش ردت بها فاطمة بابتسامة حلوة حانية، فنهض بدر وهو ينظر يمينًا ويسارًا بصمت، لتقول فاطمة: -مريم قالت رايحه تشتري حاجة من السوبر ماركت فأومأ بدر برأسه: -اه منا عارف، انا مش بدور على مريم اومأت فاطمة برأسها ولم تعلق، منعت ابتسامتها الماكرة بصعوبة من التحليق على ثغرها المجعد وهي تدرك أنه يبحث عن أيسل وليست تلك المريم...!
كاد بدر يغادر بعدها ولكنه إلتفت ليسألها بعدها بفضول لم يستطع كبته: -هي عربية مين دي يا ست فاطمة اللي قدام البوابة؟ فأجابت فاطمة بعينان حملتان مكر انثوي لمع بوضوح لم يكن مُفسرًا لبدر: -ده واحد جه تبع البيوتي سنتر بيرسم لأيسل تاتو في الصالون!
لم تُخفى عنها عيناه التي إحتدت بغضب أسود حاول كتمه ولكن تلك الوحوش التي زمجرت داخله وأخذت تبعثر المشاعر المدفونة بين جنبات صدره قتلت محاولته للسيطرة والصمت، فسار دون أن ينطق بحرف نحو الصالون...
فتح بدر الباب فجأةً دون أن يطرقه ليجد أيسل تجلس على الأريكة وتعطي ظهرها لذلك المُشبه برجل الذي كان يجلس خلفها مباشرةً ويرسم لها ذلك التاتو على رقبتها من الخلف، ولم يكتفي بذلك بل كان يتلمس تلك الرسمة على رقبتها ببطء أذاب المتبقي من تحضر بدر لينصهر وسط ذلك الشعور بالغيرة مخلفًا خلفه بركان ثار بجنون قادر على حرق الأخضر واليابس...!
اقترب بسرعة قبل أن يعطهم فرصة للإندهاش من وجوده ليمسك ذلك الرجل من تلابيبه وهو يدفعه خارج الغرفة بعنف صارخًا بحدة مُخيفة: -اطلع برا يالا شهقت أيسل بفزع وهي تهمس تلقائيًا: -بدر أنت بتعمل إيه سيبه فيما إتسعت عينا ذلك الرجل بدهشة سرعان ما كانت غضب وهو يفلت ملابسه من قبضتا بدر، ويردد بغيظ: -في إيه يا استاذ أنت؟ وسيب هدومي فزمجر فيه بدر بجنون استوطتن حدقتاه و كان بينه وبين الواقع شعرة:.
-ولو مامشيتش دلوقتي حالاً مش هاسيبك أنت شخصيًا إلا لما اعملك عاهه مستديمة نظر ذلك الرجل لأيسل بحنق لتتشدق هي بسرعة معتذرة: -سوري بجد بالنيابة عنه يا عمرو حقيقي سوري، أتفضل أنت وشكرًا ليك تعبتك فأومأ عمرو برأسه وهو يحدق ببدر بحقد مجيبًا: -تعبك راحة يا أيسل ثم تحرك يلملم اشياؤوه ويغادر تلك الغرفة في نفس اللحظات التي صاح بها بدر بشراسة مُحذرًا: -اسمها مدام أيسل يا كلب!
رحل ذلك الرجل، ليصفع بدر الباب غالقًا اياه، فهدرت فيه أيسل والغيظ يناطح عيناها: -إيه اللي أنت عملته ده؟ أنت ازاي تتعامل بالهمجية دي؟ فأخذ بدر يقترب منها ببطء وهو يزمجر فيها بعروق بارزة تكاد تنفجر غضبًا: -انتي اللي ازاي يا محترمة تخلي راجل يشوف ولو جزء من جسمك ويحسس على رقبتك كمان يا بجاحة أهله!
تراجعت أيسل للخلف بتوتر وهيئته المجنونة تبعث فيها قلقًا واضطرابًا جعل احشاءها تتلوى بينما تردف بصوت حاولت جعله ثابتًا: -ده كان بيرسملي بس، وآآ، مكنش بيحسس! أصبح أمامها مباشرةً ليظهر ضؤل جسمها أمام ضخامة جسده، ليمسك فكها بقوة صارخًا فيها بحدة أبرزت تلك المشاعر التملكية المتقدة: -إنتي مراتي، يعني مفيش مخلوق مكتوب في البطاقة ذكر يشوف سنتي منك، فاهمة ولا أفهمهالك بطريقتي؟!
دفعت يده عن فكها بقوة ثم رفعت عيناها البُنية التي شابهت لون القهوة، لتردف بصوت عالي مغتاظ: -أنت بتزعق كده ليه؟ هو انا عملت إيه لكل ده! ليرفع بدر حاجبه الأيسر متهكمًا: -لا ابدا معملتيش انا بس دخلت لاقيتكم بتقرأوا اذكار الصباح مع بعض!
ظلت أيسل تطالعه بنظرات حانقة، بينما هو يقترب منها اكثر حتى لم يعد يفصلهما شيء، ليقترب من وجهها نافثًا أنفاسه اللاهبة التي أضحت دخانًا لذلك اللهب الذي أشتعل بقسوة في كل خلية به، ليستطرد بعدها بخفوت حاد امام وجهها مباشرةً: -انتي بتحبي كده صح حدقت به بذعر وهي تسأله بنصف عين: -كده إيه! لتزداد ظلمة عيناه التي شابهت مغارة واسعة الجوف معبئة بالغضب، ثم قال بقسوة متعمدة:.
-بتلبسي ضيق عشان بتحبي نظرات الرجالة ليكي وبتلبسي حاجات مكشوفة وممكن اي راجل يلمس جسمك عادي، بتفرحي بكده صح؟ هزت أيسل رأسها بسرعة مستنكرة بشدة: -لا طبعًا أنت مجنون! ولكنه لم يعر جملتها اهتمام وكأنه لم يسمعها، بل رفع يداه يحيط جسدها من الجانبين ثم بدأ يتلمس جسدها بعشوائية وهو يتابـع بخشونة مهتاجة بتلك العواطف الحادة، بينما هي تجاهد لإبعاده عنها بقوة:.
-طالما انتي اي راجل ممكن يلمس جسمك طب اهوه يا ايسل، اشمعنا انا مش طايقه لمستي؟ فصرخت فيه أيسل بجنون وهي تدفعه بكل ما ملكت من قوة: -أبعد عني وبطل الجنان والهمجية دي! وقف بدر مكانه يلتقط أنفاسه اللاهثة محدقًا بها بصمت لم يطول حينما نطق بصوت أجش يسألها: -انتي مسلمة ولا لا؟ إتسعت عيناها وهي تحملق به كأنه مجنون ثم ردت باندفاع: -طبعًا مسلمة! عاد بدر يسألها بهدوء حاد: -إيه الدليل؟ -إيه الدليل على إيه!
صاحت بها أيسل باستنكار، ليتابع بدر بنفس النبرة: -إيه الدليل على إنك مسلمة؟ يعني إيه اللي يفرق بينك وبين أي واحدة مش مسلمة؟ هذه المرة لم تجد أيسل اجابة بل اكتفت بذلك الصمت المخزي، ليشملها بدر بنظرة مزدردة من أعلاها لأسفلها وهو يردف: -حجاب مش محجبة وقولت ده مينفعش بالأجبار، صلاة وطبعًا مش بتصلي، لبس محتشم مبتلبسيش، واللي زاد الطين بلة إن أي راجل ممكن يشوف اي حتة من جسمك ويلمسها!
عاد خطوتان للخلف ثم استطرد بنبرة قاسية تعمد جعلها سياط يجلد كرامتها: -لو مش عارفة تكوني مسلمة على الأقل على الاقل حاولي تكوني إنسانة محترمة! ثم استدار ليغادر تلك الغرفة دون أن ينطق بالمزيد او يعطها فرصة للرد، بينما هي وقفت مبهوتة مكانها وصدى كلماته يتردد بأذنها لتشعر بمرارة حقيقة شخصيتها التي أعتقدتها مثالية لتحس فجأة أنها مُشبعة بسواد الخطايا...!
بينما في تلك القـرية... تحديدًا في غرفة يونس وليال... فتحت ليال عيناها اولاً على ضوء الشمس الذي اخترق تلك الغرفة ليُنيرها، لتنظر ليونس الذي مازال يغط في نومٍ عميق.. تنهدت وهي تنظر له بشبح ابتسامة، ثم عدلت من وضعية جسدها لتنهض قبل أن يستفيق هو ويراها بين أحضانه وحينها لن يتردد في جلدها بسوط كلماته المسمومة!..
توجهت نحو المرحاض لتغتسل ثم تتوضأ كعادتها، ثم أدت فريضتها لتنزل بإسدال الصلاة للمطبخ في الأسفل... نظرت لورد التي ابتسمت لها باتساع ما إن رأتها وصاحت بود: -ازيك يا ليال فردت ليال بهدوء: -انا كويسة الحمدلله، انتي عامله إيه؟ -الحمدلله، اخيرًا قررتي تنزلي تقعدي معانا بدل ما انتي حابسه نفسك معظم الوقت في اوضتك فابتسمت ليال بهدوء وهي تخبرها: -معلش يا ورد، انا نازله اخد قهوة ليونس.
فعقدت ورد ما بين حاجبيها وهي تُحايلها: -طب طلعيها وانزلي اقعدي معايا شوية انا حتى ماشية كمان شوية وهيبقى صعب اجي بعد كده كتير اومأت ليال برأسها موافقة: -حاضر والله هحاول صدقيني ولو مقدرتش أنزل اعذريني بس انا حاسه اني مش متظبطة انهارده اومأت ورد برأسها ثم احتضنها تربت على ظهرها بحنو متمتمة: -ربنا يريح قلبك يارب يا حبيبتي.
بعد قليل... دلفت ليال الغرفة ممسكة بكوب القهوة بين يداها، لتجد يونس جالس على الفراش ممسكًا برأسه بين يداه والألم يستوطن قسمات وجهه، فاقتربت منه ببطء متنهدة قبل أن تهتف برقة: -صباح الخير يا يونس وكما توقعت لم يجيب يونس ولم يعرها اهتمام اصلًا وكأنها شفافة، لتتقدم منه ثم مدت يدها له بالقهوة وهي تقول: -دي قهوة عملتهالك عشان تفوق، ولو حاسس إنك لسه مش مركز ممكن ماتنزلش تفطر معاهم وأقولهم إنك تعبان.
إنتشل منها يونس كوب القهوة وهو يتابـع بجفاف: -متتدخليش في اي حاجة تخصني فاهمة!؟ لم ترد ليال وإنما اكتفت بتنهيدة عميقة وهي تراقبه يشرب تلك القهوة، وما إن أنهاها نهض لتمسكه هي بتلقائية عله يترنح كما أمس، ولكنه نفض يداها عنه بعنف وهو يزمجر فيها بقسوة أنبأتها أن تلك الشياطين عادت لمكمنها داخله: -قولتلك قبل كده ماتلمسنيش هو انتي مابتفهميش عربي!
فانفعلت ليال للمرة الاولى لتهدر فيه بعصبية نالت منها ومن البرود الذي كانت تتمسك به حيال معاملتها ليونس: -لا بفهم عربي، بس اللي أنت مش عايز تفهمه إني مش عبده عندك تقرب مني بمزاجك وتعاملني زي العبيد بمزاجك.
بلحظة كان يونس يمسكها من ذراعيها بقوة ليدفعها للخلف على الفراش بعنف لتسقط على الفراش بينما هو يطل عليها بجسده العريض ممسكًا بذراعيها، أنفاسه تصفع صفحة وجهها ليشاركها النفس، ثم صاح فيها بحدة غليظة وهو يحدق بعمق عيناها المتجمهرة بالغضب والغيظ: -هو ده اللي عندي، طالما مش عايزه تغوري من حياتي وهتفضلي مراتي يبقى انا حر، أقرب منك أبعد اعمل اللي اعمله!
ظلت ليال تتنفس بصوت عالي وهي تحدق به دون أن ترد، بينما هو اشتدت قبضته قسوة حينما تذكر ليلة أمس ليتابـع بخشونة حملت لونًا واضحًا من الندم: -أنا كنت شارب ومش واعي اصلاً امبارح فردت ليال بتلقائية مستفزة كعادتها: -ده ياريتك تبقى شارب دايمًا عشان تبقى هادي شوية وتبطل همجية فانتفضت فزعًا حينما ضرب يونس على الفراش عدة مرات وهو يردد بصراخ اشبه بزئير الأسد المجروح:.
-لأول مرة في حياتي اشرب القرف ده بسببك، كل البلاوي دخلت حياتي بسببك لما انتي دخلتي حياتي ثم ابتعد عنها ليمسك بذلك الكوب ليضغط عليه بقبضته بقوة ثم رماه ارضًا بانفعال حاد ليتشهم بالكامل، وراح يتشدق بجنون: -ملعون ابو المكان الاسود اللي جمعني بيكي يا شيخه!
ثم اتكأ ليجلب هاتفه الذي كان ساقط ارضًا وكانت قطعة زجاج عليه فأمسك قطعة الزجاج بعنف ليرميها فجرحت يده ليتأوه بتلقائية بألم طفيف تجاهله وهو يضع هاتفه في جيب بنطاله، بينما ليال نهضت بسرعة لتمسك يده وهي تسأله بقلق: -إيدك اتجرحت؟ دفعها للخلف بعيدًا عنه وهو ينتشل يده من بين يداها مرددًا بثوران غاضب: -قولتلك ماتلمسنيش ابدا.
دون أن تشعر وبحركة مباغتة داست ليال على قطعة زجاج لتنغرز بقدمها فصرخت بألم وهي تمسك قدمها ليغادر يونس دون أن ينطق بحرف اخر متجاهلًا اياها تمامًا... فجلست هي على الفراش تحاول إخراج تلك الزجاجة من قدمها وهي تهمس بصوت اختنق بالبكاء: -يارب انا تعبت، يارب ازرع حبي في قلبه يارب!
بعد يوم آخر... في القصر... دلف حارس القصر ليتقدم نحو فاطمة متمتمًا بصوت جاد حذر: -ست فاطمة في ست وراجل برا بيقولوا عايزين حضرتك وقفت فاطمة تعدل من حجابها لتخفي خصلاتها البيضاء التي تبرز كبر سنها، قبل أن تقول في هدوء ووقار: -دخلهم يا حسن بس ماتسيبهمش يدخلوا لوحدهم ادخل معاهم انت واي حد تاني من الشباب وخلي نسمه تنادي أيسل وبدر -تحت امرك يا ست فاطمة.
قالها وقد اومأ مؤكدًا لها برأسه قبل أن ينصرف ملبيًا اوامرها، وبالفعل بعد دقائق معدودة دلف كلاً من طه و زوبه متفحصان القصر بأعين جائعة كالعادة لا يملؤوها سوى حفنة من التراب الأسود..!
في نفس اللحظات التي أتى بها كلًا من بدر وأيسل، فوقفت أيسل تطالعهم بنظرات مزدردة وكأنها تشمئز من كونهم والديها، كادت زوبه تقترب منها بحنان وحزن مصطنع وهي تتمتم: -أيسل حبيبتي فعادت أيسل خطوتان للخلف تهز رأسها نافية بحدة كارهه: -ماتقربيش مني وقفت زوبه مكانها بإحباط لتمثيلها المكشوف للجميع، فنطق طه بصوت أجش موجهًا حديثه لفاطمة: -قولتي لأيسل إن اهلها جايين ياخدوها ولا لأ يا حجه؟ فردت فاطمة بحدة:.
-أيسل مش عايزه أهل غير اللي اتربت معاهم، مش اللي بيعتبروها غلطة وما صدقوا تاهت منهم ورفضوا يقابلوني حتى لما لقيتها وهي عيله ٤ سنين! فأشار طه بيداه بتهديد مبطن: -يبقى البوليس هو اللي يحكم بينا يا خطافة العيال!
حينها تدخل بدر ليجذب أيسل من خصرها بقوة ليلصقها به وقد أحس بتلك الرجفة التي هاجمت أيسل ما إن أحاطها بذراعاه يضمها له بقوة فيُلبي طلب جسده الذي احترق بالشوق ليفعل ذلك بعد أن كانت تقاطعه تماما منذ اخر مرة تشاجرا بها ذلك اليوم...! ثم هتف بخشونة وصلابة: -أيسل مراتي ومش هتروح في حتة، ومحدش يقدر ياخدها غصب عني! فاندفع طه بغضب يصيح: -كداب، هي مش متجوزه، انتوا بتلعبوا بقا عشان تخلوا البت هنا.
فتمتم بدر ببرود ساخرًا: -يبقى البوليس هو اللي يقرر يا حج! ولكن دون مقدمات وجدوا أيسل تهتف بما أصابهم بصدمة جمدتهم مكانهم جميعًا بما فيهم بدر الذي تجمد مكانه يحدق بها بعينان محتقنتان: -انا هروح معاهم! و...
الصدمة شلت تلك الحروف التي كادت تتقافز من حافة شفتـا فاطمة فبقيت تحدق بها مبهوتة وهي تردد أسمها بسؤال متواري خلف حروفه: -أيسل! فابتلعت أيسل ريقها وهي تدير رأسها متابعة: -ده قراري، انا هروح معاهم فأمسك بدر ذراعها يضغط عليه بقوة وهو يهتف من بين أسنانه بحدة: -إيه اللي انتي بتقوليه ده، تروحي معاهم فين انتي مجنونة!؟ -ايوه مجنونة.
قالتها وهي ترمقه بنظرة حادة توازي حدة نظراته التي كانت شعلة يتعالى وهجها الملتهب بين تلك الظلمة بعيناه، فيما نطق طه بسعادة أبرزتها حروفه الخبيثة قائلًا: -هو ده الكلام، أنا كنت واثق إنك مش هتمشي أمك وابوكي مكسورين الخاطر يا أيسل طالعتهم أيسل بنظرات إنصهر بين بركانها الحقد والاشمئزاز، ليتهم لم يكونوا أهلها، ليتهم لم يعودوا ابدًا...! لوت شفتاها بعدها وهي تردد متهكمة بمرارة:.
-أمي وابويا! بأمارة إيه؟ بأمارة إنكم سبتوني مرمية في الشارع وماهمكوش اني لسه طفلة يادوب ٤ سنين؟! ثم اقتربت خطوة من والدتها التي تنظر لها بصمت، تبحث بين سطور عيناها عن حرف واحد يخبرها أنها تشتاقها، أنها تألمت لفراقها، أي شيء يطفئ تلك النيران الحاقدة التي تستعر داخلها بقسوة، ولكنها لم تجد، لم تجد سوى عينان خاويتان منزوعتان الحنان فبدت لها كالصحراء الجرداء المشاعر...!
ليخرج صوتها متهدجًا مهتزًا وقد تمزق ثوب الثبات الذي كانت تغطي به صدئ الألم المرير: -وانتي ياللي مفروض أمي، مفكرتيش مرة أنا إيه اللي حصلي؟ عايشة ولا ميتة؟ حد لمني من الشارع ولا باكل من الزبالة؟! بتغطى في الشتا ولا مرمية في الشارع تحت المطره؟ ماصعبتش عليكي ابدا ولا حسيتي بشفقة ناحيتي حتى؟ للحظات نبضت ملامح زوبه بالتأثر وقد أطلقت مشاعر الأمومة نبضة صغيرة تنفي تجردها منها حينما قالت بتردد:.
-انا كنت بدور عليكي يا أيسل بس، آآ... قطعت كلماتها وهي تنظر نحو طه الذي أصابها بسهام نظراته الحادة المُحذرة، فقتلت سهام نظراته تلك النبضة في مهدها، لتعود زوبه لجفافها وهي تخبر أيسل: -بس الظروف كانت اقوى مننا! ضحكت أيسل دون مرح ورددت: -الظروف! الظروف دي الشماعة اللي بنعلق عليها كل حاجة فتدخل هنا طه يستطرد بتأثر مصطنع لم يكن كافٍ ليعبث بمكنونات قلب أيسل: -احنا دورنا عليكي كتير يا أيسل لحد ما يأسنا!
إنقشعت كل قشرة برود كانت تغطي أيسل، لتتناثر بوجهه حينما صاحت فيه بجنون: -كداب، محدش دور عليا، حتى لما أمي راحتلكم الكباريه القذر بتاعكم مارضيتوش تقابلوها فهز رأسه نافيًا بسرعة: -كدابة ماحدش جالنا حينها تدخلت فاطمة مسرعة مذهولة من ذلك الرجل الذي لا يمل الكذب والمكر والتلاعب: -اتقي الله، والله العظيم حلفان يحاسبني عليه ربنا إني روحتلكم و...
فقاطعتها أيسل بصوت صلب تزاحمت به جنح المشاعر الهيستيرية المطعونة في الصميم: -من غير ما تحلفي يا مامي، انا مصدقاكي ثم رمقت والدتها بنظرة مزدردة وأكملت: -الست اللي ربتني استحالة تكون زيكم، دي كانت عليا أحن من أي حد، مستحيل تكون شيطانة وبتمثل! فعقدت فاطمة ما بين حاجبيها بألم وبنبرة متوسلة راحت تردف علها تقنعها: -ماتروحيش معاهم يا أيسل، أنتي بنتي اللي ماخلفتهاش، ماتبعديش عني.
اقتربت أيسل منها ببطء، لتمسك يدها تُقبلها بكل الحب، الحنان والرفق اللذان زرعتهما فاطمة قديمًا تحصدهم حبًا وامتنانًا تراهم الان يلمعان بين حدقتـا أيسل كنجم أضاء ظلمة ذرك الكون بنوره المتوهج...! فيما تشدقت أيسل بـ: -أنا أسفة يا مامي، أنا عايزاكي بس تثقي فيا وتحترمي قراري بعد اذنك لم ترد فاطمة وهي تحدق بها بقلب يقطر لوعة، لتنتبه أيسل لبدر الذي سحبها بعنف من ذراعها مغمغمًا بجمود:.
-تعالي معايا عايز اتكلم معاكي فسارت خلفه على مضض دون أن تنطق.
صعد بها بدر نحو غرفتها دفعها برفق نحو الداخل ثم دلف خلفها ليغلق ذلك الباب فسألته أيسل بنبرة جامدة: -في إيه يا بدر؟ عايز تتكلم معايا فـ إيه؟ اقترب منها بدر بخطى حادة متساءلًا بصوت أجش: -انتي اللي في إيه، انتي اتجنيتي؟ عايزه تروحي معاهم وعارفه إنهم هيشغلوكي في كباريه! هزت أيسل رأسها بنبرة جافية: -دي حاجة تخصني فدفعها بدر للخلف بعنف وهو يزمجر فيها بانفعال عاطفي وجسده كله يشع عنف:.
-لأ ماتخصكيش، طول ما انتي لسه على ذمتي ماتخصكيش لوحدك! رفعت أيسل حاجبها الأيسر تناطحه بقولها الحاد: -لأ يخصني لوحدي، وبعدين الورقة اللي بينا ماتديكش الحق إنك تتحكم فيا! ضغط بدر على قبضة يده بكامل حتى شعر أن كل عرق فيه سينفجر حتمًا، لا تروقه ابدًا فكرة أن تذهب لذلك الملهى الليلي اللعين حتى وإن كان على سبيل الصدفة، تلك الفكرة تجعل من صدره جحيم يتلظى بلهب تلك الغيرة...!
اقترب منها اكثر وبلحظة جذبها من خصرها بعنف حتى اصطدمت بصدره لتشعر بحدة تنفسه، بينما يتابـع بصوت محترق، هلك كل وتر بنبرته من فرط تلك المشاعر التي تدفقت لحظتها: -إنتي كلك حقي، وأي حاجة تخصك حقي للحظات لم تجد ما تقوله، تظل صامدة حتى تتملق تلك العاطفة من حروفه فتشعر أنها اصبحت ورقة على مهب تلك العواطف، حروفها تفر هربًا منها ولا تجد سوى تلك الدقات العنيفة تكاد تخترق صدرها...!
وضعت يدها على صدره تبعده وهي تهمس بوهن: -بدر لو سمحت ابعد، ده قراري ومش هرجع فيه فاشتدت يداه حول خصرها وهو يستطرد بإصرار وصوت خشن صلب: -وانا مش هاسمحلك تروحي معاهم، وقرارك ده بليه واشربي ميته! زفرت أيسل أنفاسها على مهل تحاول تهدئة نفسها، ثم قالت والعناد ينضح من حروفها: -أظن إنك فاكر أحنا اتجوزنا ليه، وخلاص أنا قررت فحضرتك خلاص مش واصي عليا ومش هتقولي اعمل إيه ومعملش إيه.
كز بدر على أسنانه بعنف، يحاول إقناع نفسه أنه يفعل ما يتوجب عليه من أجل إتفاقه مع والدتها اولاً ثم من اجل مريم وإنتقامها، ولكن ذلك السبب بمجرد أن يخترق حدود قلبه يذوب ليصبح كزبد البحر...! عاد يرمقها بنظرات مهتاجة حادة ثم أردف: -فاكر اتزفتنا ليه مش محتاجة تفكريني يا أيسل هانم وعلشان كده مش هسيبك تضيعي كل اللي عملناه في لحظة مطت أيسل شفتاها ببرود ساخرة:.
-طب كويس، ومعلش لو ضيعنا وقت حضرتك الثمين واخدناك من الهانم بتاعتك. تعالت وتيرة أنفاسه وهو يحدق بها، غاضب، غاضب ككل خلية به، غاضب منها، غاضب من تلك المشاعر التي تجتاحه كطوفان فيغرق هو فيه كارهًا إياه متمرغًا بين براثنه اللاوعة...! نظرت له بتردد قبل أن تسأله وقد حملت تلك الحروف كل تساؤلاتها، حيرتها، حملت تلك المشاعر المتناقضة التي تمزقها نحوه: -أنت بتعمل كده ليه يا بدر؟
فاندفعت تلك الاجابة التي يُلقنها لقلبه مرارًا وتكرارًا من بين شفتاه: -علشان الست الطيبة اللي هيجرالها حاجة تحت دي إنطفأت ملامح أيسل التي أنارتها شعلة الأمل للحظات في إنتظار تلك الاجابة..! لترد بعدها بابتسامة لا تمت للمرح بصلة: -أنت مش هتخاف على أمي اكتر مني إلى أن دفعها بعيدًا عنه بعنف تاركًا إياها وهو يغمغم بقسوة:.
-في ستين داهية، روحي مكان ما عايزه تروحي مش هيفرق معايا، اشتغلي في كباريه ان شاء الله تولعي في نفسك ثم استدار ليغادر، فسار عدة خطوات قبل أن يتوقف للحظات، فالتفت ينظر لها، يشملها بنظرات كانت بمثابة وصال حار بدايته شوق ينحره واخره حيرة و ألم...
ودون مقدمات كان يلتهم الخطوات الفاصلة بينهم وهي كذلك، ليُحيطها هو بقوة وتحيط هي خصره وتتقابل شفتاهم في وصالهم الأول، بكل اللوعة، بكل ذرة تنادي داخله مطالبة بلقاء شفتاها المكتنزة، لحظات مسروقة من واقعهم الذي يرفض جمعهم سويًا دون عوائق، لحظات شفتاه تعزف على شفتاها لحن الشووق الذي أهلكه، وتبعثرها هي مشاعره العنيفة...!
ابتعد حينما شعرا بحاجتهم للهواء، ليهمس لها بصوت مثخن بالعاطفة: -ماتروحيش معاهم! كانت تتنفس بصوت عالٍ، لا تستطع، لا تستطع فعلها، تشعر أنها قُسمت نصفين وتلك البرودة من التفكير تجتاح بينهما...! وعندما لم يجد بدر رد ابتعد عنها ليرمقها بنظرات حادة ثم استدار ليغادر دون كلمة اخرى، لاعنًا ضعفه الذي بات يشكل هاجسه!..
في القريـة... دلفت ليال للغرفة لتجد يونس يرتدي ملابسه، وكعادته تحشا حتى النظر لها، ولكنها لم تصمت هذه المرة بل اقتربت منها بعينان مُلبدتان بتلك الأفكار التي ترميها من وادٍ أسود لأشد منه سوادًا وقسوة...
تعبت، تعبت من كل شيء، تعبت من رفضه، تعبت كرامتها المهدورة أسفل اقدام رفضه، أهلكها عقلها الذي يخبرها ألا تستسلم، مزقتها الأيام وهي تحاول إرضاء كل طرف منها ولكن لا تجد لداءها دواء...!
يكمن الدواء بين يداه ولكنها تشعر أنه يبعده عنها بكل الطرق ويعود ليغمس علقم جديد في جوفها ليُمرر روحها... وقفت ليال امامه لتهتف بنبرة هادئة ولكنها صلبة في البداية: -يونس عاوزه أتكلم معاك رمقها بنظرة باردة أرسلت قشعريرة باردة لعمودها ولم ينطق، فابتلعت هي ريقها وراحت تردد بنبرة خافتة: -ادي لحياتنا فرصة يا يونس.
إحتدت نظرته وقد بدأ الغضب يزحف لنظراته، فأدركت أن ضبابية الكره بين عيناه حجبت تلك الفرصة التي لم تبزغ بعد...! فعادت لتقول بإصرار تحاول طرد أشباح اليأس خارجًا: -طب أنت ليه مش مصدق إني عملت كده عشانك، عشان مش عارفة أبطل تفكير فيك أغمض يونس عيناه يحاول تمالك نفسه، مجرد تحدثها عن ذلك العشق يذكره بأنانيتها، يُذكره بعشقه الذي حُرم منه بسببها، فيُقظ شيطان الغضب ليجلد أي شعور اخر سوى الكره داخله...
كاد يسير مبتعدًا عنها، ولكنها أسرعت تمسك يده وهي تتابـع بصوت مبحوح مُحمل بتلك العاطفة التي لا يكره سوى سماعها: -طب لو مش بحبك هستحمل منك كل ده ليه يا يونس؟ انهي عقل اللي يخليني استحمل كل ده إلا قلبي ومشاعري ناحيتك؟ إنتشل ذراعه من بين يداها وهو يحذرها بحدة: -قولتلك ماتلمسنيش! حينها خارت كل قواها للثبات فبدت هيستيرية وهي تلمسه عمدًا وتصيح فيه بانفعال فلت زمامه من بين يداها:.
-لأ هلمسك، هلمسك ومش هبعد ومش هسكت زي كل مرة، أنت بتعمل كده عشان أنت نفسك مش لاقي سبب منطقي لكل تصرفاتك معايا حينها زمجر فيها يونس بحروف كانت ذريعة كل شياطين الغضب التي لا تغادر جنبات روحه وتغذي الكره داخله: -عشان بكرهك، بكرهك وبكره أنانيتك وخبثك، في اكتر من كده سبب؟ بكرهك ومش طايق أتعامل معاكي ومافتكرش إنك السبب في كل حاجة وحشة حصلت في حياتي! وقفت أمامه قبل أن يغادر ومن ثم استطردت صارخة فيه:.
-وامتى هتفهم إني عملت كده عشان مش عارفة أنساك، هي لو بتحبك كانت اتمسكت بيك ووثقت فيك! اخر جملة منها حررت المارد الأحمر داخله، فتجمهر الكره اعلى قمم عيناه، ولم يشعر بنفسه سوى وهو يقبض على ذراعها ويجذبها متجهًا بها نحو المرحاض ويردد بقسوة غليظة؛ -شكلك لسه مافوقتيش وعايشة في الجو اللي أقنعتي نفسك بيه عشان تحللي لنفسك عملتك المقرفة زمجرت ليال فيه تحاول التملص من بين قبضته: -اوعى سيبني.
ولكنه لم يهتم واوقفها عنوة اسفل الدوش ليفتحه فجأة فشهقت هي حينما غمرتها المياه الباردة فجأة، بينما هو يواصل هديره القاسي باهتياج: -فوقي، فوقي بقا وافهمي انا عمري ما هحبك وهفضل طول عمري بكرهك، فوقي وادركي إن اللي عملتيه مش مبرر لأي مشاعر.
كلماته القاسية تزامنًا مع تلك المياه جعلوا ليال تفتح فمها وتغلقه كل ثانية، تشعر أنها تغرق، ليس بسبب تلك المياه، وإنما بسبب سيلان القسوة الذي إنهال من كلماته ليطيح بكل شيء داخلها، كل أمل...! إلى أن تركها دافعًا إياها بقوو لتترنح وقفتها بوهن وتترك جسدها ليسقط ارضًا بينما هو يكمل:.
-لاخر مرة هقولك ابعدي عني، وحتى الطلاق مش هطلق هسيبك متعلقة كده لحد ما اعرف مين اللي سلطك عليا، وقريب اوي هعرف وساعتها مش هيبقالك مكان في بيتي وما إن انتهى من كلماته حتى غادر المرحاض تاركًا اياها ساقطة ارضًا تغمرها المياه بقوة، ودون أن تشعر إختلطت دموعها المحبوسة بتلك المياه، يكفي، لم تعدل تحتمل، لم تعد تحتمل اكثر، تشعر بكل قواها تخر منهارة كتلك القطرات التي تتساقط...
أمسكت فجأة الكوب الموضوع في المرحاض لترميه نحو المرآة فيهشمها لقطع صغيرة بينما هي تصرخ بانهيار: -كفاية بقا، كفاية، مش عايزاك، ملعون ابوها مشاعر!
بعد حوالي ساعة وأكثر... ساعة من الزمن مرت على ليال كزمن، زمن تُهدم فيه اشياء وتُعاد فيه ترميم اشياء، تشعر أن داخلها أصبح كالخراب الذي تخلفه الحرب، كل شيء مُدمر، خاوي الحياه، لا تشعر بأي شيء، لا تدري حتى ماذا ستفعل...!
وقفت بأقدام مرتعشة، لتخرج من المرحاض، كان يونس جالس على الفراش واضعًا رأسه بين يداه، كان الهواء الطلق يعم الغرفة بسبب المروحة التي شغلها يونس على أقصى سرعة، يشعر بالأختناق، يشعر أنه في أوج الجحيم، يكرهها ويشعر بالشفقة تقطر قطراتها ببطء على ذلك السواد داخله، ولكن تلك القطرات لا تستطع محو ذلك السواد، تُهلكه حيرة وضجرًا فقط...!
و ليال لم تكن احسن حالاً عنه، حتى لم تنتبه للهواء الذي لفح جسدها المُبلل، أخذت ملابسهامن الدولاب ثم عادت للمرحاض بخطى آلية..! فنهض يونس متأففًا لينتشل بدلته ويغادر لعمله...
بعد ساعات اخرى... عاد يونس من العمل، دلف للغرفة وتوجه نحو دولابه ليُخرج ملابسه، ألقى نظرة نحو الفراش ليجد ليال مُغطاه ويبدو أنها تغط في نوم عميق، لم يهتم كثيرًا وفتح ازرار قميصه ليخلعه، وفجأة سمع همهمات مكتومة تصدر عن ليال فعقد ما بين حاجباه بحيرة يُنازع داخله الانسان الذي يطالبه بالاقتراب وتفحصها...!
وبالفعل إنصاع لذلك الصوت فاقترب ببطء لتزداد همهمتها، أبعد ذلك الغطاء عنها ليجدها ترتعش وتهمهم بهذيان، فجلس على طرف الفراش مقتربًا منها ليجدها تردد بحاجبان معقودان وبصوت متقطع متألم: -يونس، لا يا يونس، يونس انا بحبك، اسفة، يا يونس، انا عملت كده عشانك فزفر بعمق وهو يحدق بها، تحسس جبتهتها ببطء ليستنتج أنها اُصيبت بنزلة برد حادة وبسببه ايضًا...
اغمض عيناه ضاغطًا على رأسه بقوة وضميره يعنفه لومًا، فنهض يجلب دواء مناسب ومياه ثم عاد و أمسكها برفق من كتفاها ليحاول جعلها تنهض متناسيًا أنه قد خلع قميصه، بدأ يهزها ببطء وهو ينادي بأسمها بصوت خافت: -ليال، ليال فوقي عشان تاخدي دوا ولكنها لم تكن تعي ما يقول اصلًا، ولكن صوته الذي تحفظه عن ظهر قلب اخترق عزلتها في عالم اللاوعي، لتفتح عيناها نصف فتحه وتهمهم بأسمه وهي ترمي نفسها بين أحضانه مغمغمه بوهن:.
-يونس، عايزه اتدفى، سقعانة اوي للحظات أصابته تلك الرجفة العنيفة حينما لامست صدره العضلي واحتضنته بهذه الطريقة، حركتها المباغتة داعبت شيء مجهول داخله يجهل ماهيته، لا يدري لمَ لم يبعدها فورًا، فنالت هي دفء جسده الذي ازدادت الحرارة بكل خلية به فشعر هو بالاحتراق داخله يضاهي برودة جسدها...!
وفجأة كما اقتربت ابعدها ببطء يُعيدها للفراش، ثم وضع الدواء في فمها بحرص ليُغطيها، ثم بقي ينظر لها، متفحصًا لملامحها، فكانت خصلاتها تغطي جزء من وجهها، فمد إصبعه يبعدها ببطء وعيناه تجوب ملامحها بتمهل، كم يأسف على ما يفعله معها، ولكن ماذا عساه يفعل، ليت القلوب قيد طوعنا...! ظل يحدق بها بصمت إلى أن قال بخشونة وصوت منخفض: -انا اسف...!
صباح اليوم التالي... تحاملت ليال على نفسها لتنزل وتفطر معهم بعد إلحاح نسمه التي أخبرتها أن الجميع قد تجمع بالأسفل... كان الوهن والالم يسيطر على كل خلية بها، وقد لاحظها يونس الذي تابعتها عيناه بين لحظة والاخرى... وفجأه سمعوا صوت ضجيج بالخارج فنهض قاسم والد يونس يصيح بجدية: -روح يا محمد شوف في ايه برا وفجأه كان حارس البوابة ينادي بحنق: -يا استاذ مينفعش كده.
إتسعت حدقتا عينـا ليال بصدمة وفزع حينما وجدت والدها امامها، لا تعرف كيف علم بمكانها وماذا ينوي أن يفعل حتى، ولكن دقات قلبها الهلعة غطت كل صوت حولها حينما سمعته يزمجر بجنون: -جايه تقعدي في بيت عشيق امك يا ليال؟! وكل الانظار صوبت نحوها بلحظات و..
-بابا! قالتها ليال وقد تثاقلت أنفاسها، لحظات من الزمن شعرت فيهم أن الهواء الذي ينزل لرئتيها أصبح كالحجر المُدبب فلا تستطع أخذ نفسًا يُحيها بعدما جعلتها كلمات والدها كالميتة تمامًا...! فيما زمجر فيه يونس والغضب يتأجج في مقلتاه: -أنت بتقول إيه يا راجل أنت، أنت مجنون! ليصرخ حامد وهو يقترب منهم بانفعال سيطر على كل خلية إنسانية داخله:.
-لأ انا مش مجنون، أنا واعي كويس للي بقوله بس أنتوا اللي عينكم بجحه، صحيح اللي إختشوا ماتوا كاد يهب يونس بوجهه ولكن تدخلت ليال ترجوه بصوت ثقيل مبحوح بعدما غادرته الروح التي تتحكم بإلحان الحياه فيه: -لو سمحت اسكت، اسكت ماتكملش فصرخ حامد أكثر ليبدو وكأن كلماته تزيد نيرانه سعيرًا: -لا مش هسكت، مش ده بيت عشيق امك، جايه تعملي فيه إيه يا ليال، ردي.
فهزت ليال رأسها نافية بسرعة وهي ترد بحدة امتزجت بذرات صوتها العالي: -إيه اللي أنت بتقوله ده! لأ طبعا، ارجوك كفاية اسكت وامشي من هنا ولكن حامد كان كالفتيل الذي إنطلق من مضجع نيرانه ولن يعود قبل أن يضحي ما حوله مجرد رماد، فاقترب من قاسم والد يونس الذي كان يراقبه مبهوتًا، وقد ذبحت الصدمة حروفه في مهدها، ليصيح حامد فيه بجنون: -أنت إيه، مش كفياك امها كمان عايز تاخد البت اللي حيلتي!
أزاح قاسم عن ملامحه بهتانها وقمعها ليظهر معدنها الأصلي، حادة والغضب يتموج بين تجاعيد وجهه، وعيناه حمراء ملتهبة بجحيم ذلك الغضب، ثم صاح فيه بصلابة وحدة: -اخرس يا راجل أنت وكفياك طعن في الأعراض واطلع من بيتي حالاً ثم انتبهوا جميعهم لـ ليال التي وضعت يداها على اذناها حينما كاد حامد يكمل، لتصرخ بصوت هيستيري وهي تتوسله:.
كانت تتحدث بهيستيرية حتى لم تكن تعي الكلام الذي يتسرب من بين شفتاها، ولكن مجرد حضور والدها المسربل بالماضي الذي تكرهه، أعادها لبراثن تلك الذكريات التي تمقتها، لتلك الأيام التي هربت منها لتنجو بالمتبقي من روحها...! ألم يكتفي؟ ألن يكتفي ابدًا..؟ سيظل يرجمها بجمرات قسوته كما رجم والدتها سابقًا...! اقترب حامد منها ليقبض على ذراعها بعنف ثم اخذ يهزها متابعًا:.
-مش هسكت الا اما اعرف إنتي جايه هنا تعملي إيه؟ بتعملي إيه في بيت الراجل ده يا ليال؟ ردي عليا نفضت ليال ذراعها من بين قبضته لتصرخ فيه بجنون وكل عرق داخلها قد اشتد بقسوة: -امشي، قولتلك امشي من هنا كفاية، مش بعمل، ابوس ايدك امشي وكفاية تعذبها حتى وهي ميته كفاااية فرفع حامد يده ينوي صفعها وقد أطاحت الشياطين بعقله تمامًا في أقاصي الاستيعاب: -انتي بتزعقيلي يابنت ال.
ولكن يد يونس كانت الاسرع ليمسك يده بسرعة قبل أن تصل لوجه ليال التي أغمضت عيناها متأهبة لتلك الصفعة، فحدق به حامد بحقد ليزمجر فيه يونس بشراسة: -انا مش هتكلم عن الست اللي مفروض مراتك وعرضك اللي أنت بتقذفه ده لأن ميخصنيش، لكن مراتي محدش يمد ايده عليها وكمان في بيتي! ليردف حامد بازدراد وهو يرمق كلاهما بنظرة أحست من خلالها ليال أنه يطعنها بشرفها كما فعل مع والدتها تمامًا:.
-وأنت ازاي تتجوزها من غير أهلها؟ جواز إيه ده أنتوا مفكريني اهبل! فأشار يونس برأسه نحو حامد مغمغمًا لحارس المنزل الذي ذهب ينادي لشخص يعاونه في إخراج حامد : -طلعوه برا، وميدخلش البيت ده تاني ابدًا ثم شمخ برأسه ليتابع بثبات وجمود مُخيف: -إلا لو جثة!
وبالفعل بدأ الحارسان يسحبان للخارج حامد الذي ازداد جنونه وهو يحاول التملص من بين يداهم، بينما ليال تتنفس بصوت مسموع مغمضة عيناها وهي تضع يداها على صدرها، واخيرًا قد هدأت تلك العاصفة التي هبت بغبارها على صفو حياتها تنوي إقتلاع جذورها...!
نظر يونس نحو والده وكاد ينطق: -بابا أنت آآ... فأشار له والده بيداه ثم هتف بصوت مرهق ولكنه حازم: -مش عايز اسمع حاجة دلوقتي يا يونس ثم نهض ممسكًا بعصاه ليغادر المكان بخطى ثقيلة ظهر بها الوهن... تبعته ليال التي دارت بعيناها حولها بلا هدف ثم تحركت لتصعد لغرفتها، وقد زاد ذلك المرض اشتدادًا بها، صحيح أن تلك العاصفة حلت بغبارها، ولكن خلفت بعدها تشققًا لا بأس به لن يلتئم بسهولة...!
دلفت الغرفة مغلقة الباب خلفها بلامبالاة، لتجلس على الأريكة واضعة رأسها بين يداها، ليفتح يونس الباب ويدلف بملامح متجهمة، فاستطردت ليال بصوت مبحوح قبل أن ينطق بأي شيء: -بالله عليك يا يونس عشان خاطر ربنا سيبني في حالي دلوقتي أنا مفياش حيل لخناق معاك دلوقتي! فاقترب منها يونس وهو يهتف بصوت أجش تعصف به تلك الاسئلة الشياطنية بلا هوادة:.
-مش هسيبك إلا اما افهم كل حاجة، مش ده ابوكي اللي مفروض ميت، سبحان الله صحي من الموت وجه هنا يعمل إيه؟ لم ترد ليال ولم تتحرك من مكانها، صمتها لم يكن بخلًا في إعطاء اجابة، ولكن كان جهلاً بتلك الاجابة التي ينهش التفكير في عقلها بحثًا عنها...! ليمسك يونس يدها يبعدها عن رأسها ثم أمسك بفكها بعنف ليرفع رأسها وهو يهدر فيها بعنف:.
-لما اكلمك تردي عليا، مش هفضل زي الاطرش في الزفة وواحدة كدابة وخبيثة زيك بتلعب بيا ثم ضغط على فكها اكثر وهو يهزها مغمغمًا وملامحه كلها تصرخ بالاشمئزاز: -هو انتي إيه، حياتك كلها مليان كدب وحوارات؟ مابتزهقيش منها!؟ لتنهض ليال صارخة فيه وهي تبعد يده عن فكها بكل قوتها الواهنة اصلاً: -علشان هو زي الميت في حياتي، ملهوش دور ولا وجود إلا بس عشان يأذيني، يمكن علشان كده بهرب منه وبعتبره ميت!
للحظة صمت يونس يُدرك صعوبة خروج تلك الكلمات من بين شفتاها، يُدرك أن تلك الكلمات لم تخرج إلا بنزيف داخلي يراه يُلطخ أعمق عيناها الان...! ولكنه لم يستطع كتم كل تساؤلاته فأكمل: -وجاي هنا ليه؟ عرف بيتنا منين وعايز إيه اصلًا؟ لم تأخذ ليال الكثير لترد بصوت باهت وبصدق: -معرفش! -كدابة، مستحيل يكون حلم بعنوانا فقرر يجي زيارة! تمتم بها يونس بصوت منفخض ساخر ولكنه حاد كطرف شفرة قاسية، لترد ليال بانفعال واضح:.
-قولتلك معرفش فعلاً معرفش! كانت تعطيه ظهرها، وهي تسير بخطى مهرولة هيستيرية، ليجذبها يونس فجأة من ذراعاها يقبض عليهم بقوة وهو يسألها بعدها بنبرة نخرها الشك: -انتي جايه هنا علشان حاجة تخص أمك صح؟ انطقي بابا يعرف امك منين؟ ظلت ليال تعود للخلف محاولة التملص من قبضته، ولكنه كان محكم قبضته عليها، حتى إلتصقت بالحائط من خلفها، وهو أمامها يحاصرها بشكوكه واسئلته القاسية، فبدأت تهز رأسها نافية وهي تردد:.
-لأ قولتلك لأ، لأ!
ودون وعي بدأت تعض على شفتاها بقسوة، عقلها غائب عن تلك المعادلة الغير عادلة، لم تجد أي شيء تُخرج به إنفعالها الذي يضج ويثور داخلها سوى شفتاها فظلت تعض عليها بعنف دون شعور حتى بدأت تُدميها، والدها السبب، لم يكتفي بما جعل والدتها تعانيه وهي على قيد الحياه، بل جاء ليشوه صورتها في مكان جديد امام اناس جديدة، بدلاً من أن يصبح لها سندًا في حياتها وحتى بعد مماتها، ولم يكتفي بإرهاق ليال شخصيًا طيلة السنوات التي عاشتها معه بعد وفاة والدتها، بل جاء ليُدمر كل محاولاتها لبناء حياه جديدة مستقرة بعيدًا عنه وعن جحوده...!
ألا يستطع أن يكون إنسانًا طبيعيًا، أب حنون ولو لمرة واحدة...؟!
بينما يونس كان يُراقب شفتاها التي ادمتها بأسنانها، فأدرك حالتها الهيستيرية، ليمد يده بتلقائية يحاول تحرير شفتاها من بين أسنانها القاسية، وبمجرد أن لامس إصبعه شفتاها حتى عاد ذلك الطوفان الذي يمقته يُطيح بثباته ويُشعل بين جنبات صدره ما يحاول إخماده بشق الأنفس...! حرر شفتاها من بين أسنانها بصعوبة ثم أحاط وجهها بكفاه السمراوان ليحرك وجهها برفق وهو يناديها بخفوت: -ليال، ليال اهدي وفوقي.
لأول مرة ينطق أسمها مباشرة وبتلك النبرة التي رشقت بمنتصف قلبها تمامًا لتداعب شيء فيها وسط ظلمات شعورها الحالي، فبدأت تهدأ نوعًا ما ولكنها ظلت تهذي بصوت مبحوح: -هو السبب، إذا كان هو لسه بيطعن في شرفها هستنى إيه من الغريب! رفع يونس وجهها ليوصل عيناه بعيناها الزائغة، مثبتًا عيناه على بُنيتاها عله يستحضر تلك المشاعر المردومة بين طيات عيناها، فقال بينما أصابعه تتحسس وجنتاها بحنان:.
-خلاص، أنا اسف، انا عارف إن هو السبب، في اسئلة في دماغي وكان لازم ألاقيلها اجابة وبس! صمتت ليال وصمت هو، وجهه قريب منها، يتشاركان انفاسهم العالية الهادرة، صدرهما يعلو ويهبط بانفعال عاطفي حاد...! وقعت عينـا يونس على شفتاها التي كانت مُلطخة بالدماء، فرفع إصبعه دون وعي ليمسحها ببطء وحينها شعر وكأن ماس كهربائي أصابه فتشنجت خلاياه بذلك الشعور الذي يكرهه، ذلك الشعور حينما تفور عاطفته بثوران حار يُهلكه..!
فارتد للخلف بسرعة مبتعدًا عنها يجاهد ما يخبره أن يستبدل إصبعه بشفتاه... ليبتلع ريقه الذي جف بصعوبة، ثم حاول السيطرة على نبرة صوته المبحوحة من فرط تلك العاطفة لتصبح ثابتة جادة وهو يخبرها: -نامي لو عاوزه تنامي شوية علشان دور البرد واتطمني هو مش هيجي هنا تاني.
اومأت ليال دون رد وبالفعل راحت لتجلس على الفراش بضعف وهي تشعر بحرارة جسدها ترتفع من جديد، فاقترب منها يونس خطوتان، يُحذرها من مدخل جديد يحاول الشيطان أن يتخذه سبيلًا لعقله: -بس لو طلع كلام ابوكي صح او دخولك حياتي له علاقة باللي حصل تحت ده يبقى متلوميش إلا نفسك لاني ساعتها قسوة ابوكي مش هتيجي شبر في اللي هتشوفيه مني يا ليال!
بينما في القصر... إنتهت أيسل من تجهيز حقيبة لملابسها، وهبطت من غرفتها في صمت تام، لازالت تلك القبلة المجنونة تغزو مخيلتها ليرتعش جسدها في خضم الذكرى، وقد ذابت كل خلاياها في حلاوة ذلك الشعور...!
وجدت بدر يقف جوار مريم التي لا تدري متى جاءت، ولكنها لاحظت ذراع بدر الذي يحيط كتفاها، تبًا له، ليس وكأنه كان يُقبلها منذ قليل وكأنه اخر شيء سيفعله في تلك الحياه!؟.. تجهمت ملامحها التي كانت مُنعشة بذكرى قبلتهم الجامحة، لتدير رأسها بعيدًا عنهم وهي تقول موجهة حديثها لوالدها بجمود: -انا جهزت فتدخلت فاطمة بملامح معقودة ونبرة حملت حزنًا واضحًا في طياتها: -برضو مصممة تبعدي عني يا أيسل.
فاقتربت أيسل منها لتحتضنها بقوة متمتمة بصوت خفيض حاني: -مش هبعد عنك ابدًا يا مامتي، ثقي فيا! فبادلتها فاطمة ذلك الحضن بحنان أكبر، بينما بدر تشنج جسده بغضب وهو يضغط على كتفا مريم دون أن يشعر، وقد قتلت أيسل اخر امل له كان يتعلق به حينما غادر غرفتها... وآآهٍ من تلك الذكرى القريبة التي لا ترحمه فتُعاد بعقله مرة بعد مرة ليشعر هو بداخله يتلظى بتلك العاطفة المُهتاجة...
آآهٍ من تلك الشفاه التي خُلقت له، خُلقت ليُقبلها ويحس بنعيم الجنة فيهما...!
وبالفعل غادرت أيسل مع طه وزوبه اللذان ارتسمت على شفاهما ابتسامة سعيدة منتصرة بينما طه يغمغم ببرود: -بالاذن ياست الحجه! بالاذن يا جوز بنتي ثم غادروا جميعهم لتتهاوى فاطمة جالسة على ذلك المقعد لا تستطع حمل جسدها، ثم بدأت تضرب على قدمها ببطء وهي تتساءل بحسرة وقلق: -إيه اللي ناوية تعمليه بس يا ايسل ربنا يهديكي.
فيما غادر بدر متوجهًا للغرفة التي يُقيم بها بالقصر، لتلحق به مريم، دلفت مريم للغرفة ثم أغلقت الباب خلفها لتهتف دون مقدمات: -جات الفرصة يا بدر فسألها بدر بلامبالاة: -فرصة إيه؟ لتجيب بثبات ليس بغريب عليها وهي تتحدث عن تلك الرغبة الانتقامية المجنونة:.
-فرصة إنك تروح لها المكان اللي هي رايحاه وتقولها إنك عاوز تتكلم معاها وتاخدها معاك الشقة بتاعتك وهتديها مخدر يخليها حاسه بكل حاجة حواليها بس مش قادرة تعمل أي حاجة وبعدين هتسيبها مع الراجل اللي هبعتهولك وهنطلب البوليس يجي ياخدهم في قضية اداب! ذلك التجمهر بالرفض عَلى داخل بدر، ليصمت لثوانٍ ثم قال بصوت بارد: -بس هي ماعملتش فيكي كده! رفعت مريم كتفاها ساخرة وهي تهز رأسها:.
-فرقت كتير؟ هي بس جات في الليلة المشؤومة اياها واخدت اختها من غير ما نعرف من الشقة المفروشة اللي كنا فيها، وسابتني انا في داهية وهي عارفة إن البوليس خلاص جاي وهربت اختها، وحتى منعت اختها إنها تيجي تشهد في القضية إني مكنتش أعرف إن دي شقة مفروشة وإننا كنا رايحين مع صحابنا عادي منعرفش اللي فيها، سابوني اتحبس ٣ سنين ظلم وكانوا قادرين ينقذوني من الظلم ده، سابوني أعاني ٣ سنين وأتبهدل وأتشوه في الوقت اللي أختها فيه سافرت برا مصر تكمل تعليمها!
ظل بدر يهز رأسه دون أن ينظر لها، لقد أصبحت رغبتها في الانتقام مرضية فعليًا!.. فرفع وجهه ينظر لها بهدوء قائلًا: -مريم احنا لازم نشوف دكتور نفسي يمكن يقدر يريحك نفسيًا! حينها إهتاجت فرائص مريم وهي تزمجر فيه بحدة: -انا مش مجنونة يا بدر، وقولتلك اللي هيريحني إني اخد حقي منها! فزفر بدر بعمق قبل أن يستطرد محاولًا تهدئتها: -طب اهدي، على الأقل خلي شوية وقت يفوت خليها تثق فيا عشان ترضا تيجي معايا.
إلتوت شفتاها بابتسامة ساخرة ماكرة وهي تخبره: -لأ متخافش هي واثقة فيك اوي وهتيجي معاك حتى على جهنم! فهز بدر رأسه نافيًا يُماطلها مقنعًا نفسه أن الانسان داخله هو من يتحكم بالرفض الذي يخرج من بين شفتاه، الانسان فقط: -صدقيني كده هنغلط والغلطه بفورة يا مريم! كزت مريم على أسنانها بعنف حتى اصطكت، لتردف بعدها بحدة والغضب يغلي داخلها: -لو مش هتنفذ يا بدر أنا هعرف اخلي غيرك ينفذ.
فنهض بدر حينها ليهدر فيها بنفاذ صبر: -دي مابقتش طريقة للكلام دي! ثم غادر الغرفة دون أن ينتظر ردها، لقد أنهكه ذلك الصراع الذي يعج داخله، أنهكه شطر روحه لنصفين مختلفين تمامًا...! بينما مريم تزم شفتاها وهي تهز رأسها بإصرار غريب والحقد يلمع بين حدقتاها: -ماشي يا بدر، براحتك اوي..
بعد فترة... كانت أيسل تتفحص ذلك الملهى الليلي بعينان تقطر اشمئزازًا وحقدًا، أهذا هو المكان الذي فضلوه على قطعة من روحهم؟!.. فيما اقتربت منها زوبه لتسألها بابتسامة بلهاء كسؤالها؛ -عجبك المكان يا أيسل؟ فالتوت شفاه أيسل وهي تقذف الحروف بوجهها قذفًا: -مكان مقرف! انتوا مستحيل تكونوا طبيعين! فإحتدت ملامح زوبه بالغضب وهي تسألها بغيظ دفين: -لما هو مقرف قررتي تيجي معانا ليه؟
لم تتردد أيسل وهي تخبرها بجمود وقد فاحت رائحة الكره من على ضفاف حروفها الفياضة: -جيت علشان أكرهكم اكتر، علشان لما شيطاني يوزني إني اتراجع عن كرهي ده افتكر المكان القذر اللي فضلتوه عليا ورميتوني في الشارع علشان تحافظوا عليه! فتنهدت زوبه بعمق قبل أن تقول ببرود: -هعتبر نفسي ماسمعتش حاجة من العبط اللي قولتيه ده، هاا هتبدأي شغل من امتى؟
لم تندهش أيسل كثيرًا، فقد رأت منهما ما يكفي حتى لا تنصدم فيهما مرة اخرى... فعقدت ذراعيها معًا وهي تملي عليها ما ستفعله بنفس البرود الجامد: -اولا انا مش هشتغل رقاصه ابدًا زي ما انتوا عاوزين، أنا هبقى زي المشرفة كده مش اكتر! اقترب منهم طه لتكمل أيسل متعمدة أن يسمع: -وكمان مش هبات معاكوا في بيتكم، انا هبات هنا واكيد محدش بيبات هنا كادت زوبه تنطق معترضة: -بس يا أيسل آآ...
ولكن طه قاطعها حينما رسم ابتسامة خبيثة باردة وهو يتشدق بـ: -اللي يريحك يا أيسل، هنسيبك تعملي كل اللي يريحك لحد ما تاخدي على الجو هنا لم يعترض، لم يقلق بشأن بقاءها في ذلك الملهى ليلًا وبمفردها، لم يقلق عليها ولو للحظة فلربما يأتي حرامي للسرقة ويقتلها مثلًا...؟! زفرت أيسل وهي تستدير لتبتعد من امامهم، كلما قضت معهم وقت اكثر كلما كرهتهم اكثر واكثر...!
في منتصف الليل وبعد مغادرة الجميع... لم تغفل عينـا أيسل ولو دقيقة، بل إتصلت بأحدى صديقاتها من الطبقة المخملية، صديقتها التي طلبت منها رجال لينفذوا ما خططت له..! أتاها صوت صديقتها بعد ثوانٍ: -ايوه يا ايسل -ها يا غدير هما جايين ولا إيه؟ -ايوه زمانهم على وصول متقلقيش -الرجاله دي ثقة يا غدير ولا ممكن يلبسوني مصيبة؟ -عيب عليكي ده بابي بيعتمد عليهم في كل حاجة -تمام شكرا اوي.
-العفوا بس متنسيش تطمنيني اول ما تخرجي من عندك -حاضر -باي -باي أغلقت الهاتف وهي تضعه بحقيبتها وبالفعل سمعت صوت بالخارج فأمسكت بحقيبتها وهي تسحبها للخارج، لتقابل بضع رجال فهتفت بثبات موجهه حديثها لقائدهم: -غدير قالتلكم هتعملوا إيه صح؟ اومأ الرجل مؤكدًا برأسه وقال: -ايوه متقلقيش يا هانم اتفضلي حضرتك بس -انا عايزاكم تدلقوا البنزين في كل حته بس متولعوش انا اللي هولع.
اومأ الرجل مؤكدًا برأسه وبالفعل إنطلق الرجال يسكبون البنزين في كل ركن من اركان الملهى بينما أيسل تتابعهم بعينان شامتتان، ستحرق ذلك المكان وتحرق معه قلوبهم الجشعة التي تعشقه...!
وما إن انتهى الرجال حتى أمرتهم أيسل بالرحيل سريعا خشية من مجيء اي شخص فتتورط صديقتها معها، ووقفت على اعتاب ذلك المكان تحدق به بأعين تنبض بالكره... وفجأه سمعت صوت يأتي من الخارج فاستدارت لترى رجلاً ما غريب تراه لأول مرة، فسألته بنبرة لم يخفى منها القلق: -انت مين وعايز إيه؟
لم يجيبها الاخر بل اقترب منها بسرعة وبلمح البصر كان يُقيدها بينما يداه الاخرى تغطي أنفها بقطعة قماش بها مخدر ليتسرب الوعي من بين قبضتا أيسل رويدًا رويدًا و...