رواية شظايا قسوته للكاتبة رحمة سيد الفصل الحادي عشر
ومن دون مقدمات وجدت نفسها هي من أسفله، هو من يطل عليها بهيئته الشامخة.. كالعادة عيناه السوداء الحادة كسيف مميت تخترقها، وزفرات الهواء الخشنة تلفح صفحة وجهها الأبيض.. لتغلق عيناها خشيةً من تلك النظرات التي تهدم أي ثبات داخلها! تشكل هجومًا عنيفًا على خصوصيتها في الثبات والأستقلال امامه! بينما هي في دائرة ذاك الأقتراب الخطر، وما يعني أن دقاتها تُبطئ بخوف رويدًا رويدًا!
قطع ذاك الصمت صوته الأجش وهو يسألها: كنتِ بتعملي إية؟ رفعت كتفيها قليلاً تحاول إختلاف البرود: كنت آآ كنت بس بجيب الهدوم المش نضيفة عشان داده فاطيما هي اللي طلبت مني، غير كدة والله مكنتش طلعت صدقني وبعدين انا مش مستغنية عن آآ.. قاطعها بجدية خبيثة: هشش افصلي شوية، وبعدين حد قالك إن الهدوم عليا ولا إية؟ همست ببلاهة: أكيد لأ يعني رفع حاجبه الأيسر يسألها: امال إية مدت يدها تحاول دفعه متابعة بتلعثم:.
طب آآ ابعد بقا لو سمحت سألها بعبث: ولو مابعدتش؟ ولا تعرف ما جعلها تتحداه بقولها: هقول لخالتو جميلة ودادة فاطيما، الصقر حابسني في اوضة كادت تنطلق منه ضحكة خافتة على تلك الطفلة التي بين يديه، والان ادرك سبب انجذاب الجميع لها روحها التي تأسرهم بخيوط طيبتها وحنانها! واجاب بجدية مصطنعة: قولتلك أنا الصقر، مابخافش من اي حد غير اللي خلقني اومأت مسرعة بتوتر انتهى من افتراشه على ملامحها التي كانت هادئة:.
طيب انت اصلا مفيش حد زيك، ممكن تبعد عشان لو حد شافنا هتحصل حاجة مش كويسة ابداً مط شفتيه وهو يردف: معنديش اي مشكلة عادي يعني هما متعودين على كدة ووغزة في قلبها جعلتها تسأله: اية ده، يعني متعودين يدخلوا يلاقوك مع واحدة في اوضتك!؟ ولاحت ذكرى تقبيله للفتاة جالبه معها نكد فطري للأنثى - المصرية - في اوقات التوتر! اقترب اكثر ليداعب انفها بأنفه مشاكسًا: وإنتِ مالك اتضايقتِ لية؟ هزت رأسها نافية:.
لا خالص وانا مالي اصلاً اقترب رويدًا رويدًا، وكاد يلتهم شفتاها فأبعدت رأسها على الفور لتتفاداه فارتكزت القبلة على رقبتها البيضاء التي ظهرت أسفل حجابها! وشعرت انه صك ملكية لها إهانة ابدية! ثم دفعته بكامل قواها المختزنة، وابتعد هو بأرادته فنهضت وكادت تسير إلا انه اوقفها: هو انا قولت لك تمشي؟ أمر جديد يقيدها دون إرادتها، قيده كلمة منه! ولكن كلمة ملغمة بالتهديد المعهود في نبراته..
فألتفتت له متساءلة بخجل وضيق معًا: نعم في حاجة تاني؟ غمز لها بطرف عيناه متابعًا: ماخدتيش الهدوم ابتسمت نصف ابتسامة محرجة من الأرتباك الذي فرض مقاليده على ذاكرتها فأنساها ما أتت له! ولأول مرة يبادلها الأبتسامة الهادئة! معجزة ستدون في تاريخهما معًا الصقر يبادلها الابتسامة؟! إلتفتت تأخذ الملابس مسرعة متلعثمة، لتسمع صوته الجاد وهو يدعك رأسه: اعمليلي كوباية قهوة يا سيلا لو سمحتِ اعترضت هادئة:.
مينفعش قهوة على الريق كدة هز رأسه نافيًا بنفس وتيرة الهدوء: لأ انا مش لسة صاحي، صاحي من بدري بس كنت بشتغل وغفيت في النوم اومأت موافقة: حاضر ثم إستدارت تغادر، تركته متعجبًا من حالة الهدوء تلك! والأعجب الصقر يبرر لشخصًا؟! ضرب رأسه برفق هامسًا لنفسه: في إية فوق من امتى وانت بتبرر تصرفاتك لحد!
دلفت رقية إلى غرفتها بهدوء، إرهاق يتلبسها من نومتها على الأريكة في المستشفى بجوار جدها.. بالطبع السبب إصرارها على البقاء.. لم تفعل شيئ وفجأة وجدت مجدي يضيئ النور جالسًا على طرف الفراش! نظرت له بذهول للحظات قبل أن تسأله ببلاهة: مجدي إنت هنا؟ سؤالها بالرغم من سذاجته، إلا انه وصله مرافقًا بالصدمة وعدم الرغبة! فنهض يقول بسخرية: أية مكنتيش متوقعة أني اجي ولا أية؟ ونفسها الثائرة الغاضبة...
كرامتها كزوجة وانثى عاشقة، هي من نطقت بحروف كستها بالحدة والسخرية: اه مكنتش متوقعة ولا عايزة اصلاً طحظت عيناه بصدمة فلم تعطيه فرصو للرد وقالت: اصل عرفت ان صباحيتك النهاردة صح مبروك للحظة كان سيتهاون أمام الحزن الذي قرأه بين سطور عيناها... سينسى كالعادة ويتغاضى ليأخذها في رحلة جديدة من العشق يعلمها فيها حروف الأبجدية! ولكن كلمات والدته ترن في اذنيه كأجراس تأمره ببدء الحرب واخذ الثأر!
فبادلها بنظرات قاسية وهو يردف مزمجرًا: انا حر اجي وقت ما اجي عشان اشوف مراتي، واه كانت صباحيتي عاجبك ولا مش عاجبك؟! لا تصدق ذاك الجبروت والبرود الذي يضعهم امامها كغلاف لعيناه المبررة! ولكنها الاخرى اومأت ببرود: اه مش عاجبني، وبعدين خلاص مبقاش من حقك واصطنع عدم فهم مغزى عبارتها الذي كان يظهر بكل وضوح وهو يسألها: يعني أية؟ رفعت كتفيها مجيبة ببرود:.
مش معقول الحاجة الوالدة ماقالتلكش ولا اية، تؤ تؤ ماتقوليش انها اتكرمت وكانت بتحافظ على بيت ابنها اللي هي عايزه تخربه اصلاً كز على أسنانه بغيظ وقال محذرًا: رقية أعرفي لكلامك عشان مش همسك أعصابي اكتر من كدة وجدتها كحلقة امامها مفتوحة لتدلف فيها لتحرقه اكثر كما احترقت هي ولكنها لم تلحظ أنها من الممكن أن تُحرق هي، وصاحت فيه مشيرة:.
لا مش هراعي، مش هراعي ومش هعرف لكلامي زي ما انت ماراعتش شعوري لما روحت اتجوزت عشان تخلف، ماراعتش أن انا كمان اكيد نفسي اخلف، ماراعتش أن كل ده بسببك اصلاً انت بس، أنت اللي حرمتنا إحنا الاتنين من الحق ده إتسعت حدقتا بصدمة! توقع جرحها وحزنها منه، ولكن لم يتوقع ذاك العمق الذي يجعلها تُسبب الاسباب بشكل خاطئ - من وجهة نظره - فسألها هامسًا بصدمة:.
أنا السبب! اللي يشوفك يقول إن انا فضلت اصلي وادعي ان ربنا يجعلك مابتخلفيش؟! وهي الاخرى لم تصدق ما قالته، تركت لجام غضبها قليلاً فكادت تحرق نفسها بهذا الغضب قبله! ويا ويلها أن علم أنها تأخذ - مانع للحمل - بأستمرار!؟ هزت رأسها نافية بيأس: خلاص على العموم الكلام مابقاش ينفع يا مجدي تغاضى عن كلامها وهو يسألها بغضب اعمى لإهانة والدته: ثم أنك ازاي تعملي مع امي كدة، وهي في بيتك كمان؟! اجابته دون تردد بحماقة:.
وأنت كنت عايزني اعمل اية، ده كويس جدًا إن معملتش اكتر من كدة كمان وعندما تتكاثر الصدمة عليك في شخصًا كنت تعتقده شيئً كامل ما به سوى ثقوب صغيرة! وتتفاجئ أن تلك الثقوب اصبحت حفرة واسعة، وجدًا! تزداد رغبتك في حرق ذاك العشق لتظهر رائحته إن كان له رائحة! أشار لها بيده مذهولاً: يعني إنتِ بتقولي ادامي عادي ومش هامك أن دي امي؟! اومأت بكل برود: ايوة لان انا مغلطتش كنت باخد حقي وكلاً منهم يرى من قالب معين..
هي لم تهين والدته من الأساس وهو يراها تتفاخر بإهانة والدته امامه! وعُقد لسانه فلم يجد سوى الصفعة ردًا على إهانة تردد صداها عليه هو! ولم تجد هي سوى الصراخ في وجهه باهتياج: طلقني يا مجدي، طلقني انا مستحيل اعيش معاك اومأ بأنفعال: هطلقك يا رقية لإن انا مابقتش عايز واحدة بتهين امي ومابتخجلش من غلطها!
ركض ياسين لسيارته منطلقًا لدار الأيتام! ألف فكرة وفكرة مخيفة وردت على عقله فجعلته يسرع اكثر كطير يرغب التحليق ليلحق بما تبقى من الأمل! قلبه يعتصر بخوف حقيقي، يعتصر بعصابة مميتة تشكلت على هيئة جملته السابقة للمرضة: أقفلوا عليها الباب وأنا جاي لعن لسانه في تلك اللحظة.. يا ليته لم يخبرها بأغلاق ذاك الباب! يا ليته لم ينطقها ويأسرها مع وحوشها الخيالية فلا تجد من تختبئ خلفه.
فتُفضل حافة الموت لتختفي خلفها ومعها! وصل امام الدار فترجل من سيارته وقدماه تتحرك نحو الداخل تلقائيًا.. وجد سيارة الأسعاف امام الدار.. فازداد قلقه اضعافًا! دلف ليجدهم يحملوها متجهين لسيارة الأسعاف.. ظل يمسح على شعره عدة مرات وهو يرى صفحة وجهها الأبيض اصبحت شاحبة كشحوب الموتى.. الدماء تغطي يدها اليمنى! وشفتاها الوردية اصبحت كزهرة ذبلت! شفتاها فقط..
اصبحت هي شخصيًا زهرة لم تجد حارسها فاختارت الذبلان طريقًا إجباريًا!؟ واللوم لنفسه لا يتركه فيلتف حوله كسلاسل حديدية تخنقه.. اتجه لسيارة الأسعاف، فسأل الطبيب بوجه واجم: هينفع أركب معاها؟ سأله بهدوء: بصفتك؟ اجابه بأسف: الدكتور النفسي بتاعها، بس ضروري أكون معاها اومأ الاخر مشيرًا لها: طيب يلا بسرعة عشات بتنزف استقل السيارة معهم وتلقائيًا امسك يدها، وهو جالس لجوارها يهمس بأسمها بحزن وضيق: نادين، أنا اسف.
ولكن بالطبع لا من مجيب، سمع فقط همسه صدرت بصعوبة: س سليم! بالرغم من صدمته، من تعجبه وأندهاشه، إلا ان جزءً من الاطمئنان طاف بخلده، على الاقل هي بخير الان! ماذا عساه أن يفعل؟! اخرج بهاتفه ليتصل بتلك الممرضة، والتي اجابته بسرعة: ايوة يا دكتور ياسين؟ مين سليم اللي بتقول أسمه؟ اخوها يا دكتور اخوها ازاي؟! اللي جابها هنا يعني قصدي على العموم مش وقته، أتصلي بيه وعرفيه اللي حصل خليه يجي على المستشفى.
على اي حال هو هيعرف لأنه صاحب الدار، لكن حاضر هاتصل بيه حالاً سلام مع السلامة اغلق الهاتف وهو يتنهد بقوة.. يسأل نفسه بحيرة لمَ شعر بفتيل حارق داخله يشتعل من همستها تلك؟!
جلس سليم مع جميلة في مربع اسرارها - حديقة المنزل الواسعة - يرتشف القهوة بهدوء في الهواء الطلق.. عله يفرغ عقله من تساؤلات كثيرة متشابكة بعقله لا تتركه! نظر لخالته التي كان حالها لا يختلف عن حاله كثيرًا وقال بهدوء: بقولك إية يا خالة حانت منها إلتفاته منتبهة، ليسألها: متعرفيش دارين هنا في الأقصر ولا لا رفعت كتفيها مجيبة بلامبالاة: لا والله معرفش، ده انا حتى مابكلمش امها بقالي شوية كدة.
عقد ما بين حاجبيه بسخرية غير مقصودة: لية يا خالة مش دي اختك وبنت اختك الأمورة اللي دبستيني في خطوبتها قهقهت جميلة متابعة: لا صدقني يا سليم البنت مش وحشة، هي بس محتاجة شوية تظبيط وانا متأكدة أنك انت اللي هتعمل كدة اومأ بغرور لا يصطنعه.. كلامها يشبع غزيرته الرجولية الحادة المتكبرة! وإرتشف من القهوة قائلاً: اه طبعاً هو انا اي حد، ده انا سليم الصقر ووجدت حنينها لأستسلامه هو من يسأله: لأمتى يا سليم؟
إلتفت لها بهدوء: لأمتى اية؟ اكملت بتنهيدة: لأمتى هتفضل تقول سليم الصقر، إنت مش سليم الصقر، ليك اسم عيلة يا حبيبي عائلة! كلمة وضع عليها - غبارًا - من النسيان عن عمد! كلمة كرهها حرفيًا ولم يعد يريد حتى تدخلها ولو بلفظ في حياته! وأردف بعنف وهو يترك قهوته: لأ يا خالة، اسمي سليم الصقر بس، وأن كنتِ بتحبيني فعلاً ماتجبيش السيرة دي ادامي تاني وكالعادة كادت تعترض، ولكن قاطعتها رنات هاتف سليم.
التي وكأنها شعرت بدقاته التي كادت تتوقف من كثرة الأنفعال! ليجيب سليم بجدية: الوو نعم وحدق امامه وهو ينهض: نعممممم، انا جاي حالاً واغلق الهاتف ليهرع لغرفته ركضًا لتبديل ملابسه والاتجاه للمستشفى دون ان يشرح حتى لخالته التي سألته بقلق!
أمام المنزل، بمسافة متوسطة الى حدا ما، كانا رجلان ملثمان، ذوي عضلات مفتولة وملابس سوداء توازي حلكة قلوبهم الخاضعة تحت حب الأموال وطاعة من يعطيها لهم! رفع احدهم الهاتف يجيب: ايوة يا باشا انتوا فين، وشوفتوه ولا لا اهوو خارج ادامي يا باشا قالها وهو يراقب بعيناه سليم الذي خرج لتوه من المنزل مسرعًا فأمره الاخر: تدخلوا براحة وبدون مشاكل محدش يحس بيكم فتابع الاخر مؤكدًا: حاضر يا باشا حاضر.
تخلصوا اللي امرتكم بيه وتمشوا علطول اوامرك بس لو حد حس اوعوا تستسلموا ليه وخلصوا عليه هو كمان اكيد يا باشا خلص واديني خبر حاضر يا باشا تحت امرك.
أغلق الهاتف وهو ينظر لصديقه هامسًا بخبث: يلا يابني، قتلة تفوت ولا حد يموت!
رواية شظايا قسوته للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني عشر
أستعدت سيلا للرحيل، استعدت للفرار من مستنقع الإهانات التي لم تُنسب لها من الأساس! واستأذنت فاطيما في بعض الأموال للعودة للقاهرة، وبالطبع لم تمنع الاخرى بسبب جهلها في الأمر، والطيبة التي غمرت بها سيلا! ظلت تنظر بكل جزء من المنزل بابتسامة لا تعرف هي حزينة، ام سعيدة للعودة، ام مشتاقة!؟ لن تخبر أي شخص بذاك الرحيل؟! لن تتركهم يؤثروا عليها ولو للحظة، إن كانت ستشتاق لهم ذرة أشتياق..
فأشتياقها لأهلها اضعاف الذرات التي تحثها على الإسراع! ولا تعرف تحديدًا ما الذي اجبرها على الاتجاه لغرفة سليم في هذا الوقت تحديدًا الذي تعلم فيه أنه غير متواجد! السبب مجهول، واجابته غير مرغوب بها ابدًا! وصلت امام الغرفة، وشيئ خفي يجعلها تُكمل ما أتت له! تريد سبر أغوار غامض وحاد ولو مرة!؟ فتحت الباب ودلفت لتغلق الباب خلفها شعرت بحركة خفيفة في الغرفة فأنقبض قلبها بين ضلوعها بخوف بدء يتسلل لخلاياها وهمست:.
في حد هنا؟! من تهاتف وهي تعلم أنه من المفترض عدم تواجد أي شخص!؟ وعند هذه النقطة اضطربت انفاسها، وأمتلك القلق قلبها بقبضته... إلتفتت مرة اخرى بفزع: مييييين!؟ بينما الاخرون يشيران لبعضهما، فأشار احداهما للأخر فانطلق باتجاه سيلا التي ما إن استدارت حتى فاجئها بقطعة قطنية مخدرة افقدتها وعيها على الفور!
وصل سليم ركضًا نحو المستشفى، وقلبه لا يتركه الهلع والأرتياع.. هلع من فقدان ما لا طاقة له به، فقدان سيأسره خلف جدران الوحدة والانتقام مرة اخرى! وهل له من طاقة للمتابعة؟! وبلا شك بالطبع لا، نفذت وأنتهى الأمر.. وسؤاله للأستقبال المعتاد ليتجه للغرفة التي قطنت بها شقيقته المعنوية.. ليجد ياسين يجلس امام الباب ويداه تحيط بوجهه الأسمر، تحيطه علها تخفي خطوط الأسف واليأس من على محياه! فسأله سليم مسرعًا:.
فين نادين؟ وبادله الاخر السؤال: إنت اخوها؟ اومأ سليم مؤكدًا: ايوة انا تنهد ياسين وهو يشرحله مهدئًا... هدوء! لم يذقه هو منذ ما حدث، والان يرويه بجدية عارمة وكأنه ساقي ظمأن يروي زهوره! : الحمدلله الدكتور خرج وطمني، آآ اقصد طمنا يعني، هي بقت كويسة هي بس نزفت كتير عشان كدة اغمى عليها لكن هي بخير، وعملولها ايدها اومأ سليم زافرًا بارتياح: الحمدلله.
وسرعان ما سأله بحدية الصقر التي تظهر - تلقائيًا - عند الخطأ وكأنه عقاب لا ينتظر الحكم: إزاي قدرت تمسك حاجة تنتحر بيها، وأية اللي وصلها لكدة، مش حضرتك الدكتور المسؤل عن نفسيتها اومأ مؤكدًا بأسف: ايوة يا استاذ سليم، بس حضرتك انا كنت ف بيتي وقت ما عملت اللي عملته، وحقيقي أنا مش فاهم إية اللي وصلها لكدة، مجرد شك بس بالرغم من تأكده مما حدث.. بالرغم من يقينه أنه كان سببًا مشتركًا فيما حدث لها!
إلا انه نفى عله يخفف تلك السلاسل عن عنقه قليلاً! فسأله سليم مضيقًا ما بين عيناه: أكيد هنتكلم وهفهم كل ده، بس أتطمن عليها دلوقتِ اومأ وهو يشير نحو الغرفة: طيب، هي في الأوضة سأله مستفسرًا: لوحدها ولا في حد؟ ورد بجدية: المساعدة كانت معاها جوة وخرجت من دقايق أتجه سليم للداخل فوجد نادين قد عادت لشرودها الأبدي مرة اخرى.. فاقترب منها هامسًا بحنان قبل أن يحتضنها: نادووو، سلامتك يا حبيبة أخوكِ.
وابتسامة ضعيفة لم تنتظر الأذن شقت شفتاها المرتعشة! وكأن الاستجابة لا تظهر إلا عند دفعة الحنان؟! نظر في عيناها وهو يمسك وجهها بين يديه الخشنة برفق ليسألها وكأنها شخصًا طبيعيًا يتحدث معه: سمعت أنك قولتي اسمي وإنتِ بتفقدي الوعي لم يجد استجابة فأكمل بتنهيدة حارة: صدقيني يا نادين زي ما إنتِ محتاجاني أنا محتاجك أكتر بكتييير واحتضنها بحنان أخوي صادق.. وكان ياسين يراقبهم من خلف الزجاج بأعين متلهفة..
يخشى المواجهة بصعوبتها واعتذراتها واسفها المخزي، لا يرغبها بالمرة! أشار له سليم من الداخل فدلف بهدوء يقدم واحدة ويؤخر الاخرى.. أصبح امامهم تمامًا، فأشار سليم نحو ياسين هاتفًا بهدوء لنادين: فكراه يا نادو، ده ياسين الدكتور بتاعك وببطئ رفعت عيناها نحو ياسين الذي كان مترقبًا رد فعلها رمقته بسهام الخزي والخذلان! والخذلان من حنان كانت بحاجته فلم يكن بجوارها ليمدها به!
قطع حديثهم الصامت صوت الباب الذي فُتح لتوه بعد طرقة خفيفة على الباب، لتدلف الممرضة ممسكة بتقرير في يدها، وكادت تعطيه لياسين إلا ان سليم اخذه منها وهو يسألها بخشونة: إية ده؟ رفعت كتفيها تجيب متعجبة: ده تقريرها يا فندم سألها مرة اخرى: ايوة تقرير عن أية يعني مش هي كويسة؟ اومأت مؤكدة بهدوء: ايوة يا فندم هي بخير، بس ده تقرير من دكتور النساء في المستشفى عشان نطمن على مدام نادين بس! وصدمة كادت تصبح شهقة! مدام؟!
كانت رقية في غرفتها تُعد الحقائب الخاصة ب مجدي ! مجدي الذي أنطلق من ذاك المنزل خشيةً من فقدان أعصابه اكثر من ذلك فينهي اخر خيطًا يجمعهم معًا! نعم، مازال يبقي على حبًا نبت بداخله منذ زمن! إهانتها مؤلمة ولكن بُعدها اكثر إيلام! لن يريها قسوته الجامحة.. ولكنه سيُريها - شظايا قسوته -! بينما هي، كعادتها في تلك المواقف تسب وتلعن دون وعي.. والإسراع اول من يجول بخاطرها فيجعلها تقوم بما لا تتحمله لاحقًا!
انتهت من اعداد ملابسه في حقيبة واحدة استعدادًا لرحيله المؤكد! نظرت امامها وهي تزفر بغضب حقيقي حارق: ماشي أنا هوريكم مين هي رقية وفجأة صدح صوته متهكمًا: اممم يا ترى ست رقية هتعمل إية تاني اكتر من اللي عملته؟ نظرت له ببلاهة هامسة: إنت لحقت ترجع! اومأ ببرود وصوت صلبه: ايوة، قولت لك قبل كدة براحتي وعادت لها حماقتها وعِندها وهي ترد: لا مش براحتك، ويلا شنطتك أهي نظر لها ثم للحقيبة بذهول!
هل حقًا أرادت منه الرحيل؟!، لم تعد تتمسك به لهذه الدرجة! ازدادت المسافات بينهم لدرجة الاستسلام في الفراق! وقال بصوت أجش: لأ سألته بعدم فهم: لأ انا غيرت رأيي، مش هطلق فغرت فاهه وهي تسأله بحدة مفرطة: نعم يعني أية مش هتطلق هو احنا هنلعب ولا إية؟ ضحك بسخرية وهي يومئ: بالظبط كدة، لسة هنلعب وهوريكِ اللعب على أصوله دقائق مرت وهي مثبتة نظراتها المتعجبة عليه، لم تعتاده ساخر، لم تعتاده بارد، لم يكن هكذا ابدًا!
ترى الحزن والغضب سهامًا تُغير مجرى الحياة والحالة بهذه السرعة؟! خلع حذاؤه وهو يتابع آمرًا: روحي هاتِ لي مياة سخنة عشان تدلكِ لي رجلي هزت رأسها نافية دون تردد: لا طبعًا انت مجنون، مستحيل أعمل كدة رمقه بنظرات حادة مخيفة وصدح صوته محذرًا: لسانك ده اخر مرة هقولك خدي بالك منه، بعد كدة هقصهولك مش هفوت لان أنا مبقتش زي الأول فاهمة نظرت للجهة الأخرى بغيظ.
بالطبع لم يبقى كما كان، لم يعد يهدئ ويروي بل يغضب ويحتد ويجازي إن اضطر الأمر! فصاح فيها بجدية: ماسمعتيش ولا إية واتخذت العند الذي لم تجد غيره سبيلاً كالعادة ونطقت: لأ، ولو اجبرتني هقول لجدو وبابا هما كدة كدة زمانهم على وصول وكأنه تذكر فنهض متساءلاً: صح إنتِ كنتِ فين يا هانم من أمبارح مستني جنابك بالرغم من معرفته بأمر الزيارة، إلا انه وكأنه بسؤاله يرغب في تأكيد حق امتلاكه لها والذي لن ينتهي في عُرفه!
وردت هي ببرود: ملكش دعوة وفي لمح البصر كان مقتربًا منها يقبض على ذراعها بقوة، قوة بثها لها في نظراته او قبضته القاسية او سؤاله الجامد: انجزي يا رقية مش هتحايل عليكِ، كنتِ فين لحد الصبح إبتلعت ريقها بازدراء مجيبة: كنت عند جدو، في المستشفى اومأ وهو يسألها: ومقولتليش لية؟ أبعدت قبضته الحديدة التي تحكمها عن ذراعها وقالت: وهو حضرتك كنت موجود ولا كنت فاضي ليا عشان أقولك أشار للخارج ببرود قبل أن يبدء بخلع قميصه:.
طب يلا روحي هاتي المياة وتلقائيًا ابعدت بصرها عنه واضطرت للطاعة، سارت متجهه للخارج ولكن لمحته وهو يمد يده ليفتح الدرج فاسرعت نحوه في لمح البصر جعلته على الفراش وهي تطل فوقه! نظر لها بتعجب وهمس: في إية يا رقية؟ وهي كانت متوترة حد الجنون من هذا القرب، قلبها الذي يلامس قلبه تمامًا وكأنه امتزاج للعشق جعلها تتضطرب انفاسها... لم يكن امامها حل سوى هذا القرب..
أيمكن ان تكون تغترف من رؤياه وملامحه الجذابة لتملي شوقها الذي بدء يتدفق منها من الان؟! اقتربت منه اكثر والخوف هو من يحركها، يأمرها ويجبرها على القرب الحنون الذي حرمت نفسها منه! وهمست بجوار أذنه: متزعلش يا مجدي مد يده يتحسس جبينها بحركة مباغته من تغيير صُدم من ظهوره المفاجئ! فأمسكت بيده تقبلها بنعومة: مقدرش أزعلك لفترة طويلة لم تعطيه فرصة للأعتراض، فاقتربت اكثر تقبل شفتاه مغمضة العينان...
والاستسلام مر امام عيناها للحظة يدعوه له فيغدق زوجته عشقًا! ولكنه أبعده وهو يبعدها عنه بقوة لينهض قائلاً ببرود أتقنه: مكنش المفروض تعملي كدة من البداية وترجعي تندمي، مابقتش اتقبل ندمك خلااص!
جلست بدور بجوار والدة مجدي التي ظلت جالسة أمام التلفاز مع بدور، تشاهد باستمتاع وارتياح غريب يسكنها! ارتياح سكنها عند إتمام نصب خيوطها الخبيثة، وتنفيذ مجدي لتلك الخيوط! هي لم تحب رقية يومًا.. لم تحب شخصيتها القوية، العنيدة! لطالما حاولت منعه عن هذا الزواج، ولكن كل محاولاتها بائت بالفشل امام عشقهم المتين!
فلم تجد سوى الخبث وسيلة لأبعادهم، وقدم لها الحظ يد المساعدة فوجدت رقية لن تحقق أمنية ابنها الوحيدة! استفاقت من شرودها على صوت بدور المتنحنح: احم منورة يا طنط اجابتها ببرود: بنورك يا حبيبتي وبهدوء اصطنعته بمهارة سألتها: حضرتك ناوية تقعدي معانا اد اية يا طنط؟ رفعت حاجبها الأيسر متعجبة: اشمعنا يعني بتسألي سؤال زي ده؟ رفعت كتفيها مجيبة ببراءة لا تليق بخبث يموج بين جوفيها العميقين:.
عادي يعني عشان ابقى عاملة حسابي مش اكتر مطت شفتيها ببرود ثلجي: بصراحة لسة مش عارفة، ممكن 3 ايام وممكن اكتر اومأت الاخرى بينما خلاياها تجهر بالاعتراض! الاعتراض على غطاءً كاتم لراحتها ونعيمها بالهدوء ألا وهي والدته.. لم تتحمل خبثها والذي لحسن حظها كان شفاف امامها فماذا ستفعل إن حل هذا الخبث عليها كاللعنة لا تزول!؟ وفاجئتها بسؤالها:.
طيب بما اننا قاعدين مع بعض كتير لحد ما مجدي يرجع ما تحكِ لي يا طنط إية اللي حصل بينك وبين رقية بالظبط؟ كادت تستسلم للتوتر الراغب في السيطرة عليها كرد فعل طبيعي ولكن قالت بثبات ظاهري: ما انا حكيت ادامك كل حاجة لمجدي هزت بدور رأسها نافية: تؤ تؤ، انا متأكدة إن في حاجة حضرتك ماحكيتهاش يا طنط، او يمكن اتلخبطتي وبدلتيها بحاجة كدة ولا كدة جحظت عيناها من خبث رأته يوازي خبثها فبدى له مكشوفًا وغمغمت:.
نعم، إنتِ قصدك إية؟ رفعت كتفيها قائلة: مش قصدي حاجة اكيد، هو حضرتك فهمتي أية!؟ هزت رأسها: لا مفهمتش، اسكتِ واقفلي السيرة الفقر دي بقا هه اقتربت منها بدور هامسة بجوار اذنها: متأكدة إنك مش عاوزة تحكيلي حاجة يا طنط ده أنا حتى ممكن أساعدك إلتفتت لها متساءلة: تساعديني أزاي؟ زمت شفتيها مكملة: اساعدك يا طنط، وحضرتك اكيد فاهمة قصدي أية، ثم ان واضح إن رقية دي مفيش حد بيطيقها خالص اومأت مؤكدة: اه فعلاً.
فسألتها بحماس مشبع بالخبث: طب هاا بقا احكي لي يلا تنهدت الاخرى وهي تبدء بقص ما حدث بالتفصيل لتلك - العقربة - التي ظنتها ستساعدها فيما ارادته.. فستصبح هي اول من يتأذى بسمها ذاك!
وفي احدى المناطق الشبه خالية من السكان، لا يُسمع بها سوى صوت نسمات الهواء الطلق... وقفا الرجلان بهدوء بجوار بعضهما، ينتظران مقابلة من اوصاهم بفعل ما فعلوا فيخبروه بما حدث.. ومرت دقائق حتى وجدوه يترجل من سيارته السوداء الكبيرة الفاهرة.. اقترب منهم واضعًا يداه السمراء في جيب بنطاله الأسود، يرتدي نظارته التي تغطي عيناه السوداء - عادةً - وبغرور وكبرياء لا يليق بشخصًا مثله اقترب منهم فسارعوا بتحيته:.
اهلاً يا باشا نورت اومأ قبل أن يسألهم بجدية: فين الورق؟ نظرا لبعضهم قبل أن يقول احدهم متلعثمًا: آآ مفيش ورق للأسف يا باشا جحظت عيناه وهو يسأله مصدومًا: يعني إية مفيش ورق!؟ رفع كتفه متابعًا بصوته الأجش: يعني دورنا يا باشا وملقيناش الورق اللي حضرتك قولت عليه نهره بحدة: ومادورتوش في كل البيت لية كويس يا أغبية؟ هز رأسه نافيًا وبرر: يا باشا ده احنا عدينا الحراسة بمعجزة، والخدم مالي البيت جوة، رجالة وحريم.
ظل يمسح على شعره عدة مرات هاتفًا: أغبية الواحد مايعتمدش عليكم ابدًا أشار له الاخر بيده: يا باشا ده احنا كنا هنروح في داهية بسبب البت اللي دخلت سأله مضيقًا عيناه: بت مين؟ اجاب بلامبالاة: معرفش بتعمل إية بالظبط هناك، لكن فجأة لقيناها داخلة الأوضة علينا سأله مستفسرًا: اممم كمل انجز وعملتوا إية؟ رفعا كتفيهم معًا في صوتًا واحدًا: عملنا زي ما حضرتك قولت لنا اومأ موافقًا بغيظ:.
خلاص روح ياخويا انت وهو، اما اشوف اية الخطوة الجاية هبقى اكلمكم اومأوا مؤكدين: تحت امرك في اي وقت يا باشا ثم استداروا مغادرين... ليقف هو ينظر امامه بشرود هامسًا: شكلي هعمل معاك زي ما عملت مع أبوك زمان يا سليم، مش هستناك لما تخليني أعلن إفلاسي!
نامت نادين بعد وقت ليس بطويل، نامت واستسلمت للغفو عندما غمر الاطمئنان روحها فهدئ من روعها قليلاً.. اقتراب وقلق اثنان عليها.. احداهما أخيها بحق ولكن ليس بالدماء والاخر لا تعرف ما هو تحديدًا، ولكن يكفيها هالة الحنان الذي يحيطها به في قربه! وهذا ما ترغبه وكفى، حنان حُرمت منه فقط! اما سليم، فكان قلقه يُعلق في ذهنه افكارًا على اختًا يتيمة كادت تموت قهرًا.. وسؤالاً واحدًا دار بخلده كالطوفان.
هل هي متزوجة ؟! وياسين بالطبع كاد يجن وهو يفكر في اجابة لنفس السؤال... فنظر سليم لياسين الصامت بجواره ليسأله: هو انا عادي لو اخدتها معايا البيت؟ عقد ياسين حاجبيه وقال: أعتقد اه لان اساسًا وجودها في الدار مش ضروري اومأ سليم بعزم: هاخدها معايا البيت هبقى مطمن عليها اكتر تنهد ياسين شارحًا:.
كدة افضل، لاني اعتقد إن نادين محتاجة حنان بس، هي اتعرضت لصدمة دخلتها في الصمت ده، لكن لما تختلط بناس كويسة وحنونة عليها انا متأكد أن ده هيساعدها اومأ سليم موافقًا: تمام رن هاتفه فزفر وهو يخرجه من جيب بنطاله بهدوء ليجيب: ايووة يا صادق اجابه الاخر بصوت هلع: إلحجنا يا سليم بيه سأله سليك بفزع: في اية يا صادق البنت اللي بتشتغل هنا اللي اسمها سيلاااا لجيناها في اوضتك واجعة مغمًا عليها ومصابة باينها...
رواية شظايا قسوته للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني عشر
أستعدت سيلا للرحيل، استعدت للفرار من مستنقع الإهانات التي لم تُنسب لها من الأساس! واستأذنت فاطيما في بعض الأموال للعودة للقاهرة، وبالطبع لم تمنع الاخرى بسبب جهلها في الأمر، والطيبة التي غمرت بها سيلا! ظلت تنظر بكل جزء من المنزل بابتسامة لا تعرف هي حزينة، ام سعيدة للعودة، ام مشتاقة!؟ لن تخبر أي شخص بذاك الرحيل؟! لن تتركهم يؤثروا عليها ولو للحظة، إن كانت ستشتاق لهم ذرة أشتياق..
فأشتياقها لأهلها اضعاف الذرات التي تحثها على الإسراع! ولا تعرف تحديدًا ما الذي اجبرها على الاتجاه لغرفة سليم في هذا الوقت تحديدًا الذي تعلم فيه أنه غير متواجد! السبب مجهول، واجابته غير مرغوب بها ابدًا! وصلت امام الغرفة، وشيئ خفي يجعلها تُكمل ما أتت له! تريد سبر أغوار غامض وحاد ولو مرة!؟ فتحت الباب ودلفت لتغلق الباب خلفها شعرت بحركة خفيفة في الغرفة فأنقبض قلبها بين ضلوعها بخوف بدء يتسلل لخلاياها وهمست:.
في حد هنا؟! من تهاتف وهي تعلم أنه من المفترض عدم تواجد أي شخص!؟ وعند هذه النقطة اضطربت انفاسها، وأمتلك القلق قلبها بقبضته... إلتفتت مرة اخرى بفزع: مييييين!؟ بينما الاخرون يشيران لبعضهما، فأشار احداهما للأخر فانطلق باتجاه سيلا التي ما إن استدارت حتى فاجئها بقطعة قطنية مخدرة افقدتها وعيها على الفور!
وصل سليم ركضًا نحو المستشفى، وقلبه لا يتركه الهلع والأرتياع.. هلع من فقدان ما لا طاقة له به، فقدان سيأسره خلف جدران الوحدة والانتقام مرة اخرى! وهل له من طاقة للمتابعة؟! وبلا شك بالطبع لا، نفذت وأنتهى الأمر.. وسؤاله للأستقبال المعتاد ليتجه للغرفة التي قطنت بها شقيقته المعنوية.. ليجد ياسين يجلس امام الباب ويداه تحيط بوجهه الأسمر، تحيطه علها تخفي خطوط الأسف واليأس من على محياه! فسأله سليم مسرعًا:.
فين نادين؟ وبادله الاخر السؤال: إنت اخوها؟ اومأ سليم مؤكدًا: ايوة انا تنهد ياسين وهو يشرحله مهدئًا... هدوء! لم يذقه هو منذ ما حدث، والان يرويه بجدية عارمة وكأنه ساقي ظمأن يروي زهوره! : الحمدلله الدكتور خرج وطمني، آآ اقصد طمنا يعني، هي بقت كويسة هي بس نزفت كتير عشان كدة اغمى عليها لكن هي بخير، وعملولها ايدها اومأ سليم زافرًا بارتياح: الحمدلله.
وسرعان ما سأله بحدية الصقر التي تظهر - تلقائيًا - عند الخطأ وكأنه عقاب لا ينتظر الحكم: إزاي قدرت تمسك حاجة تنتحر بيها، وأية اللي وصلها لكدة، مش حضرتك الدكتور المسؤل عن نفسيتها اومأ مؤكدًا بأسف: ايوة يا استاذ سليم، بس حضرتك انا كنت ف بيتي وقت ما عملت اللي عملته، وحقيقي أنا مش فاهم إية اللي وصلها لكدة، مجرد شك بس بالرغم من تأكده مما حدث.. بالرغم من يقينه أنه كان سببًا مشتركًا فيما حدث لها!
إلا انه نفى عله يخفف تلك السلاسل عن عنقه قليلاً! فسأله سليم مضيقًا ما بين عيناه: أكيد هنتكلم وهفهم كل ده، بس أتطمن عليها دلوقتِ اومأ وهو يشير نحو الغرفة: طيب، هي في الأوضة سأله مستفسرًا: لوحدها ولا في حد؟ ورد بجدية: المساعدة كانت معاها جوة وخرجت من دقايق أتجه سليم للداخل فوجد نادين قد عادت لشرودها الأبدي مرة اخرى.. فاقترب منها هامسًا بحنان قبل أن يحتضنها: نادووو، سلامتك يا حبيبة أخوكِ.
وابتسامة ضعيفة لم تنتظر الأذن شقت شفتاها المرتعشة! وكأن الاستجابة لا تظهر إلا عند دفعة الحنان؟! نظر في عيناها وهو يمسك وجهها بين يديه الخشنة برفق ليسألها وكأنها شخصًا طبيعيًا يتحدث معه: سمعت أنك قولتي اسمي وإنتِ بتفقدي الوعي لم يجد استجابة فأكمل بتنهيدة حارة: صدقيني يا نادين زي ما إنتِ محتاجاني أنا محتاجك أكتر بكتييير واحتضنها بحنان أخوي صادق.. وكان ياسين يراقبهم من خلف الزجاج بأعين متلهفة..
يخشى المواجهة بصعوبتها واعتذراتها واسفها المخزي، لا يرغبها بالمرة! أشار له سليم من الداخل فدلف بهدوء يقدم واحدة ويؤخر الاخرى.. أصبح امامهم تمامًا، فأشار سليم نحو ياسين هاتفًا بهدوء لنادين: فكراه يا نادو، ده ياسين الدكتور بتاعك وببطئ رفعت عيناها نحو ياسين الذي كان مترقبًا رد فعلها رمقته بسهام الخزي والخذلان! والخذلان من حنان كانت بحاجته فلم يكن بجوارها ليمدها به!
قطع حديثهم الصامت صوت الباب الذي فُتح لتوه بعد طرقة خفيفة على الباب، لتدلف الممرضة ممسكة بتقرير في يدها، وكادت تعطيه لياسين إلا ان سليم اخذه منها وهو يسألها بخشونة: إية ده؟ رفعت كتفيها تجيب متعجبة: ده تقريرها يا فندم سألها مرة اخرى: ايوة تقرير عن أية يعني مش هي كويسة؟ اومأت مؤكدة بهدوء: ايوة يا فندم هي بخير، بس ده تقرير من دكتور النساء في المستشفى عشان نطمن على مدام نادين بس! وصدمة كادت تصبح شهقة! مدام؟!
كانت رقية في غرفتها تُعد الحقائب الخاصة ب مجدي ! مجدي الذي أنطلق من ذاك المنزل خشيةً من فقدان أعصابه اكثر من ذلك فينهي اخر خيطًا يجمعهم معًا! نعم، مازال يبقي على حبًا نبت بداخله منذ زمن! إهانتها مؤلمة ولكن بُعدها اكثر إيلام! لن يريها قسوته الجامحة.. ولكنه سيُريها - شظايا قسوته -! بينما هي، كعادتها في تلك المواقف تسب وتلعن دون وعي.. والإسراع اول من يجول بخاطرها فيجعلها تقوم بما لا تتحمله لاحقًا!
انتهت من اعداد ملابسه في حقيبة واحدة استعدادًا لرحيله المؤكد! نظرت امامها وهي تزفر بغضب حقيقي حارق: ماشي أنا هوريكم مين هي رقية وفجأة صدح صوته متهكمًا: اممم يا ترى ست رقية هتعمل إية تاني اكتر من اللي عملته؟ نظرت له ببلاهة هامسة: إنت لحقت ترجع! اومأ ببرود وصوت صلبه: ايوة، قولت لك قبل كدة براحتي وعادت لها حماقتها وعِندها وهي ترد: لا مش براحتك، ويلا شنطتك أهي نظر لها ثم للحقيبة بذهول!
هل حقًا أرادت منه الرحيل؟!، لم تعد تتمسك به لهذه الدرجة! ازدادت المسافات بينهم لدرجة الاستسلام في الفراق! وقال بصوت أجش: لأ سألته بعدم فهم: لأ انا غيرت رأيي، مش هطلق فغرت فاهه وهي تسأله بحدة مفرطة: نعم يعني أية مش هتطلق هو احنا هنلعب ولا إية؟ ضحك بسخرية وهي يومئ: بالظبط كدة، لسة هنلعب وهوريكِ اللعب على أصوله دقائق مرت وهي مثبتة نظراتها المتعجبة عليه، لم تعتاده ساخر، لم تعتاده بارد، لم يكن هكذا ابدًا!
ترى الحزن والغضب سهامًا تُغير مجرى الحياة والحالة بهذه السرعة؟! خلع حذاؤه وهو يتابع آمرًا: روحي هاتِ لي مياة سخنة عشان تدلكِ لي رجلي هزت رأسها نافية دون تردد: لا طبعًا انت مجنون، مستحيل أعمل كدة رمقه بنظرات حادة مخيفة وصدح صوته محذرًا: لسانك ده اخر مرة هقولك خدي بالك منه، بعد كدة هقصهولك مش هفوت لان أنا مبقتش زي الأول فاهمة نظرت للجهة الأخرى بغيظ.
بالطبع لم يبقى كما كان، لم يعد يهدئ ويروي بل يغضب ويحتد ويجازي إن اضطر الأمر! فصاح فيها بجدية: ماسمعتيش ولا إية واتخذت العند الذي لم تجد غيره سبيلاً كالعادة ونطقت: لأ، ولو اجبرتني هقول لجدو وبابا هما كدة كدة زمانهم على وصول وكأنه تذكر فنهض متساءلاً: صح إنتِ كنتِ فين يا هانم من أمبارح مستني جنابك بالرغم من معرفته بأمر الزيارة، إلا انه وكأنه بسؤاله يرغب في تأكيد حق امتلاكه لها والذي لن ينتهي في عُرفه!
وردت هي ببرود: ملكش دعوة وفي لمح البصر كان مقتربًا منها يقبض على ذراعها بقوة، قوة بثها لها في نظراته او قبضته القاسية او سؤاله الجامد: انجزي يا رقية مش هتحايل عليكِ، كنتِ فين لحد الصبح إبتلعت ريقها بازدراء مجيبة: كنت عند جدو، في المستشفى اومأ وهو يسألها: ومقولتليش لية؟ أبعدت قبضته الحديدة التي تحكمها عن ذراعها وقالت: وهو حضرتك كنت موجود ولا كنت فاضي ليا عشان أقولك أشار للخارج ببرود قبل أن يبدء بخلع قميصه:.
طب يلا روحي هاتي المياة وتلقائيًا ابعدت بصرها عنه واضطرت للطاعة، سارت متجهه للخارج ولكن لمحته وهو يمد يده ليفتح الدرج فاسرعت نحوه في لمح البصر جعلته على الفراش وهي تطل فوقه! نظر لها بتعجب وهمس: في إية يا رقية؟ وهي كانت متوترة حد الجنون من هذا القرب، قلبها الذي يلامس قلبه تمامًا وكأنه امتزاج للعشق جعلها تتضطرب انفاسها... لم يكن امامها حل سوى هذا القرب..
أيمكن ان تكون تغترف من رؤياه وملامحه الجذابة لتملي شوقها الذي بدء يتدفق منها من الان؟! اقتربت منه اكثر والخوف هو من يحركها، يأمرها ويجبرها على القرب الحنون الذي حرمت نفسها منه! وهمست بجوار أذنه: متزعلش يا مجدي مد يده يتحسس جبينها بحركة مباغته من تغيير صُدم من ظهوره المفاجئ! فأمسكت بيده تقبلها بنعومة: مقدرش أزعلك لفترة طويلة لم تعطيه فرصة للأعتراض، فاقتربت اكثر تقبل شفتاه مغمضة العينان...
والاستسلام مر امام عيناها للحظة يدعوه له فيغدق زوجته عشقًا! ولكنه أبعده وهو يبعدها عنه بقوة لينهض قائلاً ببرود أتقنه: مكنش المفروض تعملي كدة من البداية وترجعي تندمي، مابقتش اتقبل ندمك خلااص!
جلست بدور بجوار والدة مجدي التي ظلت جالسة أمام التلفاز مع بدور، تشاهد باستمتاع وارتياح غريب يسكنها! ارتياح سكنها عند إتمام نصب خيوطها الخبيثة، وتنفيذ مجدي لتلك الخيوط! هي لم تحب رقية يومًا.. لم تحب شخصيتها القوية، العنيدة! لطالما حاولت منعه عن هذا الزواج، ولكن كل محاولاتها بائت بالفشل امام عشقهم المتين!
فلم تجد سوى الخبث وسيلة لأبعادهم، وقدم لها الحظ يد المساعدة فوجدت رقية لن تحقق أمنية ابنها الوحيدة! استفاقت من شرودها على صوت بدور المتنحنح: احم منورة يا طنط اجابتها ببرود: بنورك يا حبيبتي وبهدوء اصطنعته بمهارة سألتها: حضرتك ناوية تقعدي معانا اد اية يا طنط؟ رفعت حاجبها الأيسر متعجبة: اشمعنا يعني بتسألي سؤال زي ده؟ رفعت كتفيها مجيبة ببراءة لا تليق بخبث يموج بين جوفيها العميقين:.
عادي يعني عشان ابقى عاملة حسابي مش اكتر مطت شفتيها ببرود ثلجي: بصراحة لسة مش عارفة، ممكن 3 ايام وممكن اكتر اومأت الاخرى بينما خلاياها تجهر بالاعتراض! الاعتراض على غطاءً كاتم لراحتها ونعيمها بالهدوء ألا وهي والدته.. لم تتحمل خبثها والذي لحسن حظها كان شفاف امامها فماذا ستفعل إن حل هذا الخبث عليها كاللعنة لا تزول!؟ وفاجئتها بسؤالها:.
طيب بما اننا قاعدين مع بعض كتير لحد ما مجدي يرجع ما تحكِ لي يا طنط إية اللي حصل بينك وبين رقية بالظبط؟ كادت تستسلم للتوتر الراغب في السيطرة عليها كرد فعل طبيعي ولكن قالت بثبات ظاهري: ما انا حكيت ادامك كل حاجة لمجدي هزت بدور رأسها نافية: تؤ تؤ، انا متأكدة إن في حاجة حضرتك ماحكيتهاش يا طنط، او يمكن اتلخبطتي وبدلتيها بحاجة كدة ولا كدة جحظت عيناها من خبث رأته يوازي خبثها فبدى له مكشوفًا وغمغمت:.
نعم، إنتِ قصدك إية؟ رفعت كتفيها قائلة: مش قصدي حاجة اكيد، هو حضرتك فهمتي أية!؟ هزت رأسها: لا مفهمتش، اسكتِ واقفلي السيرة الفقر دي بقا هه اقتربت منها بدور هامسة بجوار اذنها: متأكدة إنك مش عاوزة تحكيلي حاجة يا طنط ده أنا حتى ممكن أساعدك إلتفتت لها متساءلة: تساعديني أزاي؟ زمت شفتيها مكملة: اساعدك يا طنط، وحضرتك اكيد فاهمة قصدي أية، ثم ان واضح إن رقية دي مفيش حد بيطيقها خالص اومأت مؤكدة: اه فعلاً.
فسألتها بحماس مشبع بالخبث: طب هاا بقا احكي لي يلا تنهدت الاخرى وهي تبدء بقص ما حدث بالتفصيل لتلك - العقربة - التي ظنتها ستساعدها فيما ارادته.. فستصبح هي اول من يتأذى بسمها ذاك!
وفي احدى المناطق الشبه خالية من السكان، لا يُسمع بها سوى صوت نسمات الهواء الطلق... وقفا الرجلان بهدوء بجوار بعضهما، ينتظران مقابلة من اوصاهم بفعل ما فعلوا فيخبروه بما حدث.. ومرت دقائق حتى وجدوه يترجل من سيارته السوداء الكبيرة الفاهرة.. اقترب منهم واضعًا يداه السمراء في جيب بنطاله الأسود، يرتدي نظارته التي تغطي عيناه السوداء - عادةً - وبغرور وكبرياء لا يليق بشخصًا مثله اقترب منهم فسارعوا بتحيته:.
اهلاً يا باشا نورت اومأ قبل أن يسألهم بجدية: فين الورق؟ نظرا لبعضهم قبل أن يقول احدهم متلعثمًا: آآ مفيش ورق للأسف يا باشا جحظت عيناه وهو يسأله مصدومًا: يعني إية مفيش ورق!؟ رفع كتفه متابعًا بصوته الأجش: يعني دورنا يا باشا وملقيناش الورق اللي حضرتك قولت عليه نهره بحدة: ومادورتوش في كل البيت لية كويس يا أغبية؟ هز رأسه نافيًا وبرر: يا باشا ده احنا عدينا الحراسة بمعجزة، والخدم مالي البيت جوة، رجالة وحريم.
ظل يمسح على شعره عدة مرات هاتفًا: أغبية الواحد مايعتمدش عليكم ابدًا أشار له الاخر بيده: يا باشا ده احنا كنا هنروح في داهية بسبب البت اللي دخلت سأله مضيقًا عيناه: بت مين؟ اجاب بلامبالاة: معرفش بتعمل إية بالظبط هناك، لكن فجأة لقيناها داخلة الأوضة علينا سأله مستفسرًا: اممم كمل انجز وعملتوا إية؟ رفعا كتفيهم معًا في صوتًا واحدًا: عملنا زي ما حضرتك قولت لنا اومأ موافقًا بغيظ:.
خلاص روح ياخويا انت وهو، اما اشوف اية الخطوة الجاية هبقى اكلمكم اومأوا مؤكدين: تحت امرك في اي وقت يا باشا ثم استداروا مغادرين... ليقف هو ينظر امامه بشرود هامسًا: شكلي هعمل معاك زي ما عملت مع أبوك زمان يا سليم، مش هستناك لما تخليني أعلن إفلاسي!
نامت نادين بعد وقت ليس بطويل، نامت واستسلمت للغفو عندما غمر الاطمئنان روحها فهدئ من روعها قليلاً.. اقتراب وقلق اثنان عليها.. احداهما أخيها بحق ولكن ليس بالدماء والاخر لا تعرف ما هو تحديدًا، ولكن يكفيها هالة الحنان الذي يحيطها به في قربه! وهذا ما ترغبه وكفى، حنان حُرمت منه فقط! اما سليم، فكان قلقه يُعلق في ذهنه افكارًا على اختًا يتيمة كادت تموت قهرًا.. وسؤالاً واحدًا دار بخلده كالطوفان.
هل هي متزوجة ؟! وياسين بالطبع كاد يجن وهو يفكر في اجابة لنفس السؤال... فنظر سليم لياسين الصامت بجواره ليسأله: هو انا عادي لو اخدتها معايا البيت؟ عقد ياسين حاجبيه وقال: أعتقد اه لان اساسًا وجودها في الدار مش ضروري اومأ سليم بعزم: هاخدها معايا البيت هبقى مطمن عليها اكتر تنهد ياسين شارحًا:.
كدة افضل، لاني اعتقد إن نادين محتاجة حنان بس، هي اتعرضت لصدمة دخلتها في الصمت ده، لكن لما تختلط بناس كويسة وحنونة عليها انا متأكد أن ده هيساعدها اومأ سليم موافقًا: تمام رن هاتفه فزفر وهو يخرجه من جيب بنطاله بهدوء ليجيب: ايووة يا صادق اجابه الاخر بصوت هلع: إلحجنا يا سليم بيه سأله سليك بفزع: في اية يا صادق البنت اللي بتشتغل هنا اللي اسمها سيلاااا لجيناها في اوضتك واجعة مغمًا عليها ومصابة باينها...