رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع عشر
-انتي فين، انتي فين، رحتي فين يا حبيبتي!
كان يونس يغمغم بها وهو جالس ارضًا امام ذلك الدولاب، يشعر أن الوعي قد هجر عقله شيئًا فشيء، حتى لم يعد يُدرك أي شيء سوى تلك الأربع حروف، رحلت، كلما أعاد تلك الكلمة شعر أن كل حرف منها يسقط عليه ليجلده بقسوة، وكأن حتى الكلمة أقسمت أن تُعذبه وتُنذره بمرارتها، فالراء راحة لن يراها في غيابها، والحاء حياه أحكمت هي خيوطها وقوامها وحينما ذهبت إنسابت تلك الخيوط لتنهار الحياه، واللام لهب الفراق الذي إشتعل بين جوانب صدره ليكويه ببطء وقسوة، والتاء تووووق رهيييب رافق كل نبضة تصدر عنه ليُثقلها بعبئه ومرارته...!
كيف ترحل، ولمَ؟!، أوترحل بعدما نفض غبار الكره عن قلبه وأودعها إياه..؟!
نهض اخيرًا يهز رأسه نافيًا وكأنه استوعب للتو، فبدأ يردد بهذيان مرير: -لأ، مستحيل ليال تعملها، مستحيل تقرر تبعد عني فجأة بعد ما حبيتها مستحيل ثم اومأ مؤكدًا لنفسه: -اكيد في حاجة اكيد اقترب من الدولاب يفتش بكل ركن به رافضًا التصديق، تثاقلت أنفاسه حينما لم يجد اي شيء متبقي له من رائحتها... -ليااال...
همسها متأوهًا في أعماقه والألم لا يُحتمل، فمد يده دون وعي يتلمس بأصابع مرتعشة رف الدولاب الذي كان يحمل ملابسها والذي لمسته هي قبلاً، يتلمسه محاولاً معاودة الشعور بملمس أصابعها الذي أكتشف أنه كنعيم الجنة الذي حُرم منه مبكرًا، مبكرًا جدًا...
إبتلع ريقه ببطء وصعوبة شديدة وكأنه يحاول أن يتنفس، ثم قال مقنعًا نفسه التي بدأت تنهار بضرورة الصمود: -لأ، اكيد هلاقيها، مستحيل تكون سابتني لأ هلاقيها ثم استدار بسرعة راكضًا يغادر الغرفة ثم المنزل بأكمله دون أن ينطق بأي شيء لأي شخص، وكأن الشياطين تلاحقه، شياطين الفراق...!
كان بدر ساحبًا أيسل خلفه متوجهًا لمنزله ومنزل اهله في الماضي والذي يجاور منزل والد يونس قليلا، بمجرد أن رحل يونس من أمامهم مكملاً بحثه عن ليال دون أن ينطق او يخبر اي شيء بأي شيء، حتى استأذن قاسم وأخذ أيسل متوجهًا بها نحو ذلك المنزل ليُريها إياه ثم يعودا مبكرًا قبل غروب الشمس... ولم ينشغل بالهم بسؤال يونس الذي بدا لهم طبيعي نوعا ما..
بينما لاتزال أيسل متمزقة الأفكار، فكرة تنوح بالألم مُلحة عليها بالذهاب لترى والدتها، والاخرى صلبة كالسيف تُمزق الاولى بمنطق العقل الذي ينفي احتمالية ذهابها...! لا تدري أتخبر بدر ام ربما يمنعها من قلقه الطبيعي عليها وتخسر فرصتها الأخيرة في رؤية والدتها..؟!
إنتبهت لبدر حينما توقف ليخرج مفتاح ما من الحقيبة الصغيرة التي جلبها معه، حينها بدت أيسل وكأنها انتبهت للتو فقالت مستنكرة: -أنت جايب هدوم ليه هو أنت ناوي نطول هنا ولا إيه؟ انا مجبتش اي هدوم! فابتسم بدر مرددًا بمكر لم تلحظه أيسل بسبب غمامة التفكير التي حطت على عيناها: -لا متقلقيش يا حبيبتي منا عملت حسابي وجبتلك انتي كمان! فرفعت أيسل حاجبها الأيسل تسأله: -جبلتي ازاي هو أنت تعرف هدومي اصلاً؟
فرفع بدر كتفاه بثقة شابها الغرور المصطنع: -عيب عليكي هو انا اي حد، ثم ده مش محتاج ذكاء اكيد فيا عين بتشوف الطقم الكامل وبطلعه! اومأت أيسل دون أن ترد ليدخل بدر اولاً ثم اضاء اللمبة التي وجدها لاتزال تعمل لحسن حظهما، دلفت أيسل ببطء تتفحص المكان حولها بتركيز مستمتعة بتدقيق النظر لطرازه القديم، لتجده كبير المساحة، ليس مهجور تماما فيبدو أن هناك من كان يأتي كل فترة ليتفحصه...
بينما بدر كانت عيناه تدور في ذلك البيت، وعقله يتنفس تلك الذكريات الجميلة التي عاشها بين جدران ذلك البيت... أمسك بدر بالحقيبة وتوجه نحو احدى الغرف ليشير لأيسل مرددًا بهدوء: -يلا انا هدخل اغير هدوم الخروج عشان التراب.
وبعد فترة إنتهى من تبديل ملابسه لـ شورت وتيشرت نصف كم رياضي، فأخذت أيسل الحقيبة تخرج الملابس منها، لتجد أنه جلب فقط رداء طويل يصل لما قبل الركبة بقليل ولكن دون أن يأتي بالبنطال التابع له...! فإتسعت عيناها وهي تسأله متوجسة: -أنت ماجبتش البنطلون بتاع الفست؟ وتقولي مش محتاجة ذكاء وانا عارف! فضرب بدر جبهته يصطنع النسيان، ثم هتف متفاجئًا بمكر: -بجد! بتهزري ازاي مجبتوش انا فكرت إني حطيته!
-هعمل إيه انا دلوقتي! شكلها مفيهاش غدا هنا ولا أي حاجة من اللي قولتها قالتها أيسل متأففة بضيق وقد عقدت ما بين حاجبيها والغضب يلمع بين حدقتاها... ليقول بدر ببساطة أغاظتها: -محلوله يا حبيبتي، الفست طويل إلبسيه ومش مهم البنطلون يعني مش ازمة! فهزت أيسل رأسها نافية بسرعة تزجره: -مش مهم ازاي يعني يا قليل الادب، لا طبعا مش هينفع فلوى بدر شفتاه ساخرًا بحنق مُبطن:.
-ما انتي كنتي بتلبسي حاجات ضيقة واحيانًا عريانة قدام كل الناس، ولا هي جت على قرمط؟! فلوت أيسل شفتاها بانزعاج، بمجرد تخيلها أن تخرج أمامه ونصفها السفلي عاري لتتفحصها عيناه الوقحة ككله، تشعر بلسعة حارة بين نبضاتها تُضطرب كيانها كله...! هزت رأسها نافية وكادت تعترض ولكن بدر دفعها برفق نحو الغرفة واستطرد بضيق مصطنع:.
-يلا بقا يا أيسل متبوظيش اليوم لسه هننضف الدنيا وبعدين نشوي الدُرا ونتغدا واحنا بنتفرج على الغروب، انا مجهز يوم تحفه متبوظيهوش بقا وحياة امك فابتلعت أيسل ريقها موافقة برأسها على مضض، ثم سحبت اقدامها سحبًا نحو تلك الغرفة لتبدل ملابسها وبدر يتابعها بعينان ماكرتان والابتسامة الواسعة العابثة تتراقص على أطراف ثغره...
إنتهت أيسل وخرجت من تلك الغرفة وأصابعها تقبض بعنف على ذلك الرداء الذي وصل ما قبل ركبتاها، وكانت قد فردت خصلاتها الحمراء النارية على ظهرها... لا تدري ما كل هذا الاضطراب الذي يتملكها، فهي لطالما كانت ترتدي الملابس الضيقة، ولكنها ابدا لم ترتدي القصير امام اي شخص، وليس اي شخص، بل شخص ترى الشوق يُلهب سوداوتاه ليحرقه فيكتم هو آهات الشوق واللوعة هو بشق الأنفس...!
وما إن رآها بدر حتى أطلق صافرة وهو يهز رأسه مشاكسًا إياها بعبث صبياني: -نهارنا أبيض نهارنا فل إن شاء الله يا جنيتي فرفعت أيسل إصبعها في وجهه تحذره بصلابة واهية حكتها عيناها الزائغة بربكة فضحتها: -بدر لو مبطلتش حركاتك دي واحترمت نفسك صدقني هدخل اغير وهمشي! انا بقولك اهوه فرفع بدر يداه كعلامة على الاستسلام ثم أردف ببراءة تناقض العبث الذي استوطن عيناه: -انا عملت حاجة؟! انا هقعد ساكت بأدب اهوه.
ثم خفض نبرته حينما استدارت هي وأعطته ظهرها ليكمل وهو يتلاعب بحاجباه بعبث: -او قلة ادب ايهما اقرب!
ثم نهض وسار خلفها ليبدأ مهمة تنظيف المنزل، وبالطبع لم تخلو تلك المهمة من تذمر أيسل الطفولي كل حينٍ ومين، ومن مشاكسة بدر الصبيانية التي يخفي بها وحوش الشوق المهتاجة داخله وكأنها تود هدم ذاك الجدار الواهي بالثبات...!
بعد قليل، وقفت أيسل تهز رأسها نافية بإصرار: -لأ انا مش همسح مستحيل فهز بدر رأسه بعدم رضا ودهشة رسمها بمهارة: -يعني تبقى مراتي الغالية ست البيت معايا وانا اللي أمسح؟! عيب والله عيب، ده انا لو جبت عيله في ستة ابتدائي هتعرف تمسح فتأففت أيسل بضيق ثم لمعت عيناها بوهج التحدي الذي يرفض تمرير أي خسارة كانت عليه وقالت: -ماشي يا بدر على فكره انا بعرف بس انا مكنتش حابه أبهدل نفسي! -اه منا عارف.
تمتم بها بدر بسخرية خفيضة، لتحتد نبرة أيسل بغيظ: -انا بتكلم جد على فكره فأومأ بدر برأسه بسرعة مشاكسًا اياها: -طبعا طبعا امال! استدارت أيسل لتجلب الطبق وقطعة القماش التي ستبدأ بها مهمتها الشاقة، الشاقة جدًا بالنسبة لها.. وبالفعل أحضرتهم ثم بدأت تمسح محاولة ألا تتكئ كثيرًا حتى لا تظهر اقدامها البيضاء الناعمة أمام اعين ذلك المتربص الوقح...
وبعد قليل حينما إندمجت فيما تفعله، أشار لها بدر نحو ركن ما قائلاً بجدية تامة يتوارى خلفها العبث: -في حتة هناك اهيه يا جنيتي نسيتي تمسحيها فتحركت أيسل بتلقائية لتمسحها متناسية تمامًا ذلك الرداء الذي ارتفع اكثر فأكثر مسببًا داخل بدر إنفجار عنيف من العاطفة وكأنه دوي قنبلة جبارة مُهلكة في أعتى الحروب... فابتلع ريقه وهو يتحسس جبهته مغمضًا عيناه هامسًا بنبرة ملتاعة: -يا صبر ايووووب.
ثم إنتبه لأيسل وهي تسأله بنبرة بديهية عادية جدًا غافلة عما يعانيه ذلك البدر: -بدر بقولك إيه عايزين حبل عشان نربط الباب ده عشان كل شوية يتحرك وحاسه إنه ممكن يقع في أي لحظة اومأ بدر برأسه ثم تنحنح ليتجلى صوته فخرج مبحوحًا وهو يخبرها: -هناك في الاوضة دي انا شوفت حبل تقريبًا فنهضت أيسل متوجهة لتلك الغرفة التي كانت مغلقة ولم ينظفوها..
وقفت أيسل تبحث بين الادراج عن ذلك الحبل لتشهق متفاجئة حينما وجدت بدر فجأة يُحيط بها من الخلف وذراعاه قد امتدت لتحاوطها بينما تشعر بأنفاسه الساخنة عند رقبتها مباشرةً، فبدأ ذلك الخدر اللذيذ ينتشر مسيطرًا على كافة خلاياها، فحاولت إبعادها وهي تهمس بنبرة ملتعثمة: -بدر أنت بتعمل إيه آآ اوعي لو سمحت.
كان بدر مُقربًا أنفه عند خصلاتها الحمراء يتنفس بعمق ساحبًا عبقها المُهلك الذي يُسكره ليملأ به رئتيه، ثم إنتبه لمحاولاتها للتملص من بين ذراعاه فرفع ذراعه وهو يخبرها بصوت أجش: -بجيبلك الحبل يا جنيتي اهدي فاستكانت أيسل وخمدت حركتها إلا من تلك الرعشة العاطفية التلقائية التي لم تغادرها في قربه... وبالفعل أخرج بدر الحبل ثم ابتعد سنتيمتر واحد لتلتف أيسل وما إن استدارت حتى قالت بنبرة حاولت جعلها ثابتة:.
-ممكن بقا تبعد عشان اروح اكمل ثم كادت تسير متخطية إياه ولكنه جذبها من خصرها ليُلصقها به وهو خلفها، وكاد ينطق لولا أن قاطعه صوتها الهلوع وهي تخبره مشيرة بإصبعها نحو ارضية تلك الغرفة: -إلحق إلحق بسرعة يا بدر عقرب والله عقرب اهوه يا نهار اسود.
فنظر بدر بسرعة ليجد عقرب فعلا ولكنه كان يسير بعيدًا عنهم، فنظر بدر حوله ليجد حجر كبير ثقيل يمكن قتله به ولكنه قرر التلاعب واستغلال تلك الجنية التي تأبى أن ترحمه...
فأشار لها بإصبعه على فمه هامسًا بصوت خفيض جدًا قرب اذنها: -هششش متطلعيش صوت ومتتحركيش فامتثلت أيسل لأوامره كالطفلة تمامًا وداخله ينتفض ذعرًا من رؤية ذلك العقرب، ليستغل بدر الفرصة ويقترب اكثر من رقبتها يتشممها بأنفه، وآآه من رائحتها تلك التي يعشقها حد الادمان، فزاد توتر أيسل التي همست بصوت يكاد يُسمع وكأنها على حافة البكاء: -بدرررر أنت بتعمل إيه ما تروح تقتله فزجرها بدر بضيق وحدة مصطنعة:.
-الله، وتريني، وتريني اكتر وخليني مش مركز كده خليه يستخبى ومنعرفش نقتله ويطلعلنا فجأة تاني يموتنا ونخلص! فصمتت أيسل على مضض عاقدة ما بين حاجباها بتذمر كالأطفال تكاد تبكي..
فقرر بدر أن يترفق بها وبخوفها وبحركة مباغتة كان يلثم عنقها بعمق مرسلاً لها تلك الرجفة العنيفة التي تهز كيانها كله، ثم ابتعد قبل أن يعطيها فرصة النطق وأخذ الحجر وبدأ يقترب من ذلك العقرب بحذر حتى قتله بالحجر الكبير فجأة، حينها بدأت أيسل تتنفس بارتياح...
فسحبها بدر من ذراعها للخارج كالأطفال بعدما تخلص من ذلك العقرب، ليُحاصرها عن الحائط وهو يتشدق رافعًا حاجبه بمكر: -فين مكافأتي؟ فلوت أيسل شفتاها مستنكرة: -مكافأتك!؟ مكافأة إيه دي إن شاء الله هو أنت حررت فلسطين؟ ليهز بدر رأسه راسمًا على وجهه الجدية وهو يسألها: -عقرب ده ولا مش عقرب؟ فأكدت دون تردد: -عقرب ليعاود سؤالها: -بيموت ولا بيموت يا متعلمة يا بتاعت المدارس؟ فأجابت ايضا مؤكدة: -بيموت فسألها:.
-قتلته ولا ماقتلتوش وشوفتيني بعنيكي الحلوه اللي هياكلها الدود دي؟ فأجابت على مضض: -قتلته فصفق بدر بابتسامة واسعة مرددًا بزهو: -يبقى استاهل مكافأة، يلا وبسرعة عشان في ضريبة للتأخير على فكره! فهزت أيسل رأسها مانعة ابتسامتها من الظهور بصعوبة، متمسكة بأذيال قناع الغضب والترفع الذي كان تقريبا سقط عنها تماما اليوم في قربه..
فقال بدر بمكر يهاودها كطفلة صغيرة: -طب انا هسهلهالك وهاخد مكافأتي بنفسي فسألته أيسل بعدم فهم: -ازاي؟ ليرد بدر ببراءة ظاهرية: -هغمض عيني وبأمانة، وانتي هتبقي قدامي وهبوسك في أول حتة اقرب منها من غير ما اشوف رفعت أيسل حاجبها بغيظ من مكره وعبثه الذي لا ينتهي، وكادت ترفض ولكنها قررت التلاعب به قليلاً كما يفعل فأومأت برأسها موافقة بضيق مصطنع: -ماشي بس لو فتحت عينك مش هيبقى في اي مكافأة ولا اي نيله!
اومأ بدر مؤكدًا وبالفعل أغمض عيناه، ليسألها: -تمام كده؟ فأكدت أيسل بابتسامة واسعة: -ايوه، بس لو قربت على الهوا يبقى خلاص راحت عليك، وقدامك ٣ مرات بس اومأ بدر برأسه موافقًا وداخله يتيقن أن جنيته قررت أن تلاعبه قليلاً فوأد ابتسامته قبل أن تظهر، ثم اقترب فجأة من مكان وجهها ولكنها حركت وجهها بسرعة فجاءت قبلته على الهواء، لتتابع أيسل باستمتاع: -آدي اول واحدة راحت.
فتنفس بدر يدعو حظه أن يحالفه ثم اقترب فجأة مرة اخرى ولكن أيسل ايضا قتلت أمله حينما حركت رأسها فجأة لتبقى قبلته معلقة في الهواء، وفي الثالثة ايضًا تكرر نفس الشيء ليتزاحم الغضب داخل بدر الذي فتح عيناه ثم أمسك وجهها بين يداه مثبتًا إياه ليقترب بفمه منها فصاحت أيسل بذهول وصوت مكتوم: -بدر أنت هتعمل إيه آآ...
وضاعت حروفها بين شفتاه التي شنت هجومًا عاطفيًا عنيفًا على شفتاها المكتنزة التي أرقت منامه، كان يُقبلها بشغف حار وداخله يرتعش حرفيًا من حلاوة ذلك الشعور المُهلك بينما هي متخبطة وقد عاثت قبلته الفوضى داخل كل شبر فيها...
ابتعد بعد قليل سامحًا لها لتلتقط أنفاسها ويشاركه هو انفاسه اللاهثة، ولكن لم يعطها الفرصة فدفعها برفق بجسده نحو الفراش ليدفعها برفق فسقطت هي شاهقة تحاول منعه بتذمر وتوتر رهيب فرض سيطرته على فرائصها: -بدر لأ مينفعش أوعى ولكنه لن يتراجع، ليس بعد أن قامت تلك الوحوش التي تطالب بها بهدم سور ثباته الواهن، ليس بعد أن احترقت كل ذرة به تهدر مطالبة بها، بامتلاكها...!
فمال نحوها بأنفاس حادة ليمد إصبعه يبعد خصلاتها عن وجهها ببطء شديد، لتشعر أيسل بازدياد تلك الفراشات التي تداعب داخلها، فابتلعت ريقها وهي تهمس محاولة إيقافه: -بدر لو سمحت لأ، طب استنى عايزه اقولك حاجة مهمة فوضع بدر إصبعه على شفتاها التي اتضح عليها اثر هجومه العاطفي العنيف عليها، ثم قال بصوت أجش من فرط العاطفة: -هششش، كله كلام كلام، دول ماتخلقوش للكلام بس، في حاجات أحلى ومعناها أعمق بكتير من الكلام.
ولم يعطها الفرصة لنطق المزيد بل عاد يلتقط شفتاها بشفتاه ببطء ورقة، حتى ذابت شفتاها بين شفتاه وقد حرص هو أن يُذيب مقاومته الواهية، فما إن شعر بيداها تحيط عنقه دون أن تشعر حتى ازداد اهتياج مشاعره، فابتعد لحظة بأنفاس لاهثة يغمغم بهمجية عاطفية: -قولي إنك بتحبيني فلم تنتظر حروفها الاذن لتنساب من بين شفتاها بما نطق به قلبها قبل شفتاها: -بحبك، بحبك اوي وماحبتش ولا هحب راجل في الدنيا دي غيرك.
فأغمض بدر عيناه مستمتعًا بمذاق تلك الكلمة التي انتظرها كثيرًا، ليميل على وجهها موزعًا قبلاته على كل إنش به وهو يهدر من بين قبلاته: -قوليها تاني فعادت تكرر بصوت مبحوح: -بحبك، بحبك بجنون يا بدر فهمس هو بخشونة متأوهًا من أعماقه بلوعة: -آآه منك ومن حبك يا بنت السلطان!
ولم يعد للحديث بقية، غرقـا معًا بين أمواج العاطفة التي تقازفتهم من هنا لهناك والشوق يصاحبهما، فأصبحا روح واحدة في جسدان، تجمعهما مشاعر وعواطف فياضة لا تنتهي...
خرجت فيروز من غرفتها وخلفها والدتها التي عقدت ما بين حاجبيها بضيق تهدر فيها بضيق واضح: -يا فيروز خدي هنا مش بكلمك فاستدارت فيروز لتواجهها بجسدها متساءلة بحدة: -نعم؟ عاوزه إيه تاني من فيروز؟ لتسألها نشوى بتعجب من هجومها المفاجئ وابتعادها الدائم طوال اليومان السابقان عنها: -في إيه يا فيروز مالك؟ وبتبعدي عني ليه طول اليومين اللي فاتوا؟ في حاجة حصلت؟
فاض الكيل بـ فيروز فقررت أن تلقي بكل ما بجبعتها في وجهها باهتياج إتضح في نبرتها العالية: -لأ مفيش ابدًا، انا بس عرفت إن الست اللي مفروض امي هي اللي خططت عشان تبعدني عن الشخص الوحيد اللي قررت أتجوزه بهتت ملامح نشوى التي توقعت أي شيء إلا أن تعلم فيروز، فالتوت شفتاها وهي تحاول ايجاد اجابة مناسبة، واخيرًا هتفت بحروف مبعثرة تسألها: -مين اللي قالك الكلام ده يا فيروز؟
لترسم فيروز ابتسامة ساخرة مقيتة على شفتاها وأجابت: -للأسف محدش قالي ده انا اللي سمعتك بنفسي وإنتي بتتكلمي في التليفون إبتلعت نشوى ريقها بتوتر رهيب، ثم قالت تستجدي عطفها فأكثر شيء يوترها أن تخسر ابنتها الوحيدة: -فيروز صدقيني انا عملت كده عشانك، عشان يونس مش شبهك وانتي مش شبهه، صدقيني حياتك كانت هتبقى معاه جحيم فصرخت فيها فيروز بأعصاب مستنفرة:.
-الجحيم اللي بجد اللي انتي عملتيه فيا، دي حياتي انا، انا اللي هعيشها مش انتي، انا ادرى باللي هيريحني ويتعبني فهزت الاخرى رأسها نافية بسرعة: -صدقيني انتي اعجابك الشديد ليه عاميكي عن الحقيقة لتضرب فيروز صدرها ناحية قلبها، وتزمجر بجنون وكأنها تخبر نفسها اولاً: -ده مش مجرد اعجاب، انا بحب يونس، بحبه جدا وانتي حرمتيني من الشخص الوحيد اللي حبيته.
لتهز نشوى رأسها نافية، فهي تحفظ ابنتها كخطوط يدها، ولم ترى يومًا شعلة العشق تستقر بين ثنايا عيناها ابدًا... لذا تابعت بصوت هادئ رغم اضطرابه التلقائي لتحبرها:.
-لأ يا فيروز مش حب، ده وهم انتي اقنعتي نفسك بيه، لو بتحبيه بجد كان قلبك هيوجعك بعد اللي حصل، لكن انا شوفت واحدة كرامتها هي اللي وجعاها ومش شايفة غير كرامتها اللي اتداست بس، لو بتحبيه كنتي هتحاولي تخلقي اي عذر ليه وهتصدقيه حتى لو كل الدنيا مكذباه، لكن انتي كرامتك ماسمحتلكيش إنك تحاولي تصدقيه ولو شوية! ده مش حب يا فيروز، انتي يمكن شوفتيه الشخص المناسب ليكي بس، جنتل مان زي ما بقوله لكن للاسف اختيارك مش صح.
هزت فيروز رأسها نافية وكأنها تناطح كل حرف خرج من والدتها لتمنعه من التسرب لنقطة الاقناع داخل عقلها... ثم بدأت تردد بصوت أجش حانق: -لأ مش صحيح، انا كنت موجوعة من الاتنين كرامتي وقلبي، ثم إن انتي مش هتعرفي احساسي اكتر مني ثم تعلقت اشباه الابتسامة الساخرة بفمها وهي تكمل: -يا مامي وكادت ترحل ولكن نشوى أمسكت ذراعها تستوقفها بصوت عذب هامسة: -خلاص يا فيروز حقك عليا، انا امك برضو يا فيروز مهما حصل.
لتتشدق فيروز في تهكم مرير: -دلوقتي لاحظتي انك امي؟ كانت فين الامومة دي وانتي بتعملي اللي عملتيه؟! لتزفر نشوى بعمق قبل أن تسأله وتخيل الاجابة يفزع دواخلها: -طب انتي عايزه إيه يرضيكي يا فيروز؟ كادت فيروز تنفي رضاؤوها بأي شيء، ولكن نظراتها تركزت قليلا وكأنها وجدت النقطة التي ستستغلها في خطتها الشيطانية لاسترجاع يونس، فتنحنحت وهي تسألها مفكره: -في حاجة هتريحني وهي إني ارجع يونس ليا.
فضيقت والدتها عيناها وهي تستفسر: -هو رفض يسمعك لما حاولتي تتكلمي معاه؟ لترتعش شفتا فيروز بقهر وذلك الشعور المقيت بالرفض يمرر حلقها، ولكنها قررت بصقه والثأر لكرامتها المهدورة على يد تلك اللعينة ليال... فابتلعت تلك الغصة في حلقها وهي تقول:.
-رفض يسمعني وقالي بطريقة غير مباشرة عشان ميجرحش مشاعري إن انا وهو خلاص اللي بينا انتهى وإن ده نصيب وإن ست ليال هي نصيبه وقالي محاولش اشوفه تاني! قالي انا كده بعد ما كان بيترجاني عشان اقابله! ثم عاودت تركيزها لما كانت تفكر فيه: -المهم، جمال خد ايه مقابل اللي عمله؟ فأجابتها والدتها بصدق: -انتي عارفة حلمه إنه يسافر برا مصر وانا ساعدته وسفرته فسألتها فيروز: -اكيد تعرفيله رقم هناك -اه اكيد فسارعت الاخرى:.
-طب هاتيه -تمام هو على موبايلي اهوه بس ليه؟ استطردت نشوى وهي تمسك بهاتفها تحاول فهم تفكير ابنتها، فردت فيروز بنبرة مُبهمة خبيثة: -هصلح اللي انتي عملتيه يا مامي!
بعد ساعات... وصل كلاً من بدر وأيسل لمنزل قاسم البنداري بعد أن إتصل بهم قاسم ليسألهم عن اخر وقت رأوا به ليال وأخبرهم عن حالة يونس المزرية وهو يبحث عن ليال طيلة اليوم في كافة انحاء البلدة...
وما إن وصلوا حتى توجه بدر ناحية عمه قاسم يسأله بقلق واضح: -ازاي يعني مش لاقيينها يا عمي هي طفلة؟ فضرب قاسم على فخذاه بقلب معطوب من الألم: -معرفش يابني والله، يونس لسه جاي وحالته مش طبيعية ابدا ولسه قايلي إنه مش لاقيها وإنه كان بيدور عليها طول النهار فسأله بدر مسرعًا: -طب فين يونس يا عمي؟
ليجيبه قاسم بقلة حيلة وهو يضرب على فخذاه بحسرة على حال ولده الذي ما إن هم بامساك خيوط السعادة وجدها فرت فرًا من بين يداه: -فوق طلعته بالعافية يهدى ويرتاح شوية، اطلع شوفه يا بدر خليك معاه الله يرضى عنك اومأ بدر مؤكدًا برأسه، ثم إنطلق متوجهًا بسرعة نحو غرفة يونس...
بينما داخل الغرفة كان يونس جالس على فراشه، يتحسسه بشرود تام، يتلمس المكان الذي كانت تنام فوقه، كم من آآه متوجعة كتمها داخله حتى إختنقت أنفاسه... لقد بحث عنها في كل مكان يمكن ان تذهب له ولكن النتيجة واحدة، وكأن القدر يُصر على كي قلبه الذي أدرك العشق ومرارته لتوه...!
كلما تذكر كل مرة كان يخبرها بها أنه لا يتمنى سوى أن تخرج من حياته نهائيًا شعر بتلك النغزة القاسية تستبيح قلبه بألم رهيب يفوق احتماله، يلعن لسانه الذي نطق بهذا الكلام، ويلعن قسوة قلبها المفاجئة التي طعنته بها دون مقدمات لتتركه شريد كفقيد والدته...! دلف بدر ببطء مرددًا اسمه بنبرة قلقة مُشفقة: -يونس فنطق يونس بصوت مختنق ونبرة مكتومة: -لو سمحت يا بدر سيبني لوحدي انا مش قادر اتكلم.
كاد بدر ينطق معترضا ولكن تشنج جسد يونس وهو يعطيه ظهره وكأنه لا يحتمل حتى مجرد النطق، جعله يبتلع اعتراضه وهو يومئ موافقا برأسه على مضض: -طيب يا يونس اللي يريحك، ولو احتاجتني انا تحت اومأ يونس برأسه دون أن يرد، فغادر بدر بالفعل...
بينما في الاسفل يسأل قاسم أيسل التي جلست بصمت تعض على شفتاها بعدم تصديق: -انتي اخر مره شوفتيها او اتكلمتي معاها امتى يا بنتي؟
لتتذكر أيسل اليوم السابق... بعد أن رأت ليال يونس مع تلك اللعينة فيروز صعدت متوجهة لغرفتها فقابلتها أيسل التي إنتبهت لما يحدث فقالت بنبرة هادئة: -ليال، رايحة فين كده؟ حاولت ليال تناسي غضبها وهي ترد: -طالعة اوضتي مضايقه شوية لتسحبها أيسل من ذراعها برفق تتودد لها: -طب ما تيجي نقعد مع بعض بدل ما انا قاعده لوحدي لحد ما بدر يرجع اومأت ليال موافقة على مضض وتوجهتا معًا للغرفة التي تقيم بها أيسل مع بدر...
جلستا على الأريكة وملامح ليال معقودة بضيق نتج عن شعور الغيرة المقيت الذي يمزق احشائها، لتسألها أيسل بدهاء: -انتي مضايقه عشان هو واقف مع البنت دي صح؟ اومأت ليال مؤكدة دون مقدمات، لتسألها أيسل بهدوء، تود أن تتقرب لليال اكثر، فاليومان السابقان أكتشفت بهما أن ليال صديقة لا تعوض: -طب هي مين دي اصلا وجايه ليه؟
فلم تبخل ليال وأفصحت لها بكل شيء منذ بداية تعارفها بيونس طبعًا مع عدم البوح بمن اتفقت معها لتفعل ما فعلت واحترمت أيسل رغبتها فلم تسألها... ولكن ابدًا لم يعجبها ضعف ليال امام مشاعرها، فراحت تخبرها بنبرة هادئة حملت غيظًا مُبطنًا: -ليال طريقة تعاملك مع يونس غلط خالص، انتي لغيتي كرامتك من الحسبة نهائي فمترجعيش تلوميه على ده فتنهدت ليال وعيناها تغيم بمشاعر فياضة أغدقتها وهي تردف بصوت واهن:.
-عارفة، لكن انا السبب عشان يكرهني انا اللي اديته السبب لكرهي فـ ازاي هلومه دلوقتي! انا كنت عارفة إن ده اللي هيحصل في الاخر ولازم استحمل فجابهتها أيسل بقوة: -انتي السبب بس مش هتقعدي عمرك كله تكفري عن ذنبك ده، انتي تصرفك غلط لكن برضو كرامتك مفروض تكون فوق كل حاجة، انتي جوهرة يا ليال ومينفعش حد يدوس على الجوهرة دي تحت مسمى الحب!
فتهدجت نبرة ليال وهي تلقي بالمبررات التي تزاحمت بعقلها دوما تدفعها لعدم الاستسلام: -بس برضو لازم اتمسك بيه يا أيسل، لو كل حد فكر في كرامته بس يبقى الحياه مش هتمشي احيانا لازم نيجي على نفسنا عشان اللي بنحبهم ثم اخذت نفسًا عميقا وتابعت:.
-كل ما بفكر ابعد عنه واقول انا تعبت، بخاف، بخاف اعيش طول حياتي ندمانة على قراري ده، بخاف اتوجع في بُعده اكتر من وجعي في قربه، لما بفكر اني خلاص مش هشوفه تاني بحس إن خلاص كده مفيش اي حاجة ليها معنى، وإن الحياه الحلوة اللي كنت مخططة ليها في حضنه خلاص مش هعيشها ابدا، يونس كان اخر امل ليا في حياه جديدة يا أيسل.
تنهدت أيسل ولم تعلق وهي تسمعها، ربااه، ذلك العشق توغل لأعمق نقطة داخلها مهلكا كافة دفاعاتها وحصونها وقوتها ليجعلها مجرد ورقة في مهب ذلك العشق يحركها كيفما شاء..!
لم تكن مثل أيسل، تسمح للعشق في التوغل داخلها ولكن لم تسمح أبدا أن يهدم السور الشاهق الذي يحاوط كرامتها كأنثى...! ربتت أيسل على كتف ليال لتشعرها بالدعم المعنوي الذي لطالما حُرمت منه، ثم استطردت بخفوت: -ربنا يكتبلك اللي فيه الخير دايما يا ليال، بس خلينا بقا نعيد علاقتكم من اول وجديد، نعرفه إنك مش حاجة مضمونة دايما وإن كرامتك لازم مايتعدهاش، لازم زي ما انتي قوية في كل حاجة تبقي قوية قدامه كمان!
فأومأت ليال مؤكدة برأسها وهي تبتسم لها بحنو...
عادت أيسل من شرودها، والأفكار ترميها من جانب لآخر لا تفقه اي شيء مما يحدث وقاسم لم يكن احسن حالا منها...
صباحًا... لم تغفل عينا يونس ولو لحظة، لقد هجره النوم كما هجرته لياله القاسية... هب يونس منتصبًا حينما سمع صوت هاتفه يعلن عن وصول رسائل على الواتساب ففتحها بسرعة عله يجد اي خبر عن ليال... وبالفعل كان الخبر عن ليال ولكن لم يكن كما توقع، بل كانت عبارة عن صور لــ ليال بين أحضان جمال اللعين وبأوضاع جعلت عقل يونس كالمفرقعات الحارقة... وفي اسفل الصورة رسالة قضت على المتبقي من تماسكه.
كفاية انا خلاص مبقاش عندي القدرة استحملك أكتر، انا مابحبكش يا يونس، انا بحب جمال، وقعادي في بيتك رغم معاملتك الزبالة كان مجرد تكملة للخطة عشان أضمن إنك تحبني وتقريبًا كده انا نجحت، اتمنى ماشوفكش تاني ابدا... الصدمة شلت عقله، ليال، ليال هجرته من أجل جمال؟!
رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس عشر
لحظات شعر فيهم يونس أن الزمن توقف عند تلك النقطة، وكأن اللاوعي محى ما قبلها وما بعدها من حروف...! وكلما كاد يصدق، يستوعب، يشعر أن داخله يتلوى ليبصق ما رأى خارج حدود العقل رافضًا إياه...
عاد ينظر لتلك الصورة والرسالة وكأنه يرجوها أن تحكي له حقيقة ستتحكم بمكاييل حياته حرفيًا، وهي لم تبخل عليه، بمجرد أن نظر لها لدقائق اخرى اُنعش عقله بذكرى ليال، لياله هو، وهي تتوسل حبه حرفيًا، وإن كان لسانها يكذب فعيناها مستحيل، يُذكر جيدًا تلك النظرات التي اقتاتت على السور الحاد الذي بناه داخله ليحجز بينه وبين مشاعره فدمرته رويدًا رويدًا...!
حينها نهض كمن لسعته أفعى يهز رأسه نافيًا وهو يُعلن ما توصل له عقله: -مستحيل، مستحيل ليال تعمل فيا كده، مستحيل تكون خاينة لأ مش ليال.. وتلك الكلمات كانت المفتاح لعودة عقله لرشده، لردع هالة اللاوعي عن اطراف عقله ذاك... فما إن نظر للهاتف بيده مرة اخرى حتى ألقاه بعنف على الفراش وهو يصرخ بغضب أهوج: -كدابين، مستحيل أصدق ثم بدأ يمسد جبهته وكأنه يحاول إنعاش عقله، ويردد متسائلاً بتوتر وقلة حيلة:.
-هعمل إيه، هعمل إيه ياربي هوصلها ازاي إرتفعت نبضته الفزعة حد السماء وهو يدرك أن ليال قد تكون غادرت مُجبرة، او مخطتفة!
ماذا عساه يفعل، لأول مرة يشعر أنه مُكبل حرفيًا، مُكبل من كل جانب حتى بات النفس الذي يسحبه لرئتيه يسقط داخله كالمطرقة فيؤلمه، يؤلمه جدًا...
واول شيء قفز لعقله هو معرفة مَن صاحب ذلك الرقم لربما يكون هو نفس الشخص الذي إختطفها، فاتصل به مسرعًا ولكن كما توقع لم يرد على مكالمته ثم أغلق الهاتف بكل بساطة..!
دار يونس في الغرفة حول نفسه كالليث الحبيس وافكاره تزأر لا لسانه، ثم همس بصوت مكتوم مختنق مفكرًا: -طب لو مفيش قطر مسافر للقاهرة لا النهارده ولا بكره، وكمان الاتوبيسات لسه مفيش النهارده، يبقى أكيد هي لسه هنا في البلد في أي بيت! خرج من غرفته كالسهم الذي إنطلق من قوسه مشتعلاً بينران الفراق الضارية... ليقف بدر وقاسم مسرعان ما إن رأوه، فهتف يونس على عجلة:.
-بقولك إيه يا حاج انا عايز رجاله يدوروا على ليال هديهم مواصفاتها في البلد كلها، يسألوا كل الناس فجذب قاسم عصاه ليتحرك ورياح افكاره تهب نحو اول هاوية بعقله، ليتابع بصوت أجش متردد: -بس الناس يا يونس تقول إيه لما يعرفوا إننا بندور على مراتك وإنك مش لاقييها ومش هنخلص من القيل والقال ليهدر يونس بعنف ولكن نبرته مكتومة احترامًا لوالده:.
-ملعونة الناس، انا مراتي ممكن تكون مخطوفة يا حاج انا مش هستنى لما تبعد عن البلد خالص، واقعد ادور عليها في مصر كلها بدل ما ادور في البلد بس ويبقى فكرة إني هلاقيها إبرة في كومة قش! حينها تدخل بدر مؤيدًا يونس وقد أدرك النار التي تحرق داخله شيئًا فشيء وتزداد سعيرًا كلما زاد وقت الفراق: -يونس معاه حق يا عمي فتنهد قاسم وهو يومئ برأسه في هدوء:.
-ماشي يا يونس اللي تشوفه، هناديلك الرجالة كلهم دلوقتي يبقوا تحت طوعك وبالفعل تعالى صوته وهو ينادي رجله الخاص والذي بدوره جلب باقي الرجال، لتعود عجلة البحث عن ليال تنطلق من جديد...
بينما وفي مكان آخر في نفس البلدة... في شقة قديمة ضيقة نوعًا ما وشبه مهجورة، تحديدًا في غرفة داخل تلك الشقة... جلست ليال على الفراش داخل الغرفة تضم قدمها لبطنها وتحاوطها بيدها...
واللون الأصفر الذي يصاحب الإنهاك قد بهت على كافة خطوط وجهها الأبيض، تجلس وحيدة، شريدة، معطوبة القلب، مُنهكة القوى، مكتومة الصوت ولكن صاخبة الفكر، قلبها ينوح صارخًا بلوعة الشووق لصاحبه، وعقلها متأجج بالغضب الذي يكاد يودي به لحافة الجنون حرفيًا...
لتتذكر اليوم السابق يوم اختفائها...
صباح يوم جلوسها مع أيسل، خرجت من غرفتها قبل استيقاظ يونس، فلم يكن النوم صاحبها تلك الليلة، كانت كلها عزم على إعادة تنظيم الحجارة التي ترسخت عليها حياتها هي ويونس، ولكنها لم تفكر ابدًا في الابتعاد عنه، كانت ستشد من قوامها اللين بعاطفتها الفياضة ولكن جواره، ستخبره أنها تود الابتعاد عنه وتأتي ليلاً لترتمي بين أحضانه لتُكذب لسانها، كانت ستقابله بوجه عابس وتنفي اهتمامها به بينما جسدها كله ينبض بالشوق لمجرد محادثة عابرة فحواها صباح الخير...!
كانت وكانت وكانت، حزمت تلك المخططات وبلحظة أتت تلك العاصفة المقيتة المُسماه بوالدها لتبعثرها، وبكل بساطة، ليفرض خططًا جديدًا إنتشلها من بين بقاع حقده الذي لا يزول...
فحينما توجهت لحظيرة الخيل وجلبته لتخرج به متوجهة لنفس المكان الذي اخذها له يونس سابقًا، توقفت شاهقة بعنف حينما ظهر والدها من العدم يجذبها من ذراعها هاتفًا من بين أسنانه: -يلا اتحركي معايا فردت ليال مصدومة مذعورة: -بابا! انت بتعمل إيه، أنت كنت مراقب البيت؟ فشد حامد من قبضته على ذراعها قاصدًا إيلامها وكأنه يذكرها ثم زمجر بصوت خفيض حتى لا يسمعه اي شخص:.
-امال كنتي مفكراني هسيبك يا فاجرة تعيشي في بيت ال ده هو وابنه؟! لتهز ليال رأسها نافية بسرعة تحاول نفض يده عن ذراعها: -لا انا مش هروح معاك في حتة، انا مراته مش خطيبته عشان تبعدني عنه وينتهي الموضوع -هطلقك منه غصب عنه وعن اهله.
رددها حامد بنبرة مقيتة كرهتها ليال فوق كرهها كرهًا، فسحبها حامد وبسرعة تجاه سيارة، لتنتفض كل خلية بـ ليال بالفزع وهي تحاول تحرير ذراعها بينما تحذره بتهديد مُصطنع حاولت رسمه رغم توتر ملامحها: -لو ماسبتنيش دلوقتي هصوت والمرادي مش هيسكتولك فهزها حامد بعنف وهو يزمجر فيها بغيظ شابه الجنون والشر الدفين:.
-صوتي، انا نفسي تصوتي، صوتي عشان يجي المحروس اللي انتي متجوزاه وابوه وساعتها مش هديهم فرصة وهاخد روحهم هما الاتنين حتى لو هموت فيها! وقد كان صادقًا، لم يكن يُهدد ولم يكن يزعم ما يقول بل رأت ليال الحقد داخل حدقتاه كشهاب ملتهب وسط عنان السماء وقد اوشك على الانفجار ليدمر كل شيء... فهزت رأسها بصوت مبحوح شبه متوسل: -لأ انت مش هتعمل كده ليخبرها حامد بلامبالاة وببساطة اجزعت عقل ليال:.
-انتي اللي في ايدك تحددي، لو لميتي نفسك ومشيتي معايا مش هيحصل انما لو نشفتي دماغك وحبيتي تعمليها فضيحة يبقى زي ما تحبي! ابتلعت ليال ريقها وهي ترمي نظرات ضائعة تجاه المنزل، مشطورة هي نصفان احدهما مرتعد قلقًا على ما قد يحدث لمالك القلب والروح ووالده ايضًا، والاخر متوسل مفزوع يأبى العودة لحياه سوداء يُنذرها بها حامد وربما لن ترى يونس ثانيةً...!
سحبها حامد بعنف حتى زجها داخل السيارة وهي تقدم قدم وتؤخر الاخرى، تشعر بقبضة مُميتة تعتصر قلبها ولكن ماذا عساها تفعل... عادت ليال لواقعها على صوت الباب يُفتح، وما إن رأته حتى تذكرت ذلك السؤال الذي ألح على عقلها كثيرًا، مَن ساعد والدها ولمَ؟!..
للحظات توقعت أن تكون فيروز، ومَن غيرها، ولكن التردد لم يتركها... تقدم منها والدها يحمل بيده صينية طعام لا تحتوي سوى على فول و خبز ليضعه أمامها وكأنه يرميه رميًا، ثم قال بنبرة مزدردة: -امسكي اطفحي ولو إن خسارة فيكي الطفح حتى فخرج صوت ليال متهدجًا مُرهقًا وهي تتوسله بمرارة: -أنت ليه بتعمل فيا كده ارحمني سيبني في حالي! فارتسمت تلك الابتسامة الشامتة على ثغر حامد وهو يخبرها:.
-اسيبك فين، عايزه ترجعي للبيت ال ده تاني، بس على العموم اصلاً المحروس هو اللي زمانه بيلعنك ومش عايز يشوف خلقتك تاني بعد ما ملاقاش هدومك وفكر إنك هربتي مع عشيقك لتتقهقر نبرة ليال للاختناق المصاحب للبكاء: -حرام عليك بقا والله حرام اتقي الله شوية فشدها حامد بعنف من حجابها المتهالك وهو يصرخ فيها بغيظ:.
-حرام عليا انا؟! انا كده مش برحمك يا بنت ال والزبالة اللي دمر شرفي وشرفك هو اللي بيرحمك! انتي إيه مبتحسيش حيوانة زي امك!؟ فهدرت ليال بصوت عالٍ حاد رغم بحة صوتها: -ملكش دعوة بماما وماتجبش سيرتها فدفعها حامد بعيدًا عنه بقوة هازًا رأسه بسخرية قاسية: -قال يعني جبنا في سيرة قديسة، دي ملعونة وزمانها في جهنم إن شاء الله.
ففرت تلك الدمعة الحارقة التي طال حبسها في عيناها، لتتدحرج على وجنتاها وهتفت فيه بنبرة مُعذبة مختنقة: -حرام عليك أنت إيه، دي لو يهودية ماكنتش هتحقد عليها كده، طب ده حتى الرسول قال اذكروا محاسن مواتكم! ليصفعها حامد دون مقدمات بعنف وهو يغمغم مستهزئًا والحقد يفوح من نبرته:.
-لا وانتي تقية أوي يا حيلة امك، انتي زبالة زي امك بالظبط، اللي تقبل تعيش مع واحد اغتصبها تبقى مبتحسش ومينفعش تعيش، اللي تروح تعيش في بيت عشيق امها اللي كان سبب في دمار حياة امها وابوها تبقى بنت جاحدة فجن جنون ليال وهي تزمجر فيه بهيستيرية: -اسكت، عمو قاسم مش عشيقها، ويونس معمليش حاجة حقدك هو اللي اوهمك بكده والتعبانه اللي بخت سمها في ودنك فدفعها حامد بعنف على الفراش وهو ينهض مرددًا بنبرة غليظة آمرة:.
-اخرسي يا بت واطفحي يلا عشان هنسافر الفجر ونرجع لحياتنا وساعتها هربيكي من اول وجديد ثم أشاح لها بيده مكملاً: -ولا عنك ما طفحتي ياكش تغوري من حياتي واخلص منك ومن قرفك.
ثم غادر بعنجهيه كما أتى، وذلك الأنين الذي كان مكتوم بين ثنايا قلبها تصاعد وتصاعد حتى أصبح طنين حاد في تلك اللحظات لا يجعلها تفقه شيء من تلك الدنيا سوى تلك النغزة القاسية بمنتصف قلبها وكأن احدهم يثقبه بمِفك حاد الأطراف..!
وبعد قليل استثار إنتباهها صوت طفل يأتي من خارج الغرفة خلف تلك الشرفة، فركضت بجنون كمن يبحث عن بصيص نور وسط كهف من الظلمة، فتحت تلك الشرفة بسرعة لتجده مُغلق بحديد خارجي ولكن ذلك لم يمنعها رؤية ذلك الطفل الذي كان يقف أمام الشباك يعبث بهاتفه وهو يحدث احدهم دون أن ينتبه لليال...
فهمست ليال بسرعة وبصوت راجي: -بقولك إيه يا كابتن يا صغير انت فنظر لها الطفل وهو يرفع رأسه بشموخ صلب: -انا مش صغير! لتسارع ليال بابتسامة باهتة متهالكة رسمتها بمهارة: -طبعًا مش صغير انت احلى راجل شوفته، ممكن اطلب منك طلب؟ فاتسعت ابتسامة الاخر بزهو وسألها: -عايزه إيه؟ فردت ليال بلهفة: -عايزه اتصل بحد من تليفونك دقيقة واحدة بس.
فزاغت عينـا الطفل بتردد ولكنه مد يده لها بالهاتف وهو يخبرها بصوت منخفض وكأنه اخطر سر بالعالم: -خدي بس بسرعة عشان ماما لو عرفت هتزعقلي! اومأت ليال مؤكدة برأسها، لتلتقط الهاتف وتكتب رقم يونس الذي تحفظه عن ظهر قلب ثم إتصلت به تدعو الله ألا يتأخر في الاجابة، وبالفعل استجاب الله دعائها فسمعت صوته الذي اشتاقته حد الهلاك وقد بدا مُرهق وهو يقول: -الووو فخرج صوتها مكتومًا مبحوحًا وهي تخبره بسرعة:.
-انا ليال يا يونس، يونس انا مهربتش بابا اخدني غصب عني بالله عليك إلحقني يا يونس وصلتها بوضوح تلك التنهيدة الملتوية بألم والتي خرجت من أعمق نقطة داخله وهو يهمس بابتسامة لم يدري أنها تسللت لثغره: -ليال؟ انتي كويسة يا ليال؟ انتي فين؟ لترد ليال بسرعة: -اخدني على جمب مسجد اسمه في البلد لسه مخرجناش منها، تعالى بسرعة والنبي يا يونس.
-طيب طيب متقلقيش هجيلك حالاً يا نور عيون يونس انتي اهدي بس ربع ساعة وهبقى عندك اومأت برأسها بسرعة مؤكدة وكأنه يسمعها، وكلماته تخترق صميم قلبها لتهدئ من لوعته، ثم أغلقت الهاتف لتعطيه لذلك الطفل بابتسامة ممتنة: -شكرا، شكرا اوي اوي يا حبيبي فانتشل الطفل الهاتف من يدها وهو يركض مجيبًا: -العفوا.
وخلال وقت قصير بالفعل كان يونس قد وصل ومعه بدر وبعض رجاله وعناصر من الشرطة الذي لم يتركه والده قاسم ليذهب سوى مع الشرطة...
طرقات عنيفة ترددت على باب ذلك المنزل ليتأفف حامد بضجر وهو يتجه للباب ليفتحه: -ايوه جاي في إيه هي القيامة قامت!؟ وما إن فتح الباب إرتد للخلف بقوة مأخوذًا برؤية عناصر المركز برفقة يونس وبدر وبعض الرجال، ليهتف بنبرة متلجلجة: -في إيه انتوا عايزين إيه؟ فانقض يونس عليه يمسكه من تلابيبه صارخًا فيه بأعصاب مُستهلكة: -عايز مراتي اللي خطفتها، فين ليال؟ فدفعه حامد بعنف بعيدًا عنه وهو يقول بصوت حاول جعله ثابت:.
-معرفش، هي مش المحروسة كانت في بيتك حينها سمعوا صوت ليال تستنجد بلهفة: -انا هنا يا يونس فركض يونس دون أن ينتظر لحظة أخرى نحو الغرفة، بينما اقترب الضابط من حامد ليكبل يده وهو يستطرد بلهجة رسمية: -حضرتك مُتهم في محضر رسمي بخطف مدام ليال زوجة الاستاذ يونس البنداري بهتت ملامح حامد بالصدمة وهو يحاول إيجاد ثغرة لتنجده من بين براثن سجن يلوح له مقتربًا منه، ولكنه عجز...!
بينما في الداخل كسر يونس ذلك الباب اللعين المتهالك الذي كان مغلقًا على ليال، هرع نحوها بكل اللهفة التي في الكون ليحتضنها بكل قوته وكأنه يود زرعها بين ضلوعه حتى لا تختفي عن عيناه مرة اخرى... بينما هي بدأت تبكي بهيستيرية وهي تتشبث بأحضانه اكثر، وكأن كل ما كانت تكتمه قد تفجر في ملاذها الوحيد من تلك الدنيا، ويونس قد شعر أن روحه قد عادت له بعد أن هجرت جسده لتتركه خاويًا...
مغمضًا عيناه يدفن وجهه عند رقبتها يتشمم رائحتها بجنون وهو يهمس بأسمها في لوعة واضحة للأعمى وببحة خاصة: -لياال... وصلتها بوضوح تلك الآهه المتحشرجة التي أطلقها من أعماقه وكأن أعتى الوحوش التي كانت تهلكه قد تحررت اخيرًا... لم يشعر في فقدان احدهم كما شعر حينما تخيل أنه فقدها للأبد، ربااااه، اشتاقها حد الجنووون، اشتاقها كما لم يشتاق أي شخص..!
ابتعد عنها قليلاً لترفع هي رأسها وبنبرة باكية وهي تمسح دموعها بيدها بطرف التيشرت لتخبره كطفلة تشتكي لوالدها ما عانته: -خوفت اوي يا يونس، ضربني وبهدلني وفضل مجوعني من امبارح، فضل يقولي كلام وحش اوي يا يونس ويشتم ماما ويدعي عليها فضمها له يونس مرة اخرى ويداه تربت على رأسها بكل الحنان، بكل الحب: -هشششش اهدي خلاص يا حبيبي هو زمان البوليس اخده ومش هيعرف يعملك حاجة تاني!
كان يهدهدها بنبرة حانية رقيقة ولكن داخله كان يغلي حرفيًا، يغلي ويغلي ولن يطفئ غليانه سوى قتل ذلك الرجل الحقييير المريض...!
عاد ينظر لـ ليال ليحيط كتفاها متمتمًا برفق ورقة: -يلا يا حبيبي عشان نمشي وبالفعل غادر مع ليال الشاردة الخاوية بعد أن اخذ الحقيبة التي تحوي ملابسها في طريقه...
بعد فترة... وصلوا جميعهم المنزل وقد كانت ليال في حالة يُرثى لها، وكأنها لا تشعر بالدنيا من حولها... ركضت نحوها أيسل تحتضنها بلهفة وهي تردد زافرة بعمق: -اوووف واخيرا الحمدلله، انتي كويسة يا ليال؟ اومأت ليال دون شعور، ليقترب منها قاسم محتضنًا اياها بقوة يلتقط أنفاسه بارتياح، وكأنه كان يخشى فقدان زينب المتمثلة في صورتها مرة اخرى، ثم همس: -حمدلله على سلامتك يا غالية.
فاقترب بعدها يونس منها متمتمًا بهدوء وهو يحاوط ليال: -بعد اذنكم ياجماعه هاخدها اوضتها ترتاح شوية فهتف الجميع مؤكدين: -ايوه طبعا اتفضل اذنك معاك سحبها يونس معه برفق نحو غرفتهما، فدلف هو اولاً ليفسح لها الطريق ثم أدخلها بينما هي تتحرك معه وكأنها عروس ماريونت... وقفت بمنتصف الغرفة وهو امامها، لتبتلع ريقها وهي تهز يدها محاولة ايجاد حروفها، ثم نطقت بنبرة تائهه: -انا، هدخل اخدش دش واغير هدومي.
قالتها وهي تشير لملابسها المهترئة فأومأ يونس مؤكدًا لها برأسه بابتسامة حانية: -ادخلي يا حبيبي ولو احتاجتي حاجة ناديني انا هنزل تحت خمسة وطالع اومأت ليال دون رد وهي تتجه للمرحاض بعد أن اخذت ملابس لها بعشوائية تامة...
بعد قليل، وقفت اسفل المياه الباردة التي اخذت تنهمر عليها بشدة، مغمضة العينان مستكينة تمامًا سامحة للمياه أن تغمرها كليًا علها تخفي ما بها من ندوب أصبحت تهلكها كلما مسها ثوب الثبات والهدوء الذي تحاول تغطيتها به...! وكلمات والدها تجلدها مرة بعد مرة كلما تذكرت، لمَ الجميع يرونها بلا كرامة بلا كبرياء، لمَ؟!، هل نختار الشخص الذي يميل القلب نحوه، او هل نختار مقدار الحب الذي يغرق قلبنا تجاهه؟!..
بعد قليل... في الغرفة الخاصة بـ أيسل وبدر، أنهت أيسل كلامها بعد أن حكت كل ما حدث من إتصال والدها لبدر الذي جلس يستمع لها بأذن صاغية وقلب يتلاعب التوتر بأوتاره... وما إن إنتهت حتى سألها بدر مستنكرًا بعتاب: -وانتي لسه جايه تقوليلي دلوقتي يا أيسل؟ بعد يومين؟ كنتي بتفكري تخبي عني ولا إيه؟ فعضت أيسل طرف شفتاها ثم ردت بصدق:.
-بصراحة اه، مكنتش عارفة اعمل إيه، كنت كل ما اقول هروح احس إن حاجة جوايا بتقولي لأ اكيد بيلعبوا بيكي، بس برضو مش عارفة أتجاهل اللي قاله تنهد بدر وهو يفكر مليًا، فقطع حديثهم صوت الهاتف الذي تصاعد معلنًا وصول اتصال، فنظرت أيسل للهاتف لتهمس: -ده هو! فأشار لها بدر بسرعة: -ردي شوفي هيقول إيه فأجابت أيسل بالفعل ليأتيها صوت والدها الذي أجاد ضبط نبرته على لحن الحزن الغائر وهو يتشدق بـ:.
-ايسل، انتي ماجتيش ليه يا أيسل؟ فردت أيسل بنبرة فاترة: -معلش مشغولة فقال الاخر مستنكرًا: -مشغولة على أمك يا أيسل؟! أمك حالتها اتدهورت عن الاول وخايفة تموت من غير ما تشوفك يا أيسل لاخر مرة كزت أيسل على أسنانها بعنف، لمَ عليها أن تكون ابنتهم؟!، لمَ عليها أن تعيش صراع حاد داخلها ستنتصر به الفطرة بالتأكيد وستذهب لرؤية والدتها، والدتها التي رمتها في الشوارع طفلة لم تتخطى الخمس سنوات..!
فأغلقت أيسل الهاتف بقوة وهي تلقيه جوارها تزفر بحدة، ليسألها بدر مستفسرًا: -قالك إيه؟ فردت أيسل ممسكة برأسها بين كفيها: -قالي إن حالتها اتدهورت وإنها خايفة تموت قبل ما تشوفني لاخر مرة حينها أحكم بدر قبضته حول يدها وهو يربت عليها برفق وحنان هامسًا بحزم: -يلا يا أيسل، هتروحي وانا هروح معاكي وأتمنى من كل قلبي مايكونوش كدابين!
وبالفعل جهزوا حقائبهم سريعًا ليخبروا قاسم بمغادرتهم المؤقتة لمدة يوم فقط بسبب مرض والدتها ثم سيعودان مرة اخرى، وبالطبع ظهر لهم قلق قاسم الذي شعر بريبة من تلك المغادرة ولكن بدر حاول طمئنته مع وعده أن يلقي على مسامعه كل ما حدث ما إن يعودا...
بينما في الأعلى في غرفة يونس وليال... اعتقدت ليال أن يونس قد غادر كما أخبرها فخرجت تحيط جسدها بـ البُرنس وقد تركت خصلاتها المُبللة على ظهرها بلامبالاة...
لتتجمد مكانها وهي ترى يونس جالس على الفراش يدخن سيجارته بشراهه، وما إن لاحظ وجودها حتى رفع رأسه لتصطدم عيناه بمظهرها الذي سلب لبه، فتلمع عيناه بشغف وهو يرمقها بنظرات متفحصة بدايةً من خصلاتها السوداء القصيرة المُبللة التي تسقط منها قطرات المياه حتى ركبتاها الظاهرتان أسفل ذلك البُرنس القصير الضيق...!
ابتلعت ليال ريقها بتوتر تشعر أن نظراته جمرات تتساقط عليها ببطء لذيذ ومُهلك..!
نهض يونس متوجهًا نحوها ببطء مسلوب الارادة، لتغير هي اتجاهها بسرعة تود العودة للمرحاض، ولكن يد يونس كانت الاسرع ليجذبها من يدها بسرعة يُلصقها بالدولاب خلفها وقبل أن تعترض او تعي ما يحدث كانت شفتاه الاسرع لتكتم اعتراض شفتاها، شفتاه تتلاعب بأوتار شفتاها المكتنزة، يُقبلها بلهفة مجنونة محاولاً إطفاء الشووق الرهيييب الذي يغلي اسفل مسام جلده فيحرقه...
بينما هي كانت متخبطة، مختنقة ما بين العاطفة التي إندلعت بين ضلوعها، وما بين القول المتردد على أذنها أنها بلا كرامة ولا شخصية ولا كبرياء...
ابتعد يونس بعد لحظات حينما شعر بتململها واعتراضها، ليقرب أنفه من خصلاتها يتشممها وهو يهمس بأنفاس لاهثة لاهبة: -مشتاقلك اووي، مشتاقلك وكنت هتجنن من غيرك لدرجة إني حاسس إن مكنش في عمر قبلك ولا في بعدك! قلبها كان يقرع الطبول مع كل حرف يخرج منه، ولكن عقلها تزاحم بالأفكار التي تؤرقها، فهمست دون شعور بحروف متحشرجة:.
-ليه هما شايفيني ماعنديش كرامة ولا شخصية؟ هو بمزاجي إني احبك يا يونس، مش بمزاجي إن ربنا خلقني قوية في كل حاجة وضعيفة قدام مشاعري وعنيدة فيها... ليضع يونس إصبعه على شفتاها يقطع سيل الكلمات وعاد ليهمس بصوت متثاقل بالعاطفة: -هششش، ماتكمليش، انتي مش معندكيش كرامة، انتي اكتر واحدة بتحبي من غير تفكير من غير تدخل العقل، ووقعتيني، قدرتي توقعيني يا لياليّ.
رمقته ليال بنظرة غير مستوعبة ثم سألته بأنفاس متسارعة مبهورة: -أنت حبتني يا يونس؟ فأغمض يونس عيناه يتلمس وجنتها الناعمة بذقنه النامية ببطء شديد مُهلك لكلاهما، ثم تابع همسه الخشن: -يونس وقع في حبك بجنوووون، معرفش امتى وازاي بس مابقتش قادر انكر اكتر، انا بعشقك.. يا الهي تشعر أن قلبها سيتوقف عن النبض حتمًا، هل هكذا يكون الشعور حينما تغمرك الفرحة فجأة كالفيضان بعد جفاف وقحط دام طويلاً...؟!
أمسكت وجهه بين يداها وكأنها تتوسله ألا يكون حلمًا: -بجد يا يونس؟ بتحبني بجد؟ فابتسم يونس ابتسامته الرجولية العابثة التي تزور ثغره لاول مرة في حضرتها، ثم أردف بمكر: -هثبتلك بطريقتي حالاً ولم يتردد في أخذ شفتاها في جولة اخرى يثبها فيها عاطفته ومشاعره التي أهلكت فؤاده بمحاولة نكرانها، واستجابت هي بكل وجدانها مستمتعة بحلاوة شعورها...
إرتجفت بعنف حينما هاجمها الهواء البارد حينما أزاح يونس البُرنس ببطء عن كتفها، وما إن وقعت عيناه على كتفها العاري حتى تذكر تلك الصور لتشتد قبضته على كتفها بعنف دون شعور حتى تأوهت بألم خفيف فهمس يونس لها بنبرة تملكية متقدة: -انتي ليا، ملكي انا، انا وبس! فأومأت ليال مؤكدة تلقائيًا وكأنها تحاول بلمسة تلك النيران التي اُضرمت داخله وتراها بين عيناه الان: -انا ملكك انت بس.
بكل التوق، بكل الألم الذي عصف به في غيابها، بكل اللوعة في العاطفة التي هاجمته في غياهب عشقها، جذبها له نحو الفراش أخذًا إياها في وصال حار خاص جدا من نوعه، يصكها بملكيته ليثبت لنفسه المهتاجة فرائصه بالغيرة القاتلة من مجرد صور غير حقيقية أنها له، له فقط وستظل كذلك...
وبعد ساعات طويلة، ليلاً... وصل كلا من أيسل وبدر العنوان المعني، دلفا العمارة التي من المفترض أن العيادة تقطن بها ولكن مع سوء الحظ لم يكن هناك حارس للعمارة ليسألونه فصعدوا مباشرةً... طرقت أيسل الباب وجوارها بدر المتأهب نسبيًا، فُتح الباب ليُصدم كلاهما برؤية مريم التي لازالت نظرة الحدق معلقة بأهدابها... فهمست أيسل بعدم فهم مشدوهه: -انتي! انتي جيباني هنا ليه وعايزه إيه؟
وبلحظة حدث كل شيء، شخص ظهر من العدم ليدفع بدر نحو الخارج بحركة مباغتة فكاد بدر يسقط والاخرى سحبت أيسل للداخل في نفس اللحظة لتغلق الباب بسرعة، فبدأ بدر يضرب على الباب بجنون وهو يصرخ بعروق بارزة: -افتحي يا مريم، يا مرييييم، أيسسسسل ثم بدأ ينظر في الاسفل عله يجد اي حارس او ما شابه ولكن لم يجد فجن جنونه اكثر وبدأ يدفع الباب محاولاً كسره...
بينما في الداخل أعطت مريم قطعة قماش بها مخدر لذلك الرجل وهي تقول بلهجة سريعة: -يلا خلص بسرعة ثم امسكت الهاتف لتتصل بالشرطة وهي تخبرهم بوجود شقة للدعارة ثم اخبرتهم بالعنوان وأغلقت وكسرت الخط... بينما أيسل تصرخ وهي تحاول الإفلات من قبضة ذلك الرجل، وصراخها كان كالبنزين الذي سُكب على نيران بدر ليلتاع قلبه بالفزع وهو يدفع الباب بقوة اكبر...
بينما وداخل تلك الشقة، كان يقف كلا من طه وزوبه يستمعان لما يحدث، طه بأعين شامتة وفرحة وهو يتذكر وعد مريم بابتزاز والدة أيسل وأخذ الاموال منها لاعادة ترميم الملهى، بينما زوبه، تلك الصرخة المستنجدة من أيسل هزت شيء داخلها، فهزت رأسها نافية وهي تسير بسرعة للخارج هامسة: -لأ بنتي فركض طه نحوها بسرعة يُكبلها كاتمًا فاهها وهو يصيح بها بنبرة منخفضة: -انتي اتجننتي! جايه تبوظي كل حاجة دلوقتي.
بينما الاخرى تهز رأسها نافية محاولة التملص من بين قبضته، لتزداد قبضته شراسة وهو يضغط على فاهها وأنفها دون أن يقصد... فكُتمت أنفاس زوبه وهي تحاول دفعه، ولكن ليس للهرب وإنما حتى تستطع التقاط انفاسها التي بدأت تُكتم تمامًا...
لم يتركها طه إلا حينما شعر بحركتها تستكين تمامًا، حينها ابعد يده عنها هامسا لها في غل: -اهدي بقا ليجدها تسقط ارضًا فجأة مقطوعة الانفاس، معلنة مغادرتها تلك الدنيا دون مقدمات، دون أن تعيد ترميم الملهى الذي رمت بأبنتها من اجله، دون ان تفعل شيء جيد في حياتها!..
إتسعت عينا الاخر بذهول وهو يتحسس نبضها ليدرك أنه وبلا وعي قتلها...! اخذ ثواني حتى استوعب فركض نحو الخارج بسرعة وبهلع لتسأله مريم بقلق: -في ايه؟! فهمس الاخر بشفتان مهتزتان وبلا وعي يهذي: -زوبه ماتت، قتلتها، قتلتها من غير ما احس! فشهقت مريم بفزع ودون أن تفكر مرتان كانت تفتح الباب لتنطلق راكضة بسرعة يتبعها طه وذلك الرجل، ليدلف بدر بسرعة نحو أيسل التي كانت ساقطة ارضا متجمدة بما سمعت تهمس بوجه شاحب:.
-ماما! فسألها بدر بلهفة: -مالك يا حبيبتي عملوا إيه مالها مامتك؟ لتصرخ أيسل بجنون وكأنها استوعبت للتو: -قتل امي وركضت نحو والدتها الراكدة ارضا لا حول ولا قوة، غافلين كلاهما عن الشرطة التي ستأتي بعد قليل لتجد قضية قتل بدلا من قضية الاداب...!
رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس عشر
كانت أيسل مستكينة مكانها أمام جثمان والدتها، تحدق بها بعينان خاويتان، وجهها شاحب وكأن الروح غادرت جسد والدتها والأنفاس سُرقت منها هي، لا تستوعب، لا تستوعب ابدًا، كيف هكذا فجأة ماتت، دون أن تعتذر منها، دون أن تعوضها عما مضى، دون أن تخبرها بمبررات تُسكت أنين روحها المذبوحة مرارًا وتكرارًا..!
ابتلعت ريقها وهي تمد يدها المرتعشة لتتلمس جثمان والدتها وتهزها ببطء وهي تهمس بحروف وجدت المخرج من بين تصنم شفتاها بصعوبة: -لأ، انتي أكيد ماموتيش ثم أصبحت تهزها بقوة أكبر متابعة تمتمتها التي قاربت على الغدو هيستيرية: -قومي انتي ماموتيش انا متأكدة، قومي يلا! فحاوط بدر كتفاها مسرعًا وهو يربت عليها برفق، ثم أغمض عيناه محاولاً ايجاد الكلمات المناسبة في ظل صدمته وجموده هو الآخر...
لتكمل أيسل بصوت اكثر هيستيرية وإنفجار ما بعد هدوء العاصفة: -لأ، مينفعش تموتي دلوقتي، انتوا اكيد بتمثلوا صح؟ ثم نظرت لبدر وسألته بهذيان ترجوه التأكيد على ما يهذي به عقلها لتسكين ذلك الألم الذي إنفجر داخلها كوباء ضاري: -هي عايشة يا بدر، هما بيضحكوا عليا وبيخططوا لحاجة صح؟ انا كنت حاسه اصلاً حينها أمسك بدر وجهها بين يداه يهزها برفق وهو يردف بصوت حاني حازم: -أيسل، أيسل حبيبتي فوقي، ده قدرها..
ثم ضيق عيناه مفكرًا وقد عاد عقله للتفكير الذي توقف لدقائق: -أيسل ركزي معايا، مريم إتصلت بالبوليس؟ رمقته أيسل بنبرة عابرة ثم عادت تحملق بالجثمان امامها بتوهان وكأنما عقلها شُل تمامًا فلم يعد بمقدورها إعطاء اي استجابة لأي اشارات تخترق حدود العقل..! فعاد بدر سؤاله بصوت أكثر حزمًا يحاول سرقة الاجابة التي تأخرت في خروجها للنور: -أيسل ركزي وجاوبيني عشان في كارثة احتمال تحصلنا.
حينها عطفت عليه أيسل فنظرت له وحاولت إجبار صوتها على الخروج، فردت بصوت مبحوح وهي تهز رأسها: -ايوه، ايوه اتصلت بلغت عن شقة دعارة! فانتفض بدر من مكانه وهو يسحب يدها معه مغمغمًا بجزع: -طب قومي بسرعة احنا لازم نمشي حالاً فهزت أيسل رأسها نافية بسرعة وكأنها مصدومة من تفكيره بالرحيل وهي تشير لجسد والدتها المسجي ارضًا: -لأ لأ استنى، وهي هنسيبها هنا!؟ فحاول بدر مراعاة حالتها ليجيب محاولاً استجماع تركيزه:.
-البوليس زمانه على وصول يا أيسل، ولو حلفنا لهم على المايه تجمد إننا مش احنا اللي قتلناها محدش هيصدقنا، ومتقلقيش البوليس هيجي وهياخدوها واكيد هيبلغوا طه إنهم لاقوها، صدقيني كل حاجة هتتحل إلا احنا حياتنا هتتدمر ظلم لو مامشيناش دلوقتي حالاً كل ثانية بتفرق يا أيسل.
لم تجيبه بل ظلت تنظر لجسد والدتها، فسحبها بدر من يدها متجهًا نحو الخارج، فإنكمشت ملامح أيسل بالألم وكأنها عادت تلك الطفلة ذات الاربع سنوات والتي تُفرق عن والدتها من جديد ولكن، للأبد دون خيط أمل للعودة..! حينها هزت أيسل رأسها ولم تشعر بشهقة البكاء التي غادرت شفتاها وكأن روحها الطفولية تغادرها لتتشبث بوالدتها الميتة:.
-طب قومي وانا هسامحك، لو سبتيني تاني مش هسامحك والله، قومي بقااا طب انا مسمحاكي خلاص بس قومي يلا نمشي وحينما كانت على عتبة الباب صرخت صرخة متحشرجة كانت بمثابة صاعق لعقلها المتجمد المصدوم الرافض للتصديق، ولأول مرة تناديها: -يا ماااامااا قومييي والنبي كان قلب بدر يلتوي ألمًا على صغيرته التي اتضح أنها عكس ما تتظاهر تمامًا...
كانت تخبرهم أن يبتعدوا عنها تمامًا وأنها تكرههم، بينما تلك الطفلة داخلها لازالت تنتظر أن يعودوا ليتلقفوها بين أحضانهم معتذرين منها عما بدر منهم..!
بينما أيسل كانت تسير بصمت ودموعها تتسرب لتروي وجهها الشاحب، كم تمنت أن تناديها بـ أمي وهي على قيد الحياة، كم تمنت أن تحتضنها ولو لمرة، أن تسرح لها خصلاتها وتُدلكها لها قبل أن تنام، أن تعنفها حينما تخطئ وتجبرها على فعل اشياء لا تحبها فقط لمصلحتها هي وليس العكس، لم تتمنى الكثير هي فقط تمنت حياة طبيعية!..
على الطرف الآخر حيث القرية... فتح يونس عينـاه ببطء يتململ في نومته، فمد يده بتلقائية للفراش جواره ليجده بارد وفارغ، فهب منتصبًا من الفراش بفزع وكأن كابوس رحيلها عاوده من جديد... ونهض راكضًا نحو المرحاض ينادي بأسمها في هلع واضح: -ليااااال، ليااال انتي فين؟ فخرجت ليال من المرحاض تجيب بسرعة: -انا هنا يا يونس.
وما إن رآها جذبها لأحضانه متنهدًا بقوة يدفنها بين ذراعيه، رحيلها أصبح هاجسه، فكلما إختفت عن ناظريه سيشعر بشبح الفراق يلوح له من بعيد...! فهمست ليال مشدوهه بعدم فهم: -مالك يا يونس؟! فابتعد يونس يمسك وجهها بين يداه متفحصًا كل إنش بوجهها وسوداوتاه تعكس لها بذور الخوف من الفقدان التي زُرعت داخله وأي تهور صغير منها سيسقي تلك البذور لتنمو اكثر فأكثر...! ثم خرج صوته أجش وهو يخبرها آمرًا:.
-اوعي تفكري تبعدي عني ابدًا فهزت الاخرى رأسها نافية وقد استدركت خوفه، لتحيط وجهه بيدها الناعمة متحسسة ذقنه النامية وهي تهمس له بكل جوارحها مؤكدة: -مقدرش أعمل كده يا يونس، أنت روحي، هو في حد بيقدر يبعد عن روحه؟! فأمسك هو بيدها التي تحيط وجهه ليلثم باطنها بعمق وقد بددت هي ذلك الشعور المقيت الذي تضخم داخله، ثم رفع عيناه لعيناها البُنية التي اكتشف أنه يُحب النظر لهما طويلاً، طويلاً جدًا...
ثم تحركت عيناه تلقائيًا لتلتقي بحبيبتاه، شفتاها، حيث ملاذه، بين شفتاها يجد يونس الجديد، يونس المغمور بعاطفة مشتعلة جديدة عليه نوعًا ما، بين شفتاها يشعر بالكمال، يشعر بكل خلية به تنبض هادرة بأسمها، متمنية أن يظل هكذا، يقبلها حتى يكتفي وإن لم يكن هناك اكتفاء منها ابدًا...
ودون أن يفكر اكثر كان يميل ملتقطًا شفتاها بلهفة، والشوق إن ظن أنه خفت بعدما امتلكها فقد اخطأ، لأنه وببساطة يشعر بسعير الشوق يزداد حرقة ولهبًا... وهي، هي كانت كمن تلقى ترياق للعودة للحياة بعدما مات، فبعثها هو من جديد، بعشقه الذي أزهر زهور أنوثتها الذابلة، وبدأ يُدفئ البرودة الثلجية الفاقدة للحنان والحب داخلها...!
وحينما شعرت بيداه تتسرب لأطراف ثوبها وشفتاه قد ازدادت تطلبًا، أمسكت بيده بسرعة ثم ابتعدت لتهمس من بين أنفاسها العالية: -يونس لأ استنى لم ينتبه كثيرًا لهمسها فتسربت شفتاه لرقبتها يلثمها بعمق، ولكنها ابتعدت وهي تقول بصوت أعلى وكأنها تنتشله من بين بقاع العاطفة التي غيبته عن واقعه: -يووونس، مش هينفع، انا عايزه أروح لبابا حينها ابتعد يونس وكلمتها جمدته مكانه، ليبتعد قليلا ثم سألها بعدم فهم مستنكرًا:.
-تروحي لبابا! تروحيله فين؟ فابتلعت ريقها وهي تزيح خصلاتها التي تشعثت بسبب يداه العابثة، ثم هتفت بهدوء تخبره بما شغل بالها منذ عودتهم: -أنا قررت أتنازل عن القضية وأخرجه -نعم! ومين قالك إني هخليكي تعملي كده، انا اللي رافع القضية ومش هتنازل زمجر بها يونس بعصبية وقد عاد ذلك الغضب يتأجج داخله كلما تذكر اليوم العصيب الذي عاشه بسبب والدها المريض..! لترد هي بجدية صلبة:.
-وأنا اللي إتخطفت وهعمل كده، ده ابويا، راح ولا جه أبويا ومقدرش أحبسه حتى شهر فما بالك بـ سنين! ليمسك يونس بذراعها يضغط عليه دون أن يشعر، ثم استطرد وقد فاح الألم من نبرته وكأنه يعيش تلك الليلة من جديد، بكل هواجسها، و عجزها...!
-طب وانا؟ عادي اللي عمله وخلاني أعيشه؟ عادي يمر يوم كامل معرفش انتي فين، هجرتيني فعلا زي ما كان عايز يقنعني ولا لا، واسأل نفسي طب لو هجرتيني عملتي كده ليه، طب لو معملتيش كده يبقى اتخطفتي؟!، طب مين اللي خطفك وخطفك ليه، يا ترى حد بيكرهني وعايز يأذيني فيكي ولا حد عايز فلوس ولا حد اصلاً وقعتي تحت ايده صدفة وطمعان فيكي وهيأذيكي! ثم تركها ليعطيها ظهره وهو يهز رأسه نافيًا، معلنًا عدم تخليه عن ثأره:.
-لأ، لأ يا ليال اللي عيشته ده مش هيعدي بسهولة، وبعدين يمكن لو طلع اصلاً يفكر ياخدك تاني او يأذيكي او حتى يأذي بابا! فاقتربت منه ليال ببطء، تدرك جيدًا ما عاناه، وعقلها يؤيده بكل ذرة به، ولكن قلبها، ذلك القلب المتأصلة فيه الفطرة، يأبى أن يفعل ذلك بوالدها مهما فعل او سيفعل! فاحتضنته وهي تلف يداها حول ظهره، ثم قالت بصوت هادئ ناعم تحاول أن تفك أمام عيناهطلسم الفطرة الذي يخضعها له رغمًا عنه:.
-افهمني يا يونس، انا عارفة وفاهمة كويس اوي اللي بتقوله لكن غصب عني حتى لو عقلي مقتنع باللي بتقوله بس ده ابويا، مش هرتاح ابدًا وانا عارفة إنه مسجون بسببي! ساعدني عشان أرتاح يا حبيبي فتنهد يونس بعمق وقد نجحت في سبر اغواره، ليستدير لها ببطء، يسألها للمرة الاخيرة ولم ينكر تمنيه أن تنفي: -انتي متأكدة إنك عايزه تعملي كده وهترتاحي لما تعملي كده يا ليال؟ فأومأت ليال مؤكدة بابتسامة خافتة: -جدا جدا.
حينها بادلها يونس تلك الابتسامة الحانية، ثم جذبها له برفق يحيطها بين أحضانه مقبلاً قمة رأسها بعمق ليعلن موافقته على مضض: -خلاص يا حبيبي وانا معاكي طالما ده اللي هيريحك.
بعد فترة، في مركز الشرطة... تنازلت ليال بالفعل عن المحضر ضد والدها، تنفست بعمق، هكذا تشعر أن مارد الفطرة قد استكان مغادرًا إياها بعدما نفذت ما أمرتها به فطرتها..! خرج والدها من الحبس مع العسكري، وما إن رأى ليال ويونس حتى تجهمت ملامحه ليقول والغيظ ينضح من نبرته: -جايين تشمتوا فيا ثم نظر لـ ليال متابعًا بازدراد: -وانتي، انتي إيه بنت حرام؟ بتسجني ابوكي، خسارة فيكي لقمة طفح اديتهالك وانتي صغيرة حتى.
كز يونس على أسنانه بغيظ وهو يرمق ليال بنظرات ذات مغزى مرددًا: -شوفتي؟ رجعت ريما لعادتها القديمة، اللي فيه طبع مابيغيروش ابدًا يا ليال قاطعهم صوت الضابط الذي خرج هادئًا جادًا بنبرة دبلوماسية وهو يخبر حامد: -الاستاذ يونس ومدامته اتنازلوا عن المحضر يا حامد لم يستطع حامد السيطرة على أصابع الدهشة التي امتدت لتعبث بملامحه التي كانت مزدردة قاسية لتصبح مدهوشة متصنمة...!
فأكمل الضابط مؤكدًا ما سمعه حامد منذ ثوانٍ: -يلا يا حامد تعالى امضي عشان تخرج -تحت امرك يا باشا وبالفعل اقترب حامد بلهفة ينهي اجراءات خروجه تحت أنظار ليال الساكنة ويونس الغاضبة... وما إن انتهى وخرجوا امام المركز، وقفت ليال امام والدها بهدوء وجمود تام تخبره: -أتمنى إنك تخرج من حياتي نهائيا وتنسى إنك خلفت بنت في يوم من الأيام وكالعادة لم يبخل حامد عليها فبخ سمه المدسوس بين حروفه في وجهها وهو يتشدق بـ:.
-انا اصلاً مش عايزك يا بنت زينب وفعلاً معنديش بنات! ثم ألقى نظرة متهكمة تجاه يونس قبل أن يتابع: -بس لما المحروس يندمك مترجعيش تعيطي ثم استدار ليغادر دون أن ينتظر اكثر، لتتنهد ليال وهي تستجيب لدفئ احضان يونس الذي ضمها له وكأنه ينفي بصمت المغزى الذي ألقاه والدها بوجهها...
وبعد ساعات طويلة... وصل كلاً من بدر وأيسل البلد من جديد، ولكن شتان ما بين حالهم وهم ذاهبون وحالهم وهم عائدون...! ألقى بدر نظرة تجاه أيسل الميتة وهي على قيد الحياة، رباااه، وكأنها ذهبت بروحها لتتركها هناك ثم عادت مجرد صنم فقط لا يمت للانسانية بصلة..!
لم يفكر بالعودة للقصر حيث فاطمة، لأن أيسل وبحالتها تلك تحتاج أن تفرغ شظايا الألم التي غُرزت بين ثنايا قلبها واحدة واحدة، وهو متأكد أنها لن تفعل مع فاطمة، لن تُشعر فاطمة أنها لم تنجح في سد خانة الأم في حياتها، لن تُشعرها أنها فشلت في تعويضها... هي نجحت، وجدًا، ولولاها لكانت حياة أيسل اصبحت اسوء واسوء، ولكن الأم، تلك الفطرة التي خُلقنا عليها لا ترضى سوى بالأم الحقيقية سدًا لجوعها...!
نزل من السيارة ليفتح الباب لأيسل ممسكًا بها وهو يهمس بحنان: -يلا يا حبيبتي وصلنا نزلت معه أيسل دون أن تنطق بحرف، ودلفوا للمنزل ليجدوا الجميع جالسين على السفرة يتناولون عشائهم، وبالطبع تعجب عيونهم من حالة أيسل الباهتة المُدمرة... لتنهض ليال بسرعة تتوجه نحو أيسل وهي تسألها بقلق حقيقي: -في إيه، مالك يا أيسل؟
لم ترد أيسل وإنما نظرت لها بتلك النظرة الخاوية الباردة المقتولة التي تحكي ألف قصة وقصة، ليجيب بدر بصوت آسف بدلاً منها: -للاسف والدتها الحقيقية اتوفت النهارده وقدامنا شهقت ليال تضع يدها على فاهها لتكتم شهقتها وقد أدركت الفجوة المؤلمة التي استوطنت روح أيسل ، ودون مقدمات كانت تحتضن أيسل بسرعة مرددة بخفوت حزين متأثر: -البقاء لله يا أيسل ربنا يرحمها ويغفرلها يارب، ادعيلها كتيير هي دلوقتي محتاجة دعائك بس.
اومأت أيسل برأسها ليتقدم منها يونس وقاسم ويهتفا: -البقاء لله ربنا يرحمها يارب فهزت رأسها بلامبالاة متمتمة بصوت شاحب خرج بصعوبة: -ونعم بالله، يارب ثم تحركت دون أن تنطق بالمزيد او تنتظر: -بعد اذنكم.
صعدت لغرفتها هي وبدر، يتبعها بدر الذي لحق بها بسرعة ليجدها تدلف الغرفة لترمي الچاكيت الذي كانت ترتديه فوق ثوبها، ثم وقفت بهدوء خاوي تتنفس بصوت مسموع.. ليقف بدر خلفها، أحاط بها من الخلف يتلمس ذراعاها العاريان بحنان جم، يرسل لها رسالة صامتة أنه هنا، معها ولن يتركها، أنه سيكون لها الملاذ لو ضاقت بها الدنيا، سيكون لها الدفئ لو شعرت بالبرودة تجتاحها!..
فوضعت هي يدها على ذراعه، لتقول بابتسامة مهزوزة تخفي ادراجها الكثير والكثير: -انا كويسة يا بدر متقلقش لم ينطق بدر بل ظل يربت على كتفاها بصمت وعيناه على وصال بعيناها من خلال المرآة، وكأنه يهبها القوة لتفصح بما يعج بداخلها وتُخرج تلك الصرخات التي يشعر بها تهز ضلوعها بعنف لتطلق سراحها...!
فتابعت ايسل بينما تتمسك بتلك الابتسامة المهزوزة تحاول رسم الثبات وقد فضحتها نبرة صوتها المرتعشة: -انا مش زعلانة، هزعل ليه اصلاً وهي عملت كل حاجة تخليني مزعلش عليها، هي ماعملتليش اي حاجة حلوة اتحسر عليها، فـ انا مش زعلانة بجد، انا اصلاً كنت عايزاهم يخرجوا من حياتي.
ثم بللت طرف شفتاها الشاحبة لتشير بيدها بعشوائية وتبعد عيناها عن عيناه التي كشفت كذبها بسهولة لتردف بصوت مبحوح، تلك البحة المتهدجة التي تسبق البكاء: -انا اتصدمت شوية بس، لكن مش هزعل عليها لأ فأدارها بدر له ليثبتها امامه محيطًا اياها وهو يخبرها بحزم: -العيب مش إنك تزعلي عليها يا أيسل حتى لو هي كانت وحشة، العيب إنك تنكري زعلك عليها حتى لو هي وحشة، دي مامتك، محدش فينا بيختار أمه وأبوه يا أيسل.
كانت أيسل تهرب بعيناها منه، تعض على شفتاها محاولة منع البكاء الذي بدأ يهاجم شفتاها المرتعشة، ليرفع بدر وجهها متمتمًا بحنان كان المفتاح لكل ما تحاول إخفاؤوه وكتمانه: -عيطي يا أيسل، عيطي ماتكتميش عياطك، عيطي عشان ترتاحي يا حبيبتي.
حينها تفجر ذلك الكتمان لتشهق باكية بانهيار كان متواري خلف قناع الهدوء واللامبالاة والصدمة، ليضمها بدر بين أحضانه، يتمنى لو استطاع أن يسحب منها ذرات الألم التي تختض داخلها فيرحمها قليلاً...
بينما أيسل تبكي بعنف كما لم يراها يومًا، تبكي أمًا حُرمت منها في الماضي والحاضر، تبكي حنان تمنت لو تناله منها، تبكي فقدان ينهش روحها بمخالبه الضارية فيُشعرها بألم رهيييب، مجرد فكرة أن والدتها لم تعد في تلك الدنيا، لن تظهر امامها مرة اخرى ولو عن طريق الصدقة، ذلك الشعور المقيت يقتلها ببطء كـ سم جبار المفعول... لتضرب على صدر بدر بقبضتها وهي تردد بهذيان من بين شهقاتها:.
-هي سابتني تاني ليه يا بدر، ليييه، ليه سابتني تاني انا مش هسامحها ابدًا فكان بدر يربت على ظهرها بحنان ولا يملك ما ينطق به، فقط ألمها يؤلمه، يؤلمه جدًا ليُذكره بألم مُشابه لفقدان والديه...
سمعها تغمغم بحروف متقطعة وشهقاتها تتعالى: -انا مكنتش عايزه حاجة كبيرة يا بدر، انا كان نفسي بس تديني اي مبرر لأنها ترميني زمان حتى لو كذب وكنت هصدقها، كان نفسي تعمل أي حاجة عشان تحسسني إنها ندمانة وتعوضني، كان نفسي أحس إني بنتها فعلاً، إني مش منبوذة حتى من اهلي!
ثم بدأت تمرغ وجهها في ملابسه كقطة تتوسل حنان صاحبها، لتمسك موضع قلبها تضغط عليه وقد خرجت منها الآهه المتحشرجة العميقة التي إنطلقت من أعمق نقطة ألم داخلها لتستقر بين ثناياه فتهزه كله: -آآه يا بدر، قلبي واجعني اوي اوي، حاسه إني هموت مش قادرة استحمل، والله ما قادرة ثم ازداد أنينها لتزيده وجعًا وهي تتابع بقهر باكية:.
-بيوجع اوي، شعور بيوجع اوي يا بدر، إنك تحس إن أقرب حد في الدنيا ليك مبقاش معاك في الدنيا دي ومهما حصل مش هتشوفه تاني ابدا بيوجع اوووي فدفعها بدر للخلف ببطء ورفق ليُجلسها على الفراش ثم هبط وببطء ورقة ليطبع قبلة طويلة حانية عميقة على موضع قلبها مباشرةً، وكأنه يحاول بلسمة ذلك الألم عله يرأف بقلب صغيرته قليلاً...
فأغمضت هي عيناها شاهقة بعنف، ثم دفنت رأسها بين أحضانه وهي تحيطه متمتمة بصوت مذبوح مكتوم بالبكاء: -احضني يا بدر، احضني جامد اوي يمكن أنسى إني بقيت يتيمة فوضع هو إصبعه على شفتاها يُسكتها، ثم هز رأسه نافيًا وبنبرة قاطعة صلبة تحمل بين قشورها حنان دفين قال: -اوعي تقولي كده طول منا عايش، لما اموت ابقي قولي كده، انتي بنتي قبل ما تكوني مراتي يا جنيتي!
فارتسمت شبه ابتسامة شاحبة على أطراف ثغرها وهي تعود لتضم نفسها له بقوة، متوسلة النوم أن يفرض سيطرته على مقاليدها فيُغرقها في عالم اللاوعي ولو قليلا...
منزل فيروز... وقفت فيروز أمام الشرفة تعض على أصابعها والغيظ يستوطن كل شبر بها فيجعلها مشتعلة بالغضب والكره والتوعد... ليقطع الصمت جمال الذي قال بصوت أجش: -خلاص يا فيروز اهدي، احنا كنا متوقعين إن يونس مش هيصدق اصلاً وإنه احتمال يلاقيها وياخدها من ابوها فاستدارت فيروز له لتهتف بعينان محتقنتان بالغضب:.
-وابوها القذر ما صدق خرج من السجن وسافر على طول، بعد ما كشفت نفسي قدام الشغالة اللي في بيت يونس عشان أمشي كل حاجة زي منا عاوزه عشان نخلص من البلوه دي وفي الاخر كل حاجة تبوظ بالبساطة دي! فتنهد جمال ليتابع قائلاً ما تتمناه وتهلل كل ذرة به ويكتم هو صوتها كالعادة: -حاولي تنسي يونس يا فيروز، الطريق بينكم دلوقتي بقا شبه مستحيل لتهتاج فرائص فيروز وهي تزمجر فيه بانفعال هيستيري:.
-اسكت، اسكت خالص أنت السبب، أنت اللي ساعدت الحيوانة الخدامة دي عشان تاخده مني، خونت صاحبك وخونتني وخونت نفسك فتمتم هو بصوت خفيض متنهدًا: -عشان كده لما كلمتيني وطلبتي مني موضوع الصور مرفضتش فارتسمت ابتسامة متهكمة على ثغر فيروز وهي تهز رأسها رافعة احدى حاجبيها باستنكار: -لا يا راجل! أنت مرفضتش عشان أنت متقدرش ترفض فلوس، زي ما خدت تمن اللي عملته من مامي برضه!
كز جمال على أسنانه بعنف حتى اصدرت صكيكًا، لو تعلم، فقط لو تعلم، لو تعلم أن عشقها هو مَن جعله يفعل، أن عشقها أصبح شمعة مُشتعلة بين ضلوعه يحرقه وهجها في كل يوم يمر وهو يتيقن أنها لن تكون له، بل لصديقه...! وحينما فعل ما فعل مع ليال كان بحاجة الاموال فعلاً وإلا كان سيكون في مأزق، ولم يفكر كثيرًا بل تصرف بتهور كما أملى عليه شيطانه ليهددها...
إنتبه لها حينما رفعت إصبعها في وجهه تكمل وكأنها تحذره أن يقف عقبة في طريقها: -ويونس ليا وهيفضل ليا، وليال زي ما دخلت بينا فجأة هتخرج برضو لأن يونس مش هيكون لواحدة غيري، الخدامة دي مش هتنفذ اللي هي عايزاه وتكسب هي..! فراح جمال يردف بجدية حادة يضع نصب عيناها ما ترفض أن تفتح عيناها تجاهه لتراه:.
-يونس قدره مع ليال، روحتي ولا جيتي هو ليها وهي ليه ده نصيبهم، بغض النظر عن إن ليال اخدت نصيبها بطريقة غلط بس هو نصيبها، يعني لو كانت هي حفظت كرامتها وماعملتش اي حاجة من اللي حصلت كان برضو يونس هيبقى من نصيبها لكن هي اللي غلطت واتسرعت، زي الطفل لما والدته تجيبله حاجات وتشيلها عشان تديهاله بعد شوية فيروح هو ياخدها بالعافيه من وراها، هو كده كده كانت ليه وكان هياخدها بس خدها بطريقة غلط وصغر وقلل من نفسه.
فصرخت فيه فيروز تنفث براكين غضبها التي تغلي في وجهه: -اخرررس، اللي يشوفك وانت بتقولي احكام مايقولش إنك ساعدتها في كده عشان الفلوس حينها لم يحتمل جمال، فدفعها بقوة بحركة مباغتة نحو الحائط لتشهق هي بعنف ملتصقة بالحائط وقبل أن تعي أي شيء كان هو يحيطها من الجانبين ليدب على الحيط وهو يزمجر كليث جريح مقربًا وجهه من وجهها حتى شعرت بأنفاسه اللاهبة تحرقها:.
-مش عشان الفلوس، اقسم بالله ما عشان الفلوس، عشان ابقى قريب منك، منكرش إن حلمي كان السفر برا مصر، بس لما لقيت والدتك ناوية تبعدك عن يونس بأي طريقة وعرضت عليا، قولت ليه لأ، منها يكون في امل تبقي ليا ومنها احقق حلمي واكون نفسي برا وارجع تكوني انتي نسيتي يونس ونتجوز! كانت فيروز تحدق به مذهولة، لم يخطر على بالها قط أن جمال قد يكون وقع بين أغوار عشقها لتلك الدرجة حتى هلك..!
فاقترب جمال بوجهه من وجهها اكثر وخرج صوته الخشن ملتاع بتلك المشاعر التي أرقته: -انا بعشقك، مش عارف اشوف واحدة غيرك، بعدت قد ما بعدت عشان أطلعك من دماغي وبرضو معرفتش! أنا معترف إني غلطت زي ليال واكتر وإني خاين ولصحبي قبل ما اكون ليكي، بس ضعفت! ضعفت قدام حبي ليكي وحلمي اللي بحلم بيه بقالي سنين، الحاجتين اللي اتعرضوا عليا واحد بقصد والتاني من غير قصد من والدتك ماكنوش سهلين وانا شيطاني قوي يا فيروز!
ابتلعت فيروز ريقها بتوتر، وتلك المشاعر العنيفة التي تأججت منه لأول مرة أفقدتها حروفها لتلقيها في هوة الصدمة، التعجب!
وقعت عينـاه على شفتاها التي بللتها بتلقائية حينما شعرت بريقها يجف والتوتر يصل اقصاه، لتزداد حدة أنفاسه وهو يتوسل الرحمة داخله والترأف بشوقه وحرمانه منها، حرمانه الذي يود أن يرويه من شهد شفتاها في تلك اللحظة!
دفعته فيروز قائلة بصوت مُحرج مبحوح: -ابعد يا جمال فتنهد جمال بقوة ليبتعد وهو يقول زافرًا أنفاسه الثائرة: -انا وانتي متأكدين دلوقتي إن يونس حب ليال خلاص وإلا كان ما صدق فكر إنها هربت من بيته وماكنش دور عليها، فـ ليه ماتديناش انا وانتي فرصة؟ ثم اخشوشنت نبرته ببحة خاصة متمنية وهو يخبرها: -يمكن انتي نصيبي انا؟!
فوقفت فيروز تعطيه ظهرها لدقائق مفكرة، هي وبكل أسف ادركت أن عشق تلك اللعينة ليال تسرب لقلب يونس ليحرره من أغلالها، وطالما هو يرغب بذلك حسنًا، ستحاول أن تتقبله، ولكن ما لا تستطع تقبله أن تنتصر ليال عليها وتغير حياتها هكذا فجأة وتنجح فيما فعلت دون جزاء او رد لاعتبارها، لاعتبار فيروز الذي لا يُستهان به!..
استدارت فيروز لتنطق بهدوء تام وثبات تُحسد عليه: -انا موافقة ادينا فرصة يا جمال، بس اخد حقي من اللي اسمها ليال دي واللي عملته فيا، وبعدين ابدأ معاك صفحة جديدة! فسألها جمال بحذر مستفسرًا: -هتاخدي حقك ازاي؟ فقالت برأس شامخة متكبرة: -ابعدها عن يونس، مش هرجعله طالما هو نسيني لان كرامتي متسمحليش! بس هي هتبعد عنه برضو! حينها زفر جمال بعمق قبل أن يسألها: -عايزاني اعمل إيه يا فيروز؟
فابتسمت ابتسامتها الهادئة الماكرة وهي تخبره على مهل...
دلف يونس للغرفة باهتياج دون أن يطرق الباب والشياطين تتراقص أمام عيناه، لتقف ليال متعجبة تسأله عاقدة ما بين حاجبيها: -في إيه يا يونس فقبض يونس على ذراعها بعنف دون أن يقصد من فرط غضبه وقد خرج صوته غليظ حاد وهو يسألها: -انتي خدتي فلوس من والدة فيروز عشان تعملي اللي عملتيه؟ يعني معملتيش كده عشان بتحبيني زي ما قولتي؟!
في القاهرة... كان طه يقف أمام مريم وذلك الرجل في احد الاركان متخفيين امام العمارة التي صار بها الحادث، فقالت مريم بلهجة سريعة آمرة تخبره: -فهمت هتعمل إيه؟ هتطلع كأنك طالع عادي، هتقول للظابط إن دي شقة صاحبك ده المعرفة وإنك كنت جاي انت ومراتك زيارة ليه ومراتك تعبت فـ إتصلتوا بأيسل عشان تيجي تشوفها لاخر مرة وأيسل جت هي وجوزها وانتوا سبتوهم مع بعض ونزلتوا تشتروا حاجة ولسه راجعين دلوقتي! تمام؟
فأومأ طه مؤكدًا برأسه، لو لم يفعل اصلاً لسُجن هو بتهمة قتلها... ابتلع ريقه وهو يتقدم من العمارة بأقدام مرتجفة وخلفه ذلك الشاب... ليسمع حارس العمارة يضرب كفًا على كف وهو يتابع قص ما حدث على مسامع ساكني العمارة: -وعقبال ما جيت لقيت واحدة كده شعرها احمر نازله مع واحد بيجروا وهي عماله تقوله ماتت ماتت وطبعا ما حطتش في بالي، معرفش إن الموضوع فيه جريمة قتل!
فتسرب الأمل لقلب طه المُظلم وهو يدرك أنه لن يتعب كثيرًا حتى تلتصق الجريمة بـ أيسل وبدر...