صُعقت حرفيًا، وتجسدت الصدمة امامها وهي ترى سليم والفتاة امامه شفتاها تكاد تلامس شفتاه! اقتراب من مجرد رؤيته فقط خجلت وغضبت في آن واحد! اقتراب! حروف لم تتمناها يومًا، دائمًا كانت عليها أتربة الخطر فتتجنبها، وخاصةً مع ذاك الصقر! اقتربت منهم ومن ثم صاحت بغضب واضح: إنتم اية اللي عاملينه ده؟ ابتعدت الفتاة بتوتر، فيما رفع سليم حاجبه والأيسر ورد ببرود: إية نظرك بقا ضعيف ولا إية يا أنسة.
وإتسعت حدقتا عيناها من برود لم تتوقع ظهوره في موقف كهذا؟! يجعل البرود خلفية لوضعه - المخجل - الان بدلاً من الاعتذار؟! هزت رأسها نافية وقالت بحدة: لا نظري مش ضعيف، إنتم اللي احترامكم لذاتكم قبل اي حد بقا ضعيف أوي كمان كلماتها كانت محقة، مصوبة في الاتجاه الصحيح... ولكنه، لن يسمح لها بتخطي حدودًا رسمها لأي انثى! نظر لها مضيقًا عيناه وهتف بجمود: حاجة ماتخصكيش.
وجهت سيلا نظراتها القاتلة نحو تلك الفتاة اللعينة لتزمجر فيها: وإنت يا حيوانة إية قليلة حيااا، انا هطلب لك بوليس الاداب حالا، واقول شوفتهم في وضع مخل، وتتطردي إنت من الشغل اللي إنت مش مقدرة قيمته ده جحظت عينا الفتاة ولمعت بخوف حقيقي.. اما سليم فقد كان يرمق سيلا بنظرات لم تروق لها ابدًا! نظرات تخترقها بحثًا عن غيرة فطرية في بحر عيناها العسلية! غيرة!
نعم، لم يكن سليم بشخص ساذج حتى يغفل عن خيوطًا واضحة من الغيرة انسدلت من كلماتها! ليشير للفتاة بصوت آمر قائلاً: روحي إنتِ شوفي شغلك نظرت له الفترة بقلق وتساءلت: طب آآ هي قاطعها بصوت اكثر خشونة: قولت روحي اومأت وهي تسير متجهه للخارج.. تاركة القطة الشرسة تحاول خدش الصقر! واقترب سليم من سيلا، اقتراب جعل انفاسها تتضطرب...
ظل يقترب وهي تعود للخلف حتى إلتصقت بالحائط خلفها، إلتصقت به اكثر وهي ترى اقتراب سليم يزداد! يزداد ليحيط بها كهالة تخنقها قاصدة ذاك التوتر الممتع بالنسبة له! همست بصوت قد يكون ثابت الي حدًا ما: إبعد ماتقربش اكتر من كدة هز رأسه نافيًا وهو يقترب اكثر ملتهمًا تلك المسافة بينهم وهمس بجوار اذنيها: متقدريش تعملي لها حاجة، إنتِ خدامة عندي، مش مراتي! نظرت له متسعة حدقتاها! فاقترب مرة اخرى يكمل همسه العابث:.
غيرانة لية، ولا دي غيرة طبيعية يعني كمن إنتِ فكرتِ إني مهتم بيكِ دفعته بيدها وهي تسارع مبررة: لا طبعًا غيرة إية أنت مجنون!؟ سألها بخبث: تفسري بأية إنفعالك ده؟ رفعت كتفيها لتقول بلامبالاة مصطنعة: كل المشكلة يعني إني شوفت سفالة مفروض متحصلش في مكان عام كدة، إية مش خايف حد يشوفك وبغرور لا يصطنعه قال: أنا الصقر، مابخافش غير من اللي خلقني يا أنسة وملاحظة خاطفة طارت فوق سماء صدمتها من جبروته لا ينطق أسمها ابدًا!
وكأن تلك الحروف كانت وباء يخشى على نفسه نطقها؟! بدلها بحروف مرصعة بالحدة والجدية الزائدة أنسة ! لوت شفتاها بتهكم وقالت: طب ابعد يا صقر عشان مابحبش الحيوانات الجارحة إحتدت عيناه، ومن نيران تتقافز بين عيناها، لمسته بغضبًا جم في روحه هو! فأمسك فكها يضغط عليه بقوة محذرًا: للمرة الأخيرة بقولك خدي بالك من كلامك لاني هاجي في مرة هقطع لك لسانك ده.
إبتلعت ريقها بازدراء، وخوف داعبها من إهانة وسخرية خرجت زائدة بين حروفها.. وربما ستضطر للتراجع عنها على حساب كرامتها التي اوشكت على النفاذ امام ذاك الصقر! ابتعد عنها وهو يأمرها مشيرًا للفستان: خشي غيري هدومك وفي ثواني ألاقيكِ ادامي سامعة غمغمت بضيق وهي تدلف: سااامعة خلاص اسكت ودلفت مسرعة مرة اخرى، بينما اتجه هو للفتاة مرة اخرى!
وبعد دقائق انتهت سيلا وخرجت وهي تزم شفتاها بضيق اجتاحها ويسيطر عليها منذ مقابلتها لهذا الصقر! وكان ينتظرها هو في الخارج وبيده الملابس التي اشتراها لها.. وما إن خرجت سيلا ورأته مرة اخرى حتى صُدمت من الفتاة التي كانت تقف بجواره... تنهدت وهي تُقسم أن شحنات الغضب في العالم كله اختزنت بداخلها هي لتفرغها اليوم! وصلت امامهم فاستطردت ساخرة: إية جاية عاوزة تتهزقي تاني ولا أية؟ اجاب سليم بدلاً منها بصلابة:.
لا جاية عشان تعتذري لها علي اللي قولتيه جوة رمقته بنظرات غاضبة، حزينة، مترجية، نظرات كانت كالسلاسل تحاول تقييده بها عن ذاك الاعتذار المخجل ولتلك الفتاة تحديدًا! ولكنه لم يأبه وهو يشدد على حروفه قائلاً: يلا ياريت بسرعة عشان تشوف شغلها اللي هي عارفة قيمته كويس اغمضت سيلا عيناها عن تلك النظرات المنتصرة بعين تلك الفتاة لتهمس: سوري.
ثم استدارت لتركب السيارة مسرعة، وكأنها تختبئ من عار اوصمه هو عليها بكلمة واحدة! ولكن كلمة لم تنطق بها يومًا لأي شخص سوى جدها فقط! ولكن فجأة اغلقت الباب لتركض مسرعة كالقطة التي فرت من براثن - صقر جارح - و...!
جلست أمنية بجوار رقية، في غرفتها، منذ مغادرة تلك السيدة ورقية لم تكف عن السب واللعن فيها... تخرج غيظها على هيئة صراخ وكلمات سامة! بينما أمنية لم تكف عن القول بذهول: سيبتيه يتجوز يا هبلة يابنت الهبلة وصرخت فيها رقية بنفاذ صبر: امنية، اطلعي من دماغي دلوقتِ أنا عفاريت الدنيا بتتنطط أدامي عقدت امنية ساعديها، ولم تجد سوى التهكم تصرح به: تقتل القتيل وتمشي في جنازته صحيح، مش إنتِ اللي خلتيه يتجوز ياختي.
نهضت رقية وهي تكز على أسنانه.. وكانت ذكرى ليلتهم معًا شريط ملعون يتراقص بين جنبات عقلها! ليجعلها تلعن نفسها قبله على تهاونها معه! هتفت بغل ظهر في نبرتها: أنا السبب اللي خليته يتجوز ماشي، إنما ما قولتلهوش روح أدخل عليها وقوم من حضني عشانها عبيطة قالتها وهي تنهض لتقف بجوارها ثم تابعت تبث الكلمات التي تريدها هي في عقلها: منا بقالي اد اية بقولك اسمعي كلامي، وإنتِ مش راضية هزت رأسها وبأصرار حتمي استطردت:.
ايوة، مش هعمل كدة يا امنية انسي الموضوع ده رفعت كتفيها تقول بلامبالاة مصطنعة: براحتك زفرت رقية بقوة وهمست بشراسة: بس ورحمة أمي ما هسكت وهوريهم النجوم في عز الضهر زي ما بيقولوا سألتها أمنية مستفسرة: أوعي تكوني هتطلقي فعلاً زي ما قولتي للولية الأرشانة دي؟ اومأت مؤكدة: ايوة هتطلق، استحالة افضل على زمته يوم واحد تاني نهرتها الاخرى وهي تلكزها في كتفها محذرة بخبث: هبلة وعبيطة ومتخلفة كمان.
نظرت لها رقية بحدة وسألتهت متهكمة: لية بقا، لتكوني عاوزاني افضل معاه بعد ما اتجوز وسابني عشان يروح لها كمان؟ أشارت لها مهدئة بيدها وأكملت: يابت أفهمي، إنتِ كدة بتفضيلها الساحة، وبتقوليلها خدي جوزي على طبق من دهب اهوو هز رأسها نافية: مش هقدر صدقيني اشوفه بيروحلها كل شوية وانا عارفة اية اللي بيحصل بينهم، انا مهما كنت ست بردو وبغير يا أمنية اقتربت منها أمنية تسألها مرة اخرى:.
إنتِ عايزة ترجعي جوزك ليكِ ولا لا والاجابة كانت امرًا مفروغ منه... شيئ يتضح في عيناها التي تنضح بعشق ابدي قبل تصرفاتها التي نبعت من تلقائية انثى تغار! واومأت مؤكدة: اكيد طبعًا نظرت لها بطرف عينيها وأردفت: يبقى هتسمعي اللي هقولك عليه مطت شفتاها وقالت بجدية: على حسب اللي هتقوليه قهقت واجابت: لا متقلقيش مش هتعترضي عليه أوي يعني سألتها رقية بفضول شابه بعض الحماس لتلك العودة القوية: ها قولي يا مصيبة.
اقتربت منها لتبدء الهمس في اذنها ما يجب أن تفعله.. تعلمها حرفًا حرفًا بالأبجدية في عُرف الأنثى الشرسة!
وصل ياسين الي منزله، كان مُرهق فعليًا من كثرة التفكير فيما حدث، وما سيحدث! عندما دلف الي المنزل شعر وكأنه فأر يدلف الي منزل القط وبقدميه! وتوقع ثبت صحته حرفيًا عندما وجد والده ووالدته في بهو المنزل وبالطبع في إنتظاره.. لم تكن ماهيتاب إن لم تخبرهم بما حدث! لمَا لا وهي تتحكم كأنه عرائس اللهو تحركهم كيفما شائت، وكان أبيها وتعاوناته سدًا منيعًا خلفها! بمجرد أن رأه والده قال بجدية متهكمة:.
شرفت يا سبعي، نورت البيت اللي أنت هاتخربه تنهد ياسين بقوة، كأستعداد وتهيئة نفسية لأستقبال - المرشح الممل - القادم ثم سأله بكل هدوء: هخربه لية يا بابا نهض حسن متساءلاً بعصبية: يعني أنت مش عارف لية؟ اومأ ياسين فصاح والده فيه بحدة: إنت إزاي تفسخ خطوبتك بماهيتاب، ومن غير ما تاخد رأي اي حد فينا، ولا احنا ملناش لازمة في حياتك؟ هز رأسه نافيًا: ابدًا يا بابا ماعاش ولا كان اللي يقول كدة.
اقترب منه يسأله بنفس الصوت العالي، وكأنه يستخدمه كأداة لرهبة ياسين الذي لم تهتز له شعره واحدة: اومال إزاي حضرتك تعمل كدة، مش أنت اللي وافقت من البداية تخطبها اومأ موافقًا بتنهيدة: عشان أنتم كنتم مُصرين أوي عليها وانا عملت كدة عشان اريحكم، واهو اجرب ابتسم والده ابتسامة ساخرة وقال: لا والله هي فردة جزمة بتجربها جنابك ولا إية، أنت مش واعي للمصالح اللي بينا وبين أبوها؟
نظر نحو والدته الصامتة تمامًا، وكأنهم تعطيهم الساحة لجدال هي متيقنة أنه لن يجدي نفعًا وخاصةً مع ياسين واردف: لا مش فردة جزمة ولا حاجة، كل الموضوع إن الجواز ده نصيب، وأنا نصيبي مش مع ماهيتاب، أما الموافقة فهي عشان المصالح اللي حضرتك بتقول عليها مسح والده على خصلات شعره البيضاء بغضب مكتوم... رغبته في عدم اجبار إبنه على أي شيئ امام قلقه من فض الشراكات بين والد ماهيتاب!
والغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت في عُرفه! واخيرًا صدح صوت والدته الهادئ وهي تقول: روح يا حبيبي خد دش وغير وأرتاح شوية اومأ وهو يصعد بهدوء مُرهق... وجلس والده بجوار والدته، بغضب لم يكن منصهر، ولم يكن بارد قليلاً، بل كان خبيثًا يوازي إصرار ياسين! فنظر لها وقال: قبل ما تتكلمي، مش هينفع أسيبه يدمر كل حاجة عشان تفاهه اسمها حب! بينما في الأعلى انتهى ياسين من الاغتسال.. وخرج من المرحاض ليلقي بنفسه على الفراش..
تنهد تنهيدة طويلة حارة تحمل بطياتها الكثير والكثير! نظر للأعلى بشرود، شعور غريب بدء في إحتلال ارضه الخالية! ولكنه لم يستطع تفسيره، ولا يريد أن يفسره من الأساس! ربما يكون إعجاب!؟ تذكر ما حدث بعد إستيقاظ نادين وكأن ذاكرته تؤكد له سبب ذاك الشعور الغريب فلاش باك ظلت نادين تهزي وتصرخ بهيستريا: شياطين، كلكوووا شياطين! حاول الإمساك بيدها وهو يسألها: نادين اهدي، إهدي.
لم ترد عليه واستمرت على ما هي عليه، ليسأله مستفسرًا في محاولة للهدوء: طب مين ده اللي شيطان؟ لم ترد عليه، خُيل لها أنهم امامها، وكان الذعر أول مم إرتسم على محياها، لتعود للخلف تتكور في وضع الجنين.. وهي تضع يدها على اذنها صارخة ببكاء: لا ابعدوا عني لااااا حاول ياسين احتضانها ولكن بالطبع لم ترضى ولم تهدئ! ثورتها الان اكبر من مجرد احتضان - أخوي - هادئ يمكن ان يهدئ من روعها!
دلفت الممرضة في تلك اللحظة ممسكنة ب - حقنة المخدر - وقالت: سيبها يا دكتور ياسين، انا هديها الحقنى وهتنام هز رأسه نافيًا بأصرار: لأ، انا ههديها من غير حقن، هي لازم تبقى واعية وتواجه شوية كادت تعترض بتوجس: بس دي مش هتهدى يا دكتور وآآ قاطعها بخشونة وقد علمت من نبرته أن - لا مجال للتراجع - : قولت لا خلصنا فاستسلمت وعادت من حيث أتت... فيما أقترب ياسين من نادين ببطئ وهو يقول بصوت هامس:.
إهدى يا نادين، أنا ياسين، ياسين مش حد تاني اصبح امامها تمامًا، ومن دون تردد هي من احتضنته! تشبثت به كطفلة تخشى من شيئ فتختبئ في حضن والدها الحنون! واخيرًا حدثته بصوت يكاد يسمع: ماتسبنيييش، ياسين ابتسم بسعادة، تحدثت، ونطقت بأسمه! استطاع التأثير عليها ولو لوهلة!؟ حروف اسمه خرجت من بين شفتاها بشكلاً غريب اثار تعجبه إلي حدًا ما! وكأن اسمه ما هو إلا طوق نجاة بالنسبة لها فقط!
باك... مش هاسيبك يا نادين قالها وهو يبتسم لتلك الذكرى الهادئة، ثم اغمض عيناها بهدوء، لتبقى تلك الذكرى اخر صورة يحتفظ بها جفناه!
جلست جميلة في حديقة المنزل، تلك الحديقة المزينة بالزهور الطبيعية، تضيئها الأنوار الزهية حولها بشكل دائري، وهي تجس بالوسط كأنها محط لفت الانتباه وهي تنظر امامها بشرود... ما حدث عند الطبيب وما أكد لها ان سيلا لم تفقد الذاكرة يومًا كان كالزهور القوية الملتفة بين جنبات عقلها! تذكرت ما فعلته هناك... فلاش باك.. دلفت للطبيب في مكتبه الخاص، بهيئتها الجادة والعالية المعروفة.
لينهض الطبيب محييًا اياها بترحاب شديد: اهلاً اهلاً يا مدام جميلة منوراني ابتسمت مجيبة بحبور: شكراً يا دكتور ده زوقك سألها بجدية مناسبة: خير يا مدام جميلة، الاشعة لسة خلصانة وكنت جاي لكم بيها اومأت موافقة وسألته: والنتيجة اية؟ اجاب بلا تردد: البنت كذابة، مش فاقدة الذاكرة ولا حاجة، العقل سليم ميه في الميه تنهدت وإرتسم على فاهها ابتسامة ثقة... ابتسامة كان مصدرها ثقتها بكذب سيلا! وهتفت بلا تردد:.
مش عايزاك تقول لسليم يا دكتور جحظت عيناه بصدمة، ليسألها بعدم فهم: ازاي يعني يا مدام جميلة مقولوش، انتِ عارفة اني ماقدرش اخبي على سليم حاجة زي دي تنهدت وهي تشرح له بغموض: دي حاجة عائلية يا دكتور، وانا مش واحدة غريبة يعني، إنت عارف انا مين في حياة سليم ومش اول مرة اتعاما معاك، وإنت اكيد عارف إني يستحيل أأذي سليم اومأ مؤكدًا: محدش يقدر يشك فيكِ يا مدام جميلة.
تمام، ياريت تنفذ طلبي يا دكتور ده اول طلب، ولولا انها حاجة عائلية كنت شرحت لك السبب بالتفصيل قالتها وهي تنهض فيما اومأ هو بابتسامة مترددة: بأذن الله، نورتينا يا هانم ابتسمت بهدوء: شكراً بنورك ثم استدارت وغادرت بهدوء تام يجتاحها! باك تأكدت، وبعدما تأكدت وقد علمت سبب مجيئ سيلا، فلن تسمح لها بالمغادرة إلا بعدما تؤدي ما أرادته.. مهما كلفها الثمن، وإصرارها امام رغبة سيلا في الفرار.
كان كنقطة بيضاء وسط محيط واسع من السواد!
ظل سليم يركض خلف سيلا التي لم تتوقف لحظة عن الركض.. تفر ويعاونها نحافة جسدها، تفر وكل جزءً منها وكأنه يفر من الإهانات التي تحيط به من كل مكان! وتبكِ... نعم تبكِ علها تخرج شحناتها الغاضبة! كلها تهدئ خلاياها الثائرة بداخلها! ظل يناديها بصوتًا عالي: سيلااااااا، إنتِ يابت اقفي يخربيتك بالطبع لن تعيره اهتمام... اذنيها صُبغت بصمت - كعقاب - فرض له! ونادى مرة اخرى بحدة: يا زفتة أقفي بقااا.
وطابع الصقر بداخله دفعه للإسراع اكثر فأمسك بها اخيرًا وهو يلتقط انفاسه، لتنظر له بغضب محاولة الفرار منه، ولكنه كان الاقوى وهو يهزها مزمجرًا بوجهها: إنتِ مجنونة بتجري كدة لية؟ لم ترد فاستطرد بخشونة معهودة منه: أفهم من كدة إنك زعلتي يعني ولا إية نظرت للجهة الاخرى فتابع بغضب مصطنع - لأول مرة -: لما أكلمك تردي عليا هه؟ لم ترد ايضًا، فحذرها بوعيد ؛ هتردي عليا ولا..؟
هزت رأسها نافية ومن ثم رمقته بنظرة متساءلة، نظرة ملتقطة تهديده القادم بلامبالاة فأكمل ؛ ولا اعمل كدة وإلتقط شفتاها في قبلة عميقة، يلتهم فيها شفتاها بنهم مقيدًا خصرها بذراعيه.. دفعته هي بقوة.. وهتفت بغضب جم: إنت قليل الأدب وفجأة رفعت يدها بكامل قوتها لتحاول صفعه! تصفع الصقر! لم تعرف من أين اخترقتها القوة لتحاول فعلها.؟! ربما أخلاقها من وخزتها لفعلها حتى لا يتكرر ذاك مرة اخرى!
ولكن، فلتقابل العقاب اذًا بنفس القوة إن استطاعت! وعند وصول عقلها لهذه النقطة ركضت مرة اخرى مستغلة صدمته القصيرة التي انتهت لتصبح بقعة واسعة من الصدمة وهو يراها تركض وهي تنظر عليه وفي المقابل سيارة سريعة متجهه نحوها و...!
وبالطبع لم يكن الوقت من نصيب التفكير إطلاقًا، فركض بأسرع ما يملك نحوها، ليجذبها نحوه في لمح البصر.. فسقطت هي بأحضانه بعيدًا عن السيارة التي لم تتوقف من الأساس! كان ذلك في وقت لم يتعدى الثواني! ثواني حُسبت في عداد الرعب الحقيقي، رعب أحتل كيانها كليًا وهي ترى الموت على حافة حياتها يقترب منها!؟ ودون أن ترى ما تحبهم... دون أن تتوب الي الله في كل شيئ.. دون أن تستغفر عما سبق حتى؟!
بينما هو، لحظات مرت وهو مغمض العينين، والقلق الحقيقي يعتصر قلبه في قبضته المميتة! لحظات مرت عليه كنسمات الهواء ساحبة منه كل ذرة من الهدوء والارتياح! واخيرًا أستعاد قليلاً من هدوءه المتوجس فسألها: إنتِ كويسة يا سيلا؟ عيناها تنفي، والقلب يجهر بالاعتراض، هذه اللحظات المحملة بالموت لم تمر بسهولة هكذا! ولكن شفتاها عارضت وهي تؤمئ: ايوة، كويسة.
تنهد بقوة مستعيدًا هيئته القوية، لينهض واقفًا، مد لها يده، فنظرت نحو يده مرة، ونحوه مرة... والتردد لم يستطع اختراقها فأطاعت نظراته ومدت يدها تضعها في يده.. قد تكون تلك مجرد حركة مباغتة منها، ولكن بالنسبة له هي حركة أثبتت شيئً واحدًا هي لا ترفضه، ترفض قسوته فقط! سألها مشاكسًا وهم يسيروا: بتحبي الجري اد كدة؟ شق وجهها نصف ابتسامة محرجة، فأطرقت رأسها مجيبة: يعني ابتسم وهو يتابع قاصدًا لومها:.
كنا هنروح فشوش اهو عشان تجري كويس رفعت كتفيها وقالت بتلقائية: أنا بس اللي كنت هأموت، إنت جريت عليا لية!؟ صمت عن الكلام وحدق بها بتلقائية مماثلة! وتمتم بداخله اسكتِ! وتلقائيتها كانت سببًا لسؤال يفقد اجابته! لمَ أنقذها؟! لمَ ركض نحوها؟! لمَ منعها من ذكر الموت على لسانها ولو على سبيل المزاح؟! اسئلة كثيرة تتزاحم بعقله طالبة التفسير، ولكنه بالطبع، لا يرغبه! أبعد يده عندما لاحظ وقال ببعضًا من التوتر: معلش.
سألته ببلاهة: معلش إية؟ إبتلع ريقه ولم يجد سوى القسوة سبيلاً يتخذه، فأردف: سيبك من ده كله، إنتِ مفكراني نسيت إنتِ كنتِ عاوزة تعملي إية من شوية لوت شفتاها بتهكم وهمست: اوف لازم يرجع لطبيعته، اه امال إية ده الصقر! سألها مضيقًا ما بين حاجبيه: بتبرطمي تقولي إية؟ رفعت كتفيها قائلة ببراءة: مابقولش حاجة، ابداً كاد يبتسم ولكن منعها، وهو يسألها مرة اخرى بخشونة:.
إية مفكراني هعديلك دي كمان، الظاهر إنك خدتي على كدة عشان بعديلك حاجات كتير فغرت فاهها بصدمة! بالأساس هي كانت تشك أنه يضع جهازًا للترقب لها، فيقابلها بإهانة على الفور! الان يقول انه يتهاون معها؟! لا والله لم يفعلها... قالتها في قرارة نفسها، ونظرت له متابعة بتهكم: إنت كدة بتعدي لي، يا شيخ أتقي الله، ده انا لو عطست من غير أذنك هتقولي إنتِ هبلة بتعطسي لية ماتنسيش نفسك إنتِ خدامة عندي.
هذه المرة لم يستطع كتم ضحكاته، فقهقه بمرح على جملتها التي قالتها بعفوية.. فيما كان التعجب من نصيبها هي هذه المرة... وضحكته الجذابة كانت أكبر اداة لجذب انتباهها! ابتسمت وهي تهمس ببلاهة: ضحكتك حلوة أوي توقف عن الضحك لينظر لها دون تعبير واضح، وكالعادة فشلت في تفسير ما بين سطور عيناه.. بينما هي كانت تقريبًا شفافة أمامه فغمز لها قائلاً بخبث: ضحكتي بس؟!
أستعادت جديتها، لتلعن ذاك التأثير - الأحمق - الذي وضعها بموقف كهذا! فتنحنحت متساءلة بثبات مصطنع لتغيير الموضوع: العربية لسة بعيد عليها؟ اومأ مؤكدًا ومن ثم هتف بغيظ: ما البركة فيكِ إنتِ اللي خلتينا نجري ده كله ابتسمت باحراج احتل قسماتها.. لتسمعه يتساءل فجأة بهدوء غير مريح بالمرة: كنتِ عاوزة تخرجي لية ساعتها؟ سألته بسذاجة: مش فاهمة، ساعتها اللي هو امتى؟ اجابها بجدية: يوم موضوع صادق، إية مفكراني نسيت ولا إية؟
هزت رأسها نافيةً، وحاولت القول بثبات فشلت في إظهاره بسبب ذاك التوتر الفاضح: لأ، ده بس داده فاطيما قالت لي أشتري لها شوية حاجات نظر لها بحدة، حدة ظهرت فجأة عند شعوره بكذبها، فصاح فيها: كله إلا الكذب، إزاي الدادة فاطيما هتبعتك تشتري حاجات إذا كان في حد مخصوص للشراء وبتبعته دايمًا، والبيت كله عارف إنك مابتخرجيش من البيت؟ وعندما يحاصرها بين كلماته المتيقنة وبين حدته المعهودة..
يبقى الصمت هاويتها الوحيدة للهرب.. ولم تصدق اذنيها وهي تسمعه يقول متجهًا للأمام: لما تحبي تحكِ لي أبقي أحكِ يا سيلا، بس ياريت تسرعي في القرار ده، لإن صبري بينفذ بسرعة، وخصوصًا مع الكذب الكتير! ظلت تنظر لأثره بصدمة حقيقية! ها هو أثبت لها أنه يتهاون - فعليًا - أنه حكيم وعاقل بالرغم من قسوته المعروفة.. يظهر لها طابع اخر يجذبها نحوه دون أن تدرى... وسؤالاً مخيف، بحروف متوجسة سألته لنفسها:.
هو عرف أني بكذب ومش فاقدة الذاكرة ولا إية!؟
نهض مجدي من فراشه، دومًا كانت يعتبر فراش نومه شيئ - شاهدًا - على مراسم عشق معززة... ولكن الان يشعر انه يخشى البوح بما حدث، - يشمأز - من نفسه فعليًا ولكن يبقى يذكر نفسه إنها زوجته! ولكنه لم يتقبلها كزوجة فعلية! لم يفتح لها محراب العشق الخاص به فتتربع داخله! وخان! هل خان رقية بالفعل؟! وقلب يجيب بحزن: نعم خنتها، خلفت وعدك بعدم لمس حواء غيرها... وعقل يجهر بالنفي، بجبروت طُبع عن قلب الرجال..
لا والله لم تفعل، هي زوجتك، زوجتك أمام الله والناس والقانون، أين الخيانة اذًا؟! تأفف وهو يضع يداه على رأسه عله يستطيع إيقاف تلك الأفكار المتدفقة منه، ودون قصدًا منه صرخ بصوت عالي: بس بقاا سألته تلك القابعة بجواره - عارية الجسد - بدلال يليق بها إلى حدًا ما: إية يا حبيبي مالك؟ تنهد بيأس وهو ينظر امامه - شاردًا - وقد يكون - نادمًا - وقال بصوت مبحوح: تعبان أوي نهضت لتمسك كتفه هامسة بنعومة: مالك يا حبيبي.
أبعد يده عنها ليرد بنفور: مفيش، انا قايم مالت عليه مرة اخرى لتهمس: لية بس يا حبيبي خليك معايا هز رأسه نافيًا: بقولك تعبان هقوم أخد دش عشان أفوق كدة بدءت تحسس على ظهره بطريقة مثيرة، وأصابعها تعرف دورها الصحيح لإتمام مهامها الخبيثة! وهمست: أنا هريحك صدقني فنهض يصيح فيها بغضب وحدة: إنتِ إية مابتفهميش، مش كل الناس بترتاح في السرير بس يا مدام.
وكأنها كونت حصنًا من كلماته الباردة فلم تعد تتأثر، فقالت ببرود يشوبه بعض الغيظ: هو أنت كل حاجة هتتنرفز عليا ولا أية اومأ ببرود مماثل: ايوة، إن كان عاجبك كزت على أسنانها وحاولت تمالك نفسها وهي ترد: أنا هاسكت دلوقتِ لانك متضايق بس، لكن بعد كدة مش هاسكت على أي إهانة نظر لها من أعلاها الى اسفل قدميها ومن ثم غمغم بضيق: متقدريش تعملي أي حاجة أصلاً ونهض متجهًا للمرحاض يغتسل والمياة تسقط عليه بغزارة...
علها تستطع مسح ذلك الوقت من ذاكرته، عله يستطع نسيان ضعفه امام تلك! ولكن يبقى سبب ذاك الزواج مبررًا قويًا لأفعاله.. ألم يكن قد تزوج للأنجاب من الأساس؟! ، وتنهد بقوة، تنهيدة طويلة ودت لو خرجت صراخ فأراحته قليلاً.. ولكن مرت على ينابيع رجولته فخشى الضعف وخاصةً امام تلك المرأة! وفجأة سمع صوت والدته العالي يأتي من الخارج.. اسرع في الانتهاء وإرتدى ملابسه ليخرج فيجد والدته امام الباب..
تكاد تبكِ وهي تراه يقترب، وتنوح بحزن مصطنع: شوفت مراتك عملت فيا إية يا مجدي!
بدء ياسين يتململ في فراشه بكسل، فتح عيناه العسلية قبل أن ينهض من فراشه، وبدء يستيقظ بملل على صوت هاتفه الذي لم يكف عن الاتصال، إلتقطه ثم تأفف وهو يجيب بملل: الووو ... إزاي يعني ده ... طيب طيب بس سيبوها ... اسمعي الكلام وانا مسافة الطريق هكون هناك ... أقفلوا بس الباب، مش هتأخر ... يلا سلام.
اغلق الهاتف وهو ينهض مسرعًا، اتجه للمرحاض ليغتسل سريعًا ثم ارتدى ملابسه.. وسؤال لم يتركه يتردد في عقله بصلابة ليهز جدران حيرته وقلقه ماذا حدث، ماذا رأت؟! ونزل للأسف ليجد ما لم يعجبه.. ماهيتاب ووالدها ووالدتها، المعنى الحقيقي للأختناق بالنسبة له! تنهد بقوة وهو يتقدم منهم راسمًا ابتسامة صفراء على ثغره.. وبمجرد أن رآه والده قال بابتسامة: اهو ياسين جه اهوو سأله ياسين مستفسرًا:.
خير يا بابا في حاجة ولا إية؟ هز رأسه نافيًا: لا كويس إنك جيت كنت لسة هبعتلك حد من الخدم عشان يصحيك، خطيبتك وعيلتها جايين يتعشوا معانا خطيبتك! ينسبها له من جديد، يربطها به مرة اخرى! يضع جبل الذنب على صدره مرة اخرى فقط لرغبته ومصالحه هو!؟ وسأله ببرود ظاهري: خطيبتي مين يا بابا!؟ رفع والده كتفيه وقال ببرود مماثل وبعضًا من الجدية:.
ماهيتاب، انا اعتذرت لها نيابةً عنك، وقولتلها إنك مش قصدك وإنك كنت تعبان بس زي ما قولتلي يا ياسين وضغط على اخر كلمة متعمدًا، وكأنه يحذره! اومأ ياسين غيظًا وقال: اه اوكيه وهو كذلك، أنا ماشي عندي شغل دلوقتِ عن اذنكم وكاد يسير إلا أن قاطعه قول والد ماهيتاب - السمج - وهو يشير لياسين: إية يا ياسين هو إذا حضرت الشياطين ذهبت الملائكة ولا إية!؟ هز رأسه نافيًا ليبرر بهدوء:.
لا ابداً يا عمي بس جالي شغل طارق كدة ولازم أروح دلوقتِ تنهد والده وأستطرد بحدة: أقعد يا ياسين الشغل مش هيطير، هما مش بيتعشوا كل يوم عندنا وكاد يعترض بخفوت: يا بابا ده شغل مهم و.. نظرات الجميع المصوبة نحوه تخترقه لتجبره جعلته يلتزم ذاك الصمت المغتاظ، ويجلس بجوار ماهيتاب التي هللت بابتسامة نصر: يس، هو ده الصح يا ياسوو! مسح على شعره وهو يدعو أن لا يحدث ما يكمن في خاطره، ابدًا!
وصلت رقية الى المستشفى التي يقطن بها جدها، كانت تسير مسرعة وتلوم نفسعا على تأخير تلك الزيارة! وصلت للأستقبال فسألت ؛ لو سمحتِ فين أوضة نصار القاضي اجابتها بجدية معهودة: تالت دور على اليمين، الأوضة رقم 30 اومأت مسرعة: متشكرة اتجهت للغرفة بخطى سريعة.. وصلت فاطرقت الباب بهدوء لتسمع رد والدها فدلفت على الفور ملقية التحية: السلام عليكم وقبلت يد جدها الحبيب هامسة: شفاك الله وعفاك يا جدي.
ابتسم وهو يمسح على حجابها بحنان: تسلمي يا حبيبتي، مكنتيش جيتي، كدة كدة انا خارج النهاردة غمغمت باعتذار: معلش والله اتأخرت بس بابا قالي ماتجيش غير لما اكلمك ومادانيش خبر همس بنصف ابتسامة: ولا يهمك يا بنتي جلسوا جميعًا، وفي وسط الحوار سألت رقية بتوجس: لسة مالاقيتوش سيلا يا بابا؟ هز عزت رأسه نافيًا ببعض الحزن: للأسف لأ، وفي احتمال سيئ أأسف انه يكون حقيقة.
غزى الألم قلب نصار عند تلك الأسيرة، وأسره حزنه العميق على الغالية عند جملة عزت صرخ بفزع: قولت لك لا سيلا كويسة اسكت بقااا إبتلعت رقية ريقها بصعوبة مما قد وصل لها من كلامهم الغير مفهوم كاللغز مؤلم يُميت من يفكه وسألت: مالها سيلا يا بابا؟ رفع عزت كتفيه بيأس وأردف: مش لاقينها خالص يا رقية، كأن الأرض اتشقت وبلعتها، والخاطفين بيقولوا آآ، بيقولوا إنهم قتلوها!
جحظا عيناها بصدمة حقيقية إرتسمت في ثوانٍ على ملامحها! وكأنها فقدت جزءً غاليًا من قلبها حرفيًا! سيلا لم تكن مجرد أخت.. سيلا كانت ترمي بخيوط حبها للجميع فتأسرهم بحبها الحقيقي لها! وهتفت بجزع: لا لا جدي معاه حق، أكيد بيكذبوا ثم همست بحيرة وقد تلقلقت الدموع في عيناها: بس إية مصلحتهم إنهم يكذبوا في حاجة زي دي بعد ما اخدوا الفلوس؟! بادلها والدها الهمس المحتار: مش عارف يا رقية مش عارف.
وهنا سمعوا صوت نصار يقول بصوت عالي يتعمقه الحزن: آآه يا خالد يا يابني، لو كان هنا كان زمانه مارجعش البيت غير لما يلاقي بنت اخوه، مش مكسل يدور بضمير كز عزت على أسنانه بغيظ وسارع مبررًا: قسمًا بالله دورت لما تعبت انا والرجالة يا حج، قربنا نكمل اسبوعين بندور اهوو هز رأسه نافيًا وتابع بأصرار: لأ، إنت دايمًا بتعمل كدة، زي ما عملت وانت بتدور على اخوك ومراته صح أطرق عزت رأسه..
تلك السيرة لا يرغبها، تُفتح في ماضي أشواكه لم تَمُت بعد!
وصل كلاً من سيلا وسليم إلى المنزل، ليجدوا جميلة تجلس كما هي، تشرد وتفكر وتخطط ايضًا كما كانت! ترسم الخيوط التي ستضعها بينهم كما تشاء! اقترب منها سليم ليحتضنها بود حقيقي، ابتسمت وهي تسأله بشرود: إية يا حبيبي، جيتوا أمتى؟ جلس بجوارها وهو يرد بنفس الابتسامة المتبادلة، ابتسامة نابعة من حنان فطري لا يظهر إلا معها: لسة جايين اهوو اقتربت منهم سيلا ايضًا، لتلقي السلام بهدوء مبتسمة:.
السلام عليكم، أزيك يا طنط؟ رمقتها جميلة بنظرات حنونة، وهتفت مشاكسة: لا طنط، قولي يا ماما أو يا خالة زي ما سليم بيقول، ولا اكمن أنا اصغر من مامتك أكيد يعني؟! إشتياق من نوع اخر إنغرز بروحهها المهشمة... إشتياق انغرز بروح كلاهما وليس هي فقط! ودموع لا تنتظر الصبر عن تلك السيرة التي تُظهر الحزن المخفي بين أعماقها فتخرج ظاهرة بين بحر عينيها البنية.. وهمست بابتسامة صفراء: حاضر يا خالتو سألها سليم بحزم حنون:.
أكلتِ يا خالة ولا لا؟ هزت رأسها نافية: لا مقدرتش نهض ينادي على احدى الاشخاص لينظر لها متابعًا ؛ مينفعش يا خالة، بعيد الشر لو جرالك حاجة انا اعمل إية ضحكت بخفة وقالت: يا حبيبي أنا كويسة بس مليش نفس بينما كانت سيلا تراقبهم بأعين متعجبة بالفعل! حنانه يتدفق من بين عيناه مع خالته فقط! وظلاله عميقة سوداء من القسوة تظهر لتحيط بها هي، وغالبًا كل الأناس! قسوة هي أكتفت منها فعليًا...
قسوة عانت منها بكل معناها، كل مراحلها وكل تجاربها! تفتقد طيفًا من الحنان، تفتقده منذ فترة كبيرة، لا تتمسك سوى بخيطًا كاد ينقطع من الحنان، وبالطبع من جدها فقط! أما أبيها، مجرد كلمة تنسب لها فقط، لكنها فعليًا - لم تشعر بها يومًا -! وقالت في خلدها بحزن: ماهو بيعاملها كويس وبحنية اهو، اشمعنا انا بيصدر لي الوش الخشب وعندما سمعت ضحكة جميلة التي أظهرت لها مدى حماقتها.. أيقنت أن كلامها كان بصوتًا عالي!
ربما أختنق داخلها فقرر الظهور قليلاً؟! وهمس سليم بصدمة: نعم! فقالت جميلة: معلش يا سيلا، هو سليم كدة طبعه دبش في كلام، وقاسي خارجيًا، لكن هو اساسًا حنين جدًا من جوة، زي امه بالظبط وابتسمت سيلا وهي تسألها: ومامته فين دلوقتِ؟ عبست جميلة وهي تجيب بخفوت: ربنا يرحمها ويسكنها فسيح جناته تمتمت سيلا بحزن: اللهم أميين، أنا اسفة والله ماعرفش بينما سليم كان وجه كخريطة من الغضب رسمتها سيلا بكلماتها!
كلماتها التي لم تدري أن بها تفتح جرحًا لم يُشفى بعد، فتلهبه بلهيب كلماتها - الجارحة دون قصد -! وركض للداخل دون سابق إنذار متجهًا نحو غرفته... سألت سيلا ببلاهة متعجبة: إية اللي حصل يا خالتو؟ رفعت جميلة كتفيها وقالت: مش عارفة إية اللي بيحص له لما حد بيجيب سيرة مامته! عقدت ما بين حاجبيها متساءلة:.
يعني المعظم والدتهم تبقى ميتة، ويزعل ويدعيلها لما يتذكر، لكن هو اية اللي حصل له طلع يجري كأنها لسة ميتة دلوقتِ يعني آآ انا قصدي قاطعتها جميلة بتنهيدة: لااا، هو أمه ماتت بس اثرت عليه جامد باللي حصل، مش زي اي حد مامته بتتوفى سألتها سيلا بفضول قاتل: لية هو اية اللي حصل لها يا طنط، ماتت إزاي؟ واجابة انقطعت بسبب صراخ يأتي من الأعلى و...!
والفزع كان مجاور لنسمات الهواء الطلق نسبةً لكلاهما، ركضت سيلا تتبعها جميلة التي لم تسعفها قدماها للركض نحو غرفة سليم.. وصلت فوجدت سليم يدمر كل شيئ أمامه، كل ما تطوله يده يدمره، يُمثل ما يريد فعله حرفيًا.. تدمير كل من ينطق ليذكره بما حدث دون تردد!
وهي التردد سيطر على عقلها، تدلف إلي غرفة الصقر بقدميها وتتحمل نتيجة تدخلها الذي سيُخرجها بأهانات جديدة تشكلت على خطوط كرامتها التي كادت تنعدم، أم تظل هكذا وهي تراه الغضب يأكله كالصدئ في الحديد!؟ وما بين الأختيار ذلك وذاك اتخاذ سريع للقرارات مهما كانت.. فدلفت مسرعة وهي تقول بثبات ظاهري: إهدى يا سليم، في إية مالك!؟ نظر لها بعيناه الحمراء التي ارعبتها ومن ثم صرخ بحدة: ملكيش فيييييييه، غوري على شغلك إنتِ.
ٱرتعش جسدها بخوف حقيقي من هيئته وصراخه.. صراخة الذي هدم أخر بناء للثبات والقوة لديها، وفجأة صرخت فيه بغضب مماثل: لا ليا، ليا ومش همشي غير لما تهدى خالص رمقه بنظرات كشفتها امام نفسها الضعيفة وهددها صراحةً: قسمًا بالله لو ما مشيتي من ادامي دلوقتِ لكون عامل فيكِ حاجة مش هتعجبك ابدًا وتمسكت بذاك القناع الوهمي وهي تسأله بتحدي: هتعمل فيا أية يعني؟! اقترب منها ببطئ، ليتابع بنفس الحدة التي تغلفت بالغضب الأعمى:.
بحذرك لأخر مرة إبعدي عني، إتقي شر الحليم إذا غضب ومن المفترض أن يُزرع الغضب والإرتعاد في أعماقها الان.. ولكن لمحة الضعف والألم التي لمحتها تطوف بين حمرة عيناه الغاضبة، جعلتها تدرك أنه كصقر شرس يحتاج من يروده فقط! وهذه المرة الاقتراب كان منها... ولم تعرف أي حماقة تمتلكتها لتقترب من الصقر بما يُقدمها على الموت - الأرادة - فهمست بنعومة:.
سليم ممكن تهدى، اهدى عشان أي حاجة حلوة، إفتكر مامتك وهي شيفاك منهار كل ما تيجي سيرتها هتكون أزاي دلوقتِ؟ افتكر هل هي مبسوطة إن ابنها مابيحبش يجيب سيرتها؟ هزت رأسها نافية وأردفت: اكيد لا، مهمًا كان اللي حصل واللي أنا معرفهوش لحد دلوقتِ، إنت لازم تهزم صراع الأنتقام اللي جواك نظر لها بصدمة! ألهذه الدرجة أصبح شفاف أمامها فرأت ما جعل لسانه يصمت عنه!؟ وكلمة واحدة لم يجد سواها الان في قاموس حياته القاسية:.
إطلعي برة يا سيلا سألته مرة اخرى بجدية: ولو ماطلعتش هتعملي اية؟ جزءً بداخله يحثه على الأنقضاض عليها، وجزءً اخر يكبله بحبال صبره وهدوءه! أمسكها من ذراعها بقوة ألمتها ولكن لم تظهر وهي تهمس: دراعي يا سليم ظل ينظر في عيناها، تلك العينان التي تموج عبثًا لا يفهمه! ليصدح صوته الأجش محذرًا: صدقيني لو مطلعتيش دلوقتِ هتحصل حاجة مش هتعجبك هزت رأسها نافية فاستدار وظل يدمر كل شيئ من حوله وهو يصرخ: لييييييية؟
كانت جميلة تراقبهم من امام الباب، تنتظر لترى رد فعل سيلا الذي ترغبه.. وبالفعل أشبعت عيناها اطمئنانًا ممن تستطع ترويض الصقر! نظر سليم لسيلا، ولمعت تلك الدموع بعيناه الحجرية! عرفت الدموع لعينا الصقر طريقًا!؟ وإندفع نحوها يكاد يحتضنها وسط إنهياره.. فعادت للخلف مطرقة الرأس، دائمًا ما تضع الله أمامها في كل خطوة، لن تُفضل سليم على شرع الله ابدًا...
وهنا تدخلت جميلة فاسرعت نحوه تحتضنه، تعطيه ذاك الحنان الذي يرغبه ولكنه أخطأ مساره! ظلت تهدءه وهو يهزي بحقد: مش هاسيبهم هما السبب هزت رأسها نافيةً بقوة: لأ يا سليم، هما ملهمش أي يد في الموضوع، ده قضاء ربنا يابني أنتحب صوته وهو يتابع، بأحبال صوتية اُرهقت من كثرة الصراخ والتوعد فلم تجد سوى النحيب في حضن حنون: آآه مش قادر أنسى إنها ماتت بين ايديا، ماتت ومقدرتش اعمل لها حاجة.
مسحت على شعره وأردفت بصوت يكسوه الحزن: إنا لله وإنا إليه راجعون يا حبيبي، إنهيارك كل ما تيجي سيرتها مش هينفع نظر لها بأعين متوعدة شرًا وقال: الإنهيار ده هيروح يوم ما أنتقم منهم تنهدت وهي تجيب برزانة: مش هاسمحلك ابداً يا سليم، إنت أنتقمت من اللي قتلوها، مفيش داعي تدب في اللي منك كمان صرخ فيها بعصبية مفرطة - غير مقصودة لها - على الأطلاق:.
هما السبب الرئيسي، المجرم مش هو اللي بيقتل بس، المجرم اللي يكون سبب تاني في القتل يا خالة وانتِ اللي بتمنعيني كل مرة ظل يتنفس بصوتًا عاليًا، وخرج صوته لاهثًا من كثرة إنفعاله متوعدًا بشراسة تليق بصقر: بس ورحمة أمي اللي ما لحقت أشبع من حنانها ما هسيبهم متهنين! وها هي قد وجدت ورأت سببًا أخر وحتمي لتنفيذ ما خططت له...!
وفن وإصطناع التمثيل والحزن ببراعة لا يجيده إلا البعض.. اجادته والدة مجدي فصنعت صورة مزيفة مما عانته بسبب رقية امامه! وللحق هو بُهر حرفيًا من الحزن الذي تعمق والدته هكذا فجأة! والذي لا يعلم له سببًا حتى الان سوى، رقية فقط! استمرت في البكاء المزيف وهي تتابع: ماكنش يومك يا عفاف، ماكنش يوووومك ابداً سحبها مجدي للداخل بهدوء ومن ثم اغلق الباب، ليلتفت لها متساءلاً:.
إية اللي إنتِ عاملاه ده كله يا أمي في إية القيامة قامت؟ ضربت على فخذيها بغلب - مصطنع - بالطبع وأجابته: ما إنت لو تعرف اللي أتعمل فيا هتعذرني ومش هتقول كدة رفع حاجبه الأيسر وسألها مستفسرًا: إية اللي أتعمل فيكِ يا أمي؟ رمقته بنظرات مغلولة وقالت: اللي ما تتسمى مراتك، اللي ما هتورد على جنة ولا على نار دي، تنشك في بوقها اللي نطق كلمة وحشة في حقي، يتقطع صباعها اللي شاور عليا وآآ.
قاطعها مجدي بملل شابه شبرًا من الغضب: هاا يا أمي خلصتِ ليستت الشتايم والدعاوي، ممكن أفهم عملتلك إية بقا اللي ما تتسمى دي؟! وجدت البكاء مناسبًا في تلك المرحلة وهي تشرح له: روحت لها يا مجدي، روحت لها أسلم عليها واسأل عليها بدل ما تقول ابنها اتجوز وكرهتني، وإنت عارفني مابكرهش حد، روحت لها وياريتني ما روحت قلق...
قلق حقيقي طرق باب قلبه في تلك اللحظات من تلك المعركة التي مؤكدًا نشبت بين والدته و زوجته، والتي لن يكون فيها طرفًا خاسرًا سواه! سألها مكملاً: ها إية اللي حصل هناك بدون مقدمات اكملت وهي تمسح عيناها، علها تهدئ من ذاك الانهيار المزيف:.
بواسيها وبقولك معلش يا روكا يا حبيبتي متزعليش نفسك خالص، إلا اني فجأة يابني لاقتها هبت فيا زي البوتجار ابو خمس عيون مولعين، وبتقولي إنتِ بتقولي إية يا ست يا خرفانة إنتِ، إنتِ مجنونة ولا إية، وفضلت تقولي كلام من اللي قلبك يحبه يا مجدي يابني كز على أسنانه بغضب جامح وسألها: وإنتِ سكتِ على الإهانة دي يا حجة؟ هزت رأسها نافية:.
عمالة اقولها إهدي يا رقية، مش كدة يا رقية، ده أنا اد أمك يا رقية، إلا انها كانت زي ما تكون لاقت فرصة تهزقني فيها، وبعدها يادوب باخد نفسي، تخيل عملت إية كمان تمتم بغيظ: امممم عملت إية كمان طردتني وشتمتني يا مجدي، شتمتني وقالت لي أبقي خلي سيد الرجالة يبعت لي ورقة طلاقي في أقرب وقت! عند هذه النقطة ويكفي! طلاق، مصاحب بالإهانة له؟! وصلت ينابيع غضبه حد الغليان من تلك التي كان يكن له عشقًا مأسورًا!
وكانت بدور تتابعهم بدقة شديدة، وتترقب كل حرف تنطقه تلك السيدة، والتي تيقنت أنه كذب... عاشق ولهان مثل مجدي علوان لا يهب قلبه إلا لمن تستحق! وفي يومًا وليلته تحولت من محض حب الجميع، لحجرًا يرمي إهانات فقط؟! وقد صدق من قال ماتفهمش الست إلا الست اللي زيها وعلى أي حال، بالطبع هذا لصالحها! بينما نهض مجدي وشرارات غاضبة تتطاير من عيناه ليزمجر: كدة جابت اخرها معايا، وانا هوريها بقا سيد الرجالة هيعمل إية!
وإتجه نحو الباب، ليهبط مستقلاً سيارته ليتجه نحو، رقية وكأنه يسير بالحرف على تلك الخطوط الخبيثة التي رسمتها والدته!
شقت شمس يومًا جديد سماء الأرض، فملأتها حيوية بأشعتها الصفراء الهانئة، هانئة على بعضًا، وربما البعض الأخر لا، تسير بمقولة يوم ليك ويوم عليك! كان ياسين على فراشه، يتذكر ما حدث بالأمس، يتذكر الورطة التي وُضع فيها، ويتذكر سعادة ماهيتاب التي كانت تتقافز من بين عيناها! يتذكر ثرثرتها الزائدة معه وحده، ويتذكر إختلائها به، وقد عُكست الأية تمامًا! فلاش باك..
جلسا سويًا في حديقة المنزل، وبالطبع من اقحمه في ذلك الموقف ايضًا - والده العزيز - والذي يعتقد أنه هكذا يقربهم من بعضهم اكثر! جلسا امام - حمام السباحة - ترى ماهيتاب إنعكاس صورتها الجذابة، بفستانها القصير والذي إرتدته عمدًا لا يكاد يصل لما فوق ركبتيها! ابتسمت وهي تبادر بالقول: مبسوطة إنك وعيت للي كنت بتقوله يا ياسوو، وأفتكرت إن احنا ماننفعش غير لبعض بادلها بأبتسامة - صفراء - و رد:.
أسمي ياسين مش ياسو، أنا راجل مش بنت بتدلعيها كدة اومأت مؤكدة: وهو حد يقدر يقول غير كدة يا حبيبي نظر للجهة الاخرى بضيق من تلك الجلسة - الباردة - حرفيًا.. ليشعر بيدها تتحسس ذقنه القصيرة بطريقة حميمية، ليمسك بيدها ويحاول ابعادها محذرًا: ماهيتاب اقتربت اكثر لتهمس بجوار أذنه بنعومه: عيون ماهيتاب تأفف وهو يهتف حنقًا: مينفعش كدة على فكرة سألته ببرود: هو إية اللي ماينفعش! حاول النهوض متابعًا بضيق حقيقي:.
اللي إنتِ بتعمليه ده مش هيأثر فيا قصدك إن انا مش بأثر فيك يعني سألته بخبث ومن ثم اصبحت ملاصقة له تمامًا.. علها تؤثر عليه بجسدها الأنوثي المرسوم، تُشعره بسخونة جسدها من قربه عله يحترق منها مثلها! شفتاها تصل لشفتاه فجأة، لتقبله بعمق، قبلة لا تقبلها فتاة من المفترض أن تكون - خجولة - في موقف كهذا؟! ويداها تعبث في أزرار قميصه.. ابتعد صارخًا فيها: إنتِ بتعملي إية إنتِ مجنونة! اومأت وهي تقول ببراءة لا تليق بها:.
مجنونة عشان بحبك يا ياسين؟ وبعدين مفيش حد هايجي هنا خالص إلا اما احنا نروح لهم هز رأسه نافيًا، وأشار لها باصبعه قائلاً بحدة: ايًا كان، حتى لو محدش جه، كنتِ متوقعة إية يحصل بين إتنين قاعدين لوحدهم، ما اجتمع رجلاً وامرأة إلا وثالثهما الشيطان رفعت كتفيها تجيب بدلال: زي ما بيحصل بين أي اتنين بيحبوا بعض هز رأسه ساخرًا:.
تبقي بتحلمي، مش أنا اللي اعمل حاجة تجبرني على حاجات تانية فيما بعد، ومش أنا اللي أعصي ربنا وأعمل حاجة من الكبائر عشان واحدة ست خص كلمته الاخيرة بنظرة استحقار لم يستطع اخفاؤوها من عيناه.. ليوليها ظهره منهيًا ذاك الحوار الذي لم يودي نتيجة نافعًا ابداً! باك تنهد بضيق مازال يجتاحه إلى الان.. لا يدرك ماذا يفعل! كره محط الضعف والضغط الذي اصبح فيه الان! وإتصال اخر على هاتفه جعله ينتفض ممسكًا به واجاب:.
جلست جميلة شاردة الذهن كالعادة في الحديقة التي أصبحت مربع أسرارها الخالدة الوحيد! وضعت قدم فوق الأخرى، كل دقيقة تأمر وكأنها تأمرها بسرعة التنفيذ، وها هي ستنفذ بالفعل... ولاح في عقلها السبب الذي جعلها تساعد سيلا في عدم كشف أمرها دون أن تدري... السبب الذي جعلها تكون غطاءً على سيلا التي تعلم انها - كاذبة - ولكن السبب مجهول لها حتى الان! فلاش باك.
أغلقت جميلة باب غرفتها عليها جيدًا، لتتأكد من عدم اقتراب أي شخصًا منه حتى، ثم اتجهت للكمدين تلتقط هاتفها المحمول لتتصل بشخصًا ما، اتاها صوته الأجش قائلاً: الووو الووو يا إبراهيم ايوة يا حجة خير، انا ببلغك بكل حاجة أول بأول انت بتسأل وبتجبلي اخبار كل شهر، انما انا دلوقتِ عايزاك تروح تسأل وتعرف اللي حصل خلال الاسبوع ده اشمعنا يعني يا مدام ما من بدري بجبلك اخبار بالشهر.
اسمع الكلام لو سمحت يا ابراهيم، عايزة اعرف كل حاجة بالتفصيل هعملها ازاي دي يا مدام معرفش اتصرف يا ابراهيم، عايزة اعرف اية اللي حصل مع البت الأسبوع ده هحاول اطأس كدة واسأل ماشي هستنى منك الاخبار ماشي سلام مع السلامة.
اغلقت وهي تتنهد بهدوء.. وبعدهت بوقتًا مناسب، علمت أنها خُطفت وأن الاهل يبحثون عنها في كل ارجاء المدينة... باك عيناها ظلت مثبتة على اللاشيئ، علمت نقطة ولكن لم تصل للنقطة التي توازيها! علمت أنها لم تترك منزل اهلها بل اختُطفت ولكن لم تعلم كيف أتت إلى هنا تحديدًا؟! والكثير والكثير من التساؤلات التي تتعلق بين جنبات عقلها كأعتراض مطالب بأجابة منطقية!
وقفت سيلا بجوار فاطيما تؤدي الخدمة المنزلية كالعادة منذ أتت في هذان الاسبوعان - عملها المؤقت -... عملها الذي جعلها كائن مغناطيسي جالب للأهانة! جعلها محط للشفقة والعطف! شعوران متناقضان لطالما كرهتهما، كانت هي من تشعر بهم تجاه بعض الأناس... ولكن الان أنعكس القالب لتصبح هي من تثير الشفقة! انتبهت لفاطيما التي قالت لتجذب انتباهها: يا بتي، وين روحتي إنتِ؟ ابتسمت ابتسامة صفراء وهي ترد مغمغمة:.
معلش يا دادة سرحت شوية سألتها بفضول وهي تعمل: اممم، جوليلي بجى سرحتي في إية؟ تنهدت تنهيدة طويلة حارة تحمل بطياتها الكثير.. قلق، توتر، خوف من القادم، وقرار صادم رممته بقوتها المعهودة... قرار كساه ونبع من الأشتياق لأهلها! الرحيل! سترحل بالفعل وانتهى الأمر؟! ستنتهي تلك الفترة - التي اعتقدت - انها اُهينت فيها بما يكفي! قطع ذاك السيل الممتلئ من الافكار المزدحمة في عقلها صوت فاطيما العاتب:.
واه، الظاهر انك ما عايزاش تحكِ يا بتي، متزعليش مني ده مچرد فضول بس هزت رأسها نافية وسارعت تبرر: لا لا ابداً يا دادة، انا اللي بقيت بسرح كتير بس ابتسمت الاخرى وسألتها: ماتجربي تحكِ لي أي حاچة عنك يابتي يمكن تفتكري ايتها حاچة ابتسمت سيلا بود حقيقي، ود ظهر لطيبة وحنان صادق يظهران بكل وضوح على قسمات تلك السيدة! وهمست بشرود:.
الفترة اللي قضيتها معاكم صدقيني كانت فترة حلوة، مانكرش أني اتقالي إنتِ خدامة بعدد شعر راسي بس فعلاً تفاصيل اللي حصل ماتتنسيش، الحنية اللي شوفتهم هنا ونظرت لها بطرف عينيها: بغض النظر طبعاً عن دبش الصقر والقسوة اللي بيحاول يقللها وتحدث صوتها في خلدها: وبغض النظر عن الشوق لأهلي اللي كان هيموتني كل يوم، بس فعلاً حبيتكم قاطعتها فاطيما ضاحكة:.
طب بمناسبة الصجر، إطلعي هاتي لي الهدوم اللي مش نضيفة من السلة اللي فوج سألتها مستفسرة: فوق فين؟ رفعت كتفيها ببساطة: في أوضة الصجر يابنيتي مالك همست: مليش حاضر طالعةة أفترش التوتر على قسماتها، ولكن اومأت بهدوء واتجهت للأعلى.. لعلها توعده في اخر لقَاء سيحدث الان وتنقطع كل الخيوط بينهم بعد ذلك، سواء إهانة او غيرها بمقص، القرار الحاد!
وجدت الغرفة ساكنة تمامًا والباب مفتوح الى حدًا ما، تنحنحت وهي تدلف واعتقاد خاطئ انه يعمل الان كالعادة يسكنها! وفجأة رأته امامها ينام على الأريكة امام اوراقه! واجبرتها عيناها على التحديق به.. كانت قسماته هادئة، مسترخية وخالية من شوائب القسوة والحدة! ظل تتأمله للحظات، تنسخ صورة له في عقلها علها تحتاج لحدته يومًا! وفجأة ومن دون سابق إنذار...!