والشك إنغرز بقلبه على الفور من رفضها! ذاك الرفض الذي لم يكن يتمناه ابدًا، وذاك الشك الذي سيجعله يفعل اشياء لم يكن يرغبها! وفي عُرف الصقر إن اجتاحه الشك اكثر من ثلاث فانتهى الأمر! بينما كانت جميلة تنظر لها بشك ايضًا، وقد راودها شعور بالحقيقة.. هي لم تكن فاقدة الذاكرة، ولكن السؤال الوحيد الذي يسيطر على مقاليد عقلها ماذا جلبها لهنا وبأرادتها؟!
بينما هي كانت تشعر أن التوتر والقلق أصبح جزءً لا يفترق منها.. نظراتهم المتوجسة تخترقها ودون تردد لتفتتها لمجرد شظايا تخشى قسوته! واخيرًا أستطاعت النطق ؛ يعني اية مش هتروحي رفعت كتفيها لتقول ببساطة: يعني مش هروح لدكاترة! شعر بداخله يكاد ينفجر من الغضب المكبوت ليسألها مرة اخرى ولكن بحدة بدءت في الظهور على محياه: مش هاتروحي يعني اية هو لعب عيال! هزت رأسها نافية لتجيبه بأصرار مزيف:.
لأ مش لعب عيال بس مش عايزة أروح سألها مزمجرًا: والهانم مش عايزة تروح لية بقا إن شاء الله؟ توترت اكثر حتى احمر وجهها كاللوحة كانت فرشاتها مصنعة من القلق والخوف ولكنها حاولت ان تجيبه بثبات: أسباب خاصة بيا لم يحتمل كبت غضبه فاقترب منها واصبح امامها في لمح البصر ليقبض على ذراعها النحيف بقسوة وقوة ألمتها بالفعل، فحاولت ابعاده وهي تقول متألمة: آآه دراعي هيتكسر في ايدك ظل يهزها وهو يسألها بما اشبه الصراخ:.
إنطقي مش عايزة تروحي لية خايفة من إية؟ والدموع كانت أسرع ما تكون في عيناها، دموع كالشلالات التي حُبست خلف سد الأصرار على عدم إظهار انهيارها امامه! واخيرًا نطقت بصوت يقترب من البكاء: مش خايفة من حاجة وعاد سؤاله بنفاذ صبر: امال ماعايزاش تروحي لأم الدَكتور لية بجى؟ هزت رأسها لتكمل كاذبة: أنا بس مش عايزة افتكر، عايزة افضل فاقدة الذاكرة سألها وكأنه القاضي هنا يسأل فقط:.
لية وإنتِ مين عرفك إن ماضيكِ مش هيعجبك عشان متفتكريهوش؟ هزت رأسها تردف صدقًا هذه المرة: أنا حاسه إن الماضي زفت، مش عايزاه، نفسي امحيه من حياتي خالص وكلماتها تلك المرة لم تكن بدافع الهروب من الطبيب قط.. وإنما كلمات خالدة بين جدران قلبها الذي أوشك على الإنكسار! ليستمر هو ملقيًا بإهاناته وكلماته التي تقطر سمًا بوجهها:.
وأنا مالي، ماتنسيه ولا تغوري، المهم أتأكد إنك مش تبع الكلاب وإعملي اللي تعمليه إن شاء الله تموتي نفسك! شعرت جميلة بقرب إنهيار سيلا فاقتربت منهم ممسكة بيد سليم التي تقبض على سيلا فقالت جادة: خلاص يا سليم، بالهداوة مش كدة هز رأسه نافيًا ليستطرد غاضبًا: هداوة اية يا خالة دي هتجنني، أنا قولت لك إني شاكك فيها من البداية اومأت لتقول بهمس وهي تبتعد عن سيلا التي كانت ترتعش شفتاها محاولةً لحبس دموعها:.
إنتَ قولتلها كلام زي السم يا سليم، كل ده عشان قالتلك مش هاروح للدكتور، طب ما تسيبها يا أخي أبتعد عنها قليلاً، ليزفر قبل أن يقول بجدية شبه حادة: لأ يا خالة ماينفعش، إفرض كانت منهم وجاية هنا عشان حاجة معينة، انتِ عارفة إن اعداء شغلي كتير؟ ربتت على كتفه، لتنظر أمامها بشرود، وقد تحدث شرودها فيما تتيقن منه فقالت: أنتَ بتثق فيا يا سليم صح؟ اومأ مؤكدًا: أكيد طبعًا يا خالة ابتسمت وهي تتابع برقة:.
وأنا بأقول لك البنت دي مش من أعدائك، دي فعلاً المفروض مكانها هنا، معانا! نظر لها مضيقًا عيناه بريبة وسألها: تقصدي إية يا خالة تنهدت قائلة بغموض لم يفهمه سليم قط: أكيد هتفهم كل حاجة في وقتها يا حبيبي، المهم إنك ماتفقدش اعصابك مع البنت دي، دي طيبة أكتر مما كنت تتوقع، وسليم اللي انا اعرفه حليم وهادي مش بيتعصب بسهولة كدة.
اومأ ليزفر بضيق حقيقي عارم، ثم اقترب من سيلا التي كانت تقف كالصنم مكانها، وكأن كلماته كانت مسمار يثبتها بمكانها ولكن مصاحب بالألم الشديد! فقال مشددًا لها على كل حرف: يلا هنروح للدكتور دلوقتِ لم يعطيها فرصة للاعتراض فسحبها من يدها للخارج بينما كانت هي مستسلمة لقدرها...!
ياسين! قالتها فتاة تقترب من ياسين بنزق مصدوم.. أصبحت أمامه تمامًا، عيناها تكاد تختلع من مكانها لتخنق نادين تلك المسكينة التي كانت تجلس لا حول لها ولا قوة! بينما همس هو ببلاهة: إية ده ماهيتاب!؟ اومأت وهي ترفع حاجبها الأيسر مرددة: أيوة ماهيتاب يا أستاذ خطيبتك، خطيبتك اللي أنت مكنتش بترد عليها بقالك يومين! أغمض عيناه بملل، ذاك الصوت وذلك الكلام يشعره بالخنقة فعليًا! هو بحياته لم يكن يرغبها!
كان في حياته كالسلاسل الحديدية تخنقه كلما اقتربت منه اكثر! نظر لها بهدوء وهو يبرر كاذبًا: معلش كنت مشغول في الشغل جدًا اليومين دول نظرت لنادين التي لم تتخلى عن الصمت لحظة كأنه رفيقها الوحيد لتتابع بتهكم جارح: مش فاضي عندك شغل ولا مطنشني عشان دي! قالت كلمتها الأخيرة وهي تنظر لها من أعلاها الى امحص قدميها.. لو كانت نادين بوعيها الان وتلقيت تلك النظرة الجارحة لسقطت باكية من تلك الأهانة العميقة!
ولم تكن ماهيتاب بقليلة حتى لا تفعل ذلك.. هي ماهيتاب النجار أبنه أكبر رجل أعمال، خصلاتها المصبوغة تكاد تغطي نظرات عيناها التي تكاد تقتل الجميع.. وملابسها القصيرة تنم عن مستواها الاجتماعي العالي! بينما صاح ياسين فيها بجدية تحمل بعضًا من الحدة: اولاً اسمها نادين، ثانيًا دي مريضتي، يعني مش قاعد معاها بتسلى اجابته بنفس النبرة المغتاظة: أمال مابتردش عليا لية صرخ فيها بنفاذ صبر بصوت بدء يرتفع رويدًا رويدًا:.
قولتلك شغل، زفت شغل ظلت تزفر بقوة وهي مغمضة العينين، تحاول تهدأة نفسها الثائرة.. فهي تعلم جيدًا بل تحفظه عن ظهر قلب، إن غضب وثار عليها سيصبح كالاعصار لا يقف بوجهه اي شخص ابدًا! اومأت وهي تسأله بشك: متأكد يا ياسين أنه مجرد شغل؟ كاد يجيبها إلا انه سألها مضيقًا عيناه: إية ده صحيح إنتِ بتراقبيني يا نادين؟ نظرت للأسفل تفرك اصابعها قبل أن تجيبه: لا طبعًا، ولا عمري أفكر في كدة فسألها مرة اخرى بجمود:.
امال ده اسميه أية؟ رفعت كتفيها لتقول ببراءة مصطنعة: أنا بس قلقت عليك لما لاقيتك مش بترد عليا، ف قمت قولت أجي لك في الدار هنا، انا عارفة إنك اشتغلت فيه وسألت عليك برة قالولي في الأوضة دي اومأ موافقًا ليقول لها بنبرة شبه آمره: روحي دلوقتِ وأنا هخلص شغلي واتصل بيكِ نتقابل بليل كادت تعترض إلا انه قاطعها بخشونة أنهت اعتراضها السخيف: ماهيتاب، خلصنا ده شغل مش تسلية!
اومأت وهي تعض على شافهها السفلية بحرج وغيظ لتغمغم بعدها: ماشي يا ياسين، هستنى اتصالك هه اومأ ياسين بتأكيد: خلاص يا ماهيتاب خلاص هتصل استدارت وهي تشير لها لتذهب حانقة من جلوسه بمفرده مع نادين بينما هو إلتفت الي نادين التي لم تتحرك بالطبع ليهمس بعدها: أنا مش عارف انا بعمل كدة لية، زهقت!
كانت رقية تتوسط صدر مجدي العاري، تغمض عينيها عل ذاك الحلم الرائع لا تنتشله منها الحقيقة المريرة! بينما هو لم تزول الابتسامة من ثغره، الفرحة غمرت قلبه المُظلم ولو قليلاً! تنهد قبل أن يقول بهدوء مُهلل: ياه، ماتتخيليش أنا مرتاح قد أية دلوقتِ يا رقية ابتسمت هي الاخرى.. رغم تغاضيها عن كلمة مرتاح وليس سعيد ، تلك الكلمة التي اشعرتها انها يمكن ان تصبح مصدر للأرتياح فقط ليس اكثر! ولكن هتفت بنفس الهدوء:.
وأنا يا مجدي بردو سألها بهمس حنون: إنتِ إية يا قلب مجدي؟ إبتلعت ريقها بصعوبة، لا تحب ذاك الحصار في كلامه.. حصار يجبرها على النطق بمدى عشقها له وقد تندم عليه لاحقًا! شعرت بيداه تتلمس شفتاها، ووجنتاها تُحمر كأنذار للأجابة.. فقالت بصوت مبحوح: مرتاحة سألها مرة اخرى بمراوغة: مرتاحة بس؟ وكأن الهاتف انقذها من اعتراف قد يجعلها في موضع ضعف نعم ضعف، العشق يجلب الأسر.
الأسر الذي يجعلها تراه مع زوجته وتصمت، بسبب ذاك العشق! ابتعد قليلاً ليمسك بهاتفه، توتر افترش على ملامحه السمراء لتلكزه رقية في كتفه قائلة: في اية مالك ما ترد! وضع الهاتف بجواره مرة اخرى ليقول بلامبالاة مضطربة: لا لا تليفون مش مهم سألته بشك: مين؟ لم يرد فكررت سؤالها بجدية ظهرت في وقتها المناسب: مين اللي بيتصل يا مجدي؟ بدور يا رقية قالها وهو يتأفف من ذاك الهاتف الذي لم يكف عن الاتصال..
سألته وقد بدء الأمر يتضح امامها: بدور مين، م.. وعجزت عن إكمال تلك الكلمة التي لم يسعفها لسانها لنطقها! تلك الكلمة التي جهر قلبها باعتراض شديد على مجرد نطق كلمة ستجعله يُمزق حرفيًا! ليومئ برأسه قبل أن يستطرد بصوت هامس: اللي لسة متجوزها ابعدت يدها عنه لتنهض، بالطبع ظهر الحزن والغضب والألم معًا على قسمات وجهها.. من مجرد إتصال! أتصال اشعل في كل حواسها الغيرة الفطرية من درتها امسك بذراعها ليسألها بجدية:.
رايحة فين يا رقية عادت لطبيعتها لتصرخ بحدة: هغور في داهية ملكش دعوة! نظر للهاتف الذي طال اتصاله ليرد بغضب: الووو نعم ... اية ازاي ده! ... حاضر حاضر مسافة السكة ... سلام.
اغلق الهاتف لينهض مرتديًا ملابسه بسرعة وعينا رقية تترقبه وتخترقه.. ودت لو تحرقه قبل أن يذهب!
عاد عزت للمستشفى التي يكمن بها والده، ليدلف الي الغرفة... وجد والده كما هو، شارد وحزين، وكأنه اقسم ألا يبتسم لتلك الدنيا بعد أن ذهبت هي منها.. اصدر أنينًا قصير وقد دمعت عيناه! نعم كاد يبكِ بالفعل! حبه لحفيدته فاق مجرد السير في اوردته، بل اصبح كالادمان يصعب التخلي عنه! نظر لعزت وسأله بحزن يسيطر على نبرته: ملاقتهاش بردو يا عزت؟ هز رأسه نافيًا ليجيبه بضيق:.
لا بردو يا بابا، مش عارف كأن الأرض إنشقت وبلعتها! نظر الاخر امامه بيأس، ليتابع عزت وقد بدء الحزن يظهر في نبرته: ولا تكون، تكون آآ ماتت زي ماقالوا لنا؟!؟ هز رأسه نافيًا لينهره بشدة: لا يا عزت لا متقولش كدة سأله عزت بنفاذ صبر: امال تفسر اختفاء اسبوع ونص بأية يابويا؟ رفع كتفيه ليرد بقلة حيلة: اكيد مسيرنا نلاقيها، ان شاء الله ندور عليها العمر كله! اومأ عزت وهو يردف متمنيًا بصدق: ان شاء الله.
وفجأة امره والده بجدية: قوم هاتلي رقم المحامي بتاعي وهات التليفون سأله عزت بعدم فهم: لية يعني! محتاجه قالها وهو ينظر امامه بجدية صلبة ليقول عزت مستنكرًا: محتاجه في المستشفى هنا؟ اومأ بأصرار ليستطرد متأففًا بنفاذ صبر: ايوة يا عزت هو تحقيق يلا روح هاته نهض عزت بهدوء وهو يغمغم بغضب: كأن عزت ده عيل صغير ياربي ثم اتجه للخارج بهدوء ليجلب له ما طلب، بينما الاخر كان يجوف بين محيط افكاره بحزن!..
كانت سيلا تجلس امام ذاك الطبيب الذي سيجعل كذبتها - الاضطرارية - حقيقة أمام الجميع.. حقيقة ستجعلها ترتجف لمجرد اقتراب الصقر منها، وعيناها حملت في طياتها رجاء حار بالطبع لم يلحظه، وخيوط أمل تنقطع امامها ما أن ترى معاملة الطبيب الودية لسليم! وشيئً ما اقوى من الخوف يعتصر قلبها.. هي ستنفي ايًا كان ما سيقوله! خاطبت نفسها هكذا ربما لتهدأة عقلها الهائج الذي كان يتخبط صرخًا بين جنبات عقلها!
واقتراب الطبيب ليجلس امامها كان كأقتراب الخوف والقلق اكثر.. بدء جلسته بسؤاله المعتاد: أسمك اية؟ اجابته بثبات مزيف: سيلا سألها مرة اخرى مستفسرًا: عرفتي أزاي؟ رفعت كتفيها تقول الحقيقة هذه المرة: انا عرفاه كدة اومأ ليبدء اسئلته وبالطبع هي تتقن كونها - فاقدة الذاكرة - وما إن انتهى حتى قال لها سليم الذي دلف لتوه: يا دوك لو سمحت نعمل الأشعة بقا عشان نعرف اومأ الطبيب مؤكدًا ليجيب برسمية: حالاً اهو يا استاذ سليم.
وبعد فترة... فترة مرت على سيلا كدهر، دهر يمر بمراحله البطيئة المعذبة فعليًا كأنها فترة حرب ونظرات سليم كالسهام موجهه نحوها فيها! مرت ساعتان وتمت الاشعة وظهرت النتيجة التي ستحدد مصيرها.. استسلمت للأمر الواقع وجلست مغمضة العينين صامتة.. وتقدمت جميلة تجلس بجوارها هادئة ساكنة.. وصدح صوت سليم متساءلاً: ها يا دكتور اية النتيجة، فعلاً فاقدة الذاكرة ولا؟ نظر له بهدوء ليجيب بعدها وهو ينظر لسيلا نظرات ذات مغزى:.
فاقدة الذاكرة فعلاً، الأشعة اللي عملناها ع المخ وضحت كدة!
لا يعلم يهدء دقاته الثائرة ويُهلل أم يلوم عقله الذي اصبح الشك جزءً اساسيًا منه يجعله يشك بمن حوله وكانه واجب! وكأنه لم يستوعب فهمس ببلاهة: فعلاً؟ اومأ الطبيب مؤكدًا وهو يشرح له بإيجاز: ايوة، لأن العقل لو كان سليم كنا هنقول بتكذب، إنما الأشعة اثبتت كلامها ابتسم سليم بهدوء ليقول بعدها بأمتنان: متشكرين يا دكتور تعبناك معانا هز رأسه نافيًا: لا ابدًا يا سليم، ده واجبي ك طبيب العيلة الكريمة.
وسأله مرة اخرى بنرة جادة لا تقبل النقاش: عاوز الأشعة يا دكتور لو سمحت عقد الطبيب حاجبيه، لا يفهم هل وصله شكه لمن بينهم سنوات - عِشرة - هل كبر شكه ليقضي على سنوات من الثقة بناها والده! وسأله ببعضًا من الضيق: حضرتك مش واثق في كلامي ولا أية يا استاذ سليم هز رأسه نافيًا ومن ثم نطق مبررًا: لا لسمح الله، أنا بس عاوزها عشان حاجة تاني خاصة، وكدة كدة يعني كنت هاخدها ده شيئ طبيعي اومأ مغمغمًا بجدية: تمام.
نهض ليجلب له - الأشعة - وخرج، لتقترب جميلة من سليم قائلة بنبرة ذات مغزى: إية يا سليم ماطلعتش كدابة وطلعت فعلاً مجرد بنت مش لاقية شغل يعني؟ اومأ ليقول بامتعاض: منا عرفت خلاص يا خالة وصدقت ابتسمت لتقترب منه تشده من اذنه متابعة بلوم خفي: قولتلك دي مش من اعدائك، إلا أنك كنت مصمم وكانك شوفتها عملت حاجة ماتصحش زم شفتيه بضيق كالأطفال ليرد: كان لازم اتأكد بردو يا خالة سألته مرة اخرى: واتأكدت؟ اومأ بارتياح:.
أكييييييد ربتت على كتفه قائلة بحنان: طب الحمدلله، يارب بقا وسواس الشك ده يسيبك شوية غمغم ببعض الضيق الحقيقي: إن شاء الله يا خالة جميلة بينما سيلا كانت في عالم اخر.. عالم تتخبط فيه بصدمة! كيف حدث ذلك! كيف اخبره الطبيب بالكذب! كيف رمم حبال أمالها الضعيفة لتصبح قوية من جديد؟! كيف ظهر من العدم من يجذبها من جوف الظلمات! لا تعلم، لا تعلم ابدًا ولكن لا يهم... ما يهم الان انها اصبحت بامان!
وكأن القلق فر هاربًا من بين جنبات عقلها ليصبح الأرتياح مكانه.. عادا طيفًا صغيرًا قلق حول كيفية حدوث ذلك!؟ نظرت لسليم لتقول بانتصار: شوفت إنك كنت ظالمني بس فاجئها بقوله الحاد: إخرسي، هتهزري معايا ولا اية ماتنسيش نفسك! ودوامة من الألم عصفت بها لتذكرها بعدم التدخل بشؤون ذاك الصقر الجارح احيانًا! سليم همست بها خالته ليقاطعها مشيرًا بيده بجدية هادئة ولكنها لا تخلو من الحدة:.
لو سمحتي يا خالة سيبيني، دي مجرد خدامة انا مش فاهم إنتِ لية متعاطفة معاها زيادة عن اللزوم؟! سليم انت من امتى بتجرح في الناس كدة؟ سألته بصوت منخفض مصدوم بالفعل من تصرفاته التي اصبحت غريبة مؤخرًا! ليجيب بصوته الرخيم: من بدري يا خالة بس يمكن إنتِ اللي مكنتيش واخدة بالك خلاص يا سليم بيه أنا اسفة قالتها سيلا التي كانت تنظر لهم بألم حقيقي احتل نظراتها، خادمة!
كيف وهي سيلاااا، سيلا صاحبة الشأن العالي، الغالية... آآه كم اشتاقت لجدها الحبيب، أشتياق غُلف بالألم الشديد! والطريق للعودة لأهلها امامها بالرغم من انه اصبح قصير إلا انها من زواية الحزن والالم التي تعمقتها تراه طويلاً وجدًا! صمتت خالته وصمتت هي.. كيف لا تصمت والصمت هو وسيلتها الوحيدة.. الصمت الذي يأسرها دائمًا خلف طياته العميقة!
تقدم الطبيب بالأشعة واخذها منه سليم لينهض متجها للخارج دون كلمة اخرى تتبعه خالته التي تعجبت من عودته لكلامه الذي لا يكف عن قطر سمًا مميتًا!
وصل مجدي إلى شقته الأخرى الذي استأجرها مؤخرًا.. لزوجته التي تُعد اهم عقبة في حياة رقية ! رقية التي تركها وركض لتلك العروس التي من المفترض انها ليلة عرسها! تركها تغلي الدماء بين اوردتها، تتلون باللون الأحمر من شدة الغضب، وكأن ذاك اللون يزداد كلما زاد الغضب درجات الغضب التي وصلت لها لا تُحصى ولا تعد! وفتح الباب ليجد بدور تجلس على الأرضية ويدها تنزف الدماء وهي تكتمها بقطعة قطنية بيضاء!
ركض لها ليسألها مسرعًا: اية اللي حصل يا بدور؟ نظرت له بعينان - كانت - من اللون العسلي، واصبحت حمراء من البكاء! لتقول بشهقات متقطعة: إيدي، إيدي وجعاني اوي والازاز دخل فيها يا مجدي سألها مرة اخرى بتوتر: طب إزاي! اجابت بحزن: كنت آآ كنت بأحضر اكل، والطبق الازاز وقع من فوق على إيدي لا يعرف ماذا يفعل! يتأفف لكونها جلبته لإصابة غير خطيرة.. ام يركض ليداوي يدها التي دخل فيها الزجاج!
ومابين تلك الحيرة التي لا تناسب ما يحدث إطلاقًا صرخت فيه هي بحدة: اعمل حاجة بقولك الازاز دخل في إيدي نهض مسرعًا ليجلب لها الأسعافات الأولية، وبعد قليل كان قد انتهى من مداواة جرحها... بينما هي كانت تتفحصه.. مجدي علوان.. الزوج الذي لطالما تمنته، بعيوبه قبل مميزاته، بتتشتاته وعصبيته وعلاقته بزوجته التي رأت فيها سلاسل تقيدهم ببعضهم! وحتمًا ستفصلهم بمطرقة - الغيرة -.
لا يهم السبب، ولا يهم ذاك العشق الذي يتلاحم بينهم مع الوقت اكثر! أنتبه لنظراتها ليسألها ببلاهة: مالك؟ رفعت كتفها العاري الذي لم ينتبه له إلا الان لتجيب: مليش، منا كويسة جدًا اهوو اومأ وهو ينهض متجهًا للغرفة التي خصصها له وقال: انا داخل ارتاح شوية يا بدور هتفت بسرعة: طب استنى بالطبع لن تتركه، بعدما حالفها الحظ واستجاب نداءها ليأتي تتركه؟!
لا والله لن تفعل، سحر عيناه الذي يجذبها كالمغناطيس اساسًا لن يجعلها تتركه! كاد يغلق الباب إلا انها منعته ثم دلفت واغلقت الباب.. عارضت احدى قوانين الطبيعة واصبحت الفريسة هي من تعرض نفسها على صائدها!؟ نظر لها قاطبًا جبينه بضيق وسألها: في اية يا بدور.
اقتربت منه ببطئ، وقدماها يتلمسان وهي تسير مترنجة - عن قصد - وكأنها سخرت سيرتها الدلالية لتجذبه هي مرة! وكأنها عارضة ازياء، وأنتبه ل - قميص نومها - الذي ترتديه! لم ينتبه وكأنه لم يراه، ولكن الان اجبرته عيناه ك رجل للتحديق بتلك الفاتنة التي تعرض نفسها عليه بوضوح! اصبح امامه متلاصقة به، لتشعره بسخونة جسدها وهمست: إنت اللي في اية كأنك مش طايقني هز رأسه نافيًا ومن ثم اجاب ؛.
لا ابدًا كل المشكلة أني تعبان شوية من الشغل وكدة وضعت اصابعها تحسس على جبينه لتتابع همسها الذي اصبح مثير: أنا هريحك بطريقتي الخاصة، هتنسي كل همومك هز رأسه نافيًا ببعضًا من التوتر لهذا القرب الذي يعلم سببه الخفي: لا انا هنام شوية وهبقى كويس وقررت أستخدام - الوسيلة الوحيدة - ونقطة الضعف لصالحها.. لتهتف بعدها بدلال يشوبه بعض الحزن: مجدي النهاردة ليلة فرحنا، وأنت عايز تنام وتسيبني؟
تنهد بضيق وقد أيقن أن لا مفر! وكاد يكمل: لا مش كدة بس انا تعبان شوية وآآ وكانت هي الأسرع بقبلة دامية تكن هي فيها الطرف الراغب! وكرجل كان الاغراء اول من يراه منها أستسلم لاغوائها! ومد يده يحيط بخصرها ويبادلها قبلاتها ليحملها ويلقيها على الفراش، ليدلف معها الي عالم، الرغبة فقط! ما به من عشق او حنان!
في منزل الصقر تحديدًا بجوار المطبخ، جزءً خالي من المنزل، وقف إحدى الرجال، يرتدي الملابس المعتادة لأهل الصعيد جلباب من اللون الرمادي، وعمامة بيضاء، ظل يلتفت حوله يتأكد من عدم مراقبة أي شخص له، ثم اخرج الهاتف الصغير ليجيب على الاتصال: الووو يا باشا ايوة يا زفت مابتردش على التليفون لية؟ معلش يا باشا ماعارفشي أتكلم كَتير اليومين دول ماشي المهم أية الاخبار مراجبها يا باشا زي ما حضرتك امرتني.
وبلغت بوليس او لاحظت انها بتتكلم ف التليفون مع حد او اي حاجة لاه يا باشا، انا عيني مابتترفعش من عليها 24 ساعة كأني ظلها مش عايز تقصير يا حسنين الموضوع ده فيه قطع رقاب، لو البت دي حد عرف انها كانت مخطوفة اهلها لو رجعتلهم هيودونا لحبل المشنقة متجلجشي يا باشا، ماهتخرجشي ولت هتتكلم مع حد الا وانا عارف وياريت ماتجتمعش مع الصقر كتير رغم انها صعبة بس حااضر يا باشا هحاول أنت تجمر وكله بحسابه.
طيب لو في حاجة بلغني اوامرك سلام سلام يا باشا.
أغلق الهاتف وهو ينظر حوله مرة اخرى، وضع الهاتف في جيب جلبابه مرة اخرى، ليتنهد قبل ان يمط شفتاه هامسًا بضيق: كم هي بت هبلة، جاعدة چمب أجرب الناس ليها وماعرفاش تعمل إية!
منزل كبير، غرف واسعة به، واثاثه حديث يدل على فخامته... كان يقف هو على السلم يرتدي ملابسه المهندمة والتي كانت عبارة عن بنطال جينز وتيشرت من اللون الأخضر يتناسب مع بشرته القمحية.. بين اصابعه السمراء السيجار، وأمامه هي مُلقاة على الأرض، شعرها الأسود مشعث حول وجهها الأبيض بعشوائية.. نظرت له بعيناها الخضراء الممتلئة بالدموع لتقول برجاء حار: حرام عليك يا حازم، حرام عليك هروح فين اجابها ببرود ثلجي:.
معرفش اتصرفي بقا يا نادين، انا حذرتك إنك تبلغي شرطة او تعملي حاجة وإنتِ ماسمعتيش الكلام هزت رأسها نافية لتتشدق باستنكار: حرام عليك عايزني أسكت عن حقي في ورث اهلي وتاخد أنت كل حاجة! اومأ ليجيب بهدوء مستفز: ايوة لان انا اللي هعرف احافظ على الفلوس دي مش إنتِ نهضت لتركض له وهي تهمس بصوت مبحوح: طيب سيبني أقعد وأوعدك هتنازل عن القضية وهسكت خالص قال نافيًا:.
لأ، قولتِ كدة قبل كدة ومعملتيش كدة، وأنا مش فاضي لوجع الدماغ ده ثم دفعها بيده لتسقط ارضًا متأوهه بألم يسكن روحها التي كادت تنكسر قبل جسدها، ليكمل بخبث دفين: لكن كدة، هيفتكروكِ موتي وتبقى كل حاجة ليا رسمي! حاولت إقناعه بحزن حقيقي: دي وصية بابا يا حازم؟ طب لو مش عشان بابا عشان ربنا رمقها بنظرات قاسية وعيناه السوداء تحتد، تناسقًا مع ملامحه الحادة قبل أن يزمجر فيها بغضب:.
وإنتِ معرفتيش ربنا لما روحتي تبلغي وتشحطتي اخوكِ في الأقسام صرخت فيه بعدم تصديق: بس متقولش أخوكِ، أنت إستحالة تكون أخويا، أنت مش بني ادم أنت شيطان اكيد شيطااان! صفق بيده ليستطرد بعدها بابتسامة مستفزة: أيوة شيطان عاجبك ولا لا؟ وإن كان للشيطان خليفة في الدنيا فإنه هو خلفيته، وبالطبع الشيطان لا يعرف للرحمة معنًا! ولكن هي، هي التي ستموت قهرًا، تبحث عن خيطًا واحدًا للرحمة من بين فروع قسوته وجحوده اللانهائي.
خيطًا نابع من طفولتهم سويًا.. وصية أبواه الراحلين، رحمة نابعة من حنانه الفطري تجاه اخته ولكن، لم تجد، وجدت فقط ينابيع من الجشع وحب المال يتدفقا من عيناه القاسية! وقالت بهمس يائس: انا حتى معرفش حد في الأقصر يا حازم اومأ مؤكدًا ببرود: وهو ده المطلوب، إنك تكوني هناك ومحدش يعرفك عشان محدش يعرف إنك لسة عايشة توسلته لأخر مرة: طيب اديني اي فلوس وحاجتي وانا همشي ومش هاوريك وشي تاني.
مط شفتاه ليجيبها ساخرًا بما صدمها فعليًا: إذا كان انا مش هاديكِ بطاقتك الشخصية يبقى هديكِ فلوس!؟ اكيد لا وجحظت عيناها بعدم تصديق، لتهمس بعدها ببلاهة اضحكته: أنت بتقول اية، أنت مجنووون! ضحك ليردف مستفزًا: ايوة للأسف مجنون بالفلوس ولم يعطيها الفرصة لتستمر بالحديث فصفق بيده ليأتي رجلان مفتولي العضلات، فأشار لنادين وقال: أنتم عارفين طبعًا هتودوها فين؟ اومأ بتأكيد لتصرخ هي بهلع عندما سمعت كلمته الآمره:.
طب يلا امشوا! ظلت تصرخ: لااااااا حرام عليكم سيبوني، بابااااااااا لااااااا وذهبوا بها، لتواجه باقي جرعة عذابها والتي كانت سببًا أخر لما هي به.. وكأن القدر يختبر قدرتها التي نفذت على الأحتمال! استيقظت نادين من نومتها القصيرة لتصرخ بفزع حقيقي: لاااااااا سيبوني إرتعد ياسين الذي كان يجلس بجوارها منتظرًا استيقاظها.. يراقبها بعيناه التي كانت كالمرصاد عليها، تتلهف لشيئً خفي لا يفهمه!
امسك بيدها يحاول تهدئتها وهو يهمس: إهدي يا نادين ده مجرد كابوس إهدي ظلت تردد بهذيان: شيطان، شيطااان كلكم شياطين ولم يجد حلاً لتهدأتها سوى احتضانه الحنون، وملجأها الوحيد الذي اصبحت لا تهدأ، إلا بينه!
استأذن سليم من خالته لتذهب هي الي المنزل مع السائق واخذ هو سيلا بسيارته الخاصة، انطلق بها الي مكان ما! كانت تجلس بجواره، تنظر له كل ثانية، السؤال الوحيد على حافة لسانها إحنا رايحين فين؟ ولكن، نظراته الحادة المصوبة نحوها كانت دائمًا الحاجز القوي لتصمت! واخيرًا نطقت عندما نظر امامه: ممكن افهم انت واخدني على فين؟ نظر لها بحدة لتلعن لسانها الذي تفوه الان في خلدها..
ولكن حاولت استجماع شجاعتها وهي تهمس ساخرة: ده انا لو شتمتك مش هتعمل كدة صاح فيها بحدة مماثلة لنظرات عيناه: تعرفي تخرسي ولا لا؟ لم تعرف من أين اخترقتها القوة لتعارض كلام الصقر! كلامه الذي كان دائمًا كالخط الحديدي المستقيم، إن انحرف عنه اي شخص دمره بأشواكه! فقالت له بعند افتقده لفترة تطيع فيها الأوامر فقط: لا مبعرفش، أنت مجرجرني من إيدي زي العيلة الصغيرة معاك ومقولتليش إحنا رايحين فين وكمان عايزني اسكت!؟
لم يرد عليها ظل يقود وهو يضغط على المقود علها يكبت غيظه لفترة اطول.. فتابعت هي بغيظ: لأ وكمان أنت اللي مابتردش عليا، اللي يشوفك يقول إنك تقلان عليا وانا بتحايل عليك تكلمني، كل الموضوع إني عاوزة اعرف احنا فين بس لكن أنت لازم تطنشني زي الكلبة كدة، اه ماهو طبعك ولا هتشريه اوقف السيارة فجأة لتصدر صريرًا عاليًا، وصرخ فيها وهو يضع يده الخشنة على شفتاها الناعمة: بسسس، إنتِ اية يخربيتك راديو وإتفتح!؟
كانت تنظر له مذهولة وعيناها متسعة على اخرها، شفتاها ترتجف أسفل يده، وزواية من بين نظرات عيناها تترجاه أن يبتعد، هي تكره أي اقتراب! لاحظ يده علي شفتاها، للحظة خيل له شيطانه إن كانت شفتاه هي من تطبق على شفتاها! يتذوقهما مثلما أراد! لا لا ما هذه الحماقة! قال هكذا في خلده قبل أن يفيق من شره على صوتها الهامس ببلاهة: أنت مجنون؟! اجابها بجدية شابتها الحدة:.
أنا بردو اللي مجنون، ثم أنك أزاي تقولي كدة، قولتلك قبل كدة ماتنسيش مقامك واعرفي إنتِ بتتكلمي مع مين! هذه المرة لم تصمت بالرغم من الألم الذي احتل كيانها، بل صرخت فيه باهتياج:.
حرام عليك، حراااام عليك بجد انا مش فاهمة انا عملتلك اية، كل ما اتكلم اسمع منك إهانة، او تهزيق او مش بعيد حتى شتيمة، هو انا مرات ابوك، ولا انت دي طبيعتك وكلامك على طول دبش كدة بترميه في وش اي حد، حرام عليك محدش حاسس بيا، أنا مخنوقة اوي، تعبانة اوي وحاسه اني هموت من كتر الضغط، كل شوية ماتنسيش نفسك ماتنسيش نفسك، أنا مش فقيييييرة انا زيي زييك ويمكن أحسن منك.
بدءت تبكِ بحدة، نحيب كانت تحاول كتمه منذ قدومها، ولكن ذاك الحاجز إنهار فعليًا، قدرتها على الأحتمال أنعدمت! وصمت برهه واكملت ما قذفته به: صدق اللي سماك الصقر، فعلاً اسم على مسمى، وانا معرفش إية اللي وقعني في طريق الصقر ده! سمعت همسه بنبرة غير مفهومة لها: القدر! وفجأة اتسعت حدقتا عيناه وهو يرى..
نظرت له بعدم فهم لتلك النبرة التي سمعتها، هي لم تخطئ، ام ان اذنيها هيئت له نبرته الهادئة و، الحنونة عطفًا عليها من سلبيات تتوغلها لتخنقها! تنظر في عيناه علها تستطيع قراءة سطور عيناه.. ولكن كلما دققت النظر وفشلت، شعرت انها فاشلة، بفك رموز عيناه الغامضة! وكالعادة في هذه المواقف تظهر البلاهة فتقول: نعم! رفع حاجبه الأيسر ليهتف بتهكم صريح: إية اول مرة تسمعي عن القدر ولا أية؟
هزت رأسها نافية لتمسح دموعها قائلة: لا بس اول مرة اسمع إن الصقر مؤمن بالقدر سمعته يتابع: خيره وشره! إرتسم على فاهها ابتسامة ساخرة، لتستطرد مستنكرة: ماشاء الله اللهم بارك، وده من امتى! رفع إصبعه في وجهه ليحتد قائلاً: إلزمي حدودك ياريت، وماتتجاوزيش الكلام معايا مرة تانية عشان هيبقى ليا تصرف مش هيعجبك إطلاقًا! إلتمعت الدموع في عيناها دموع حُبست للمرة الثانية خلف غلاف القوة! لتسمع قوله القاسي:.
لا لا مبحبش دموع التماسيح دي، أنشفي كدة وبطلي دلع مش كل ما حد هيكلمك هتعمليله كدة! صرخت فيه بحدة وكأنها اكتسبتها من كثرة الاهانات: ملكش دعوة أنا مخدتش رأيك، أنت حيوان مابتحسش زي بقيت الرجالة وبقيت الناس عمومًا، ده مش ذنبي! ولم تشعر إلا بصفعة تسقط من يده على وجنتاها التي إلتهبت بحمرة ازدادت! لم تصدق عيناها!
جوابه كان صفعة، صفعة قاسية جعلت الحروف تُلجم بلجام قسوته المعهودة، والتي كان يحاول التحكم بها لتصبح شظايا قسوته ولكنها... داعبت تلك القسوة بقوة بكلماتها المزينة بإهانة لرجل شرقي - صعيدي - لا يقبل الإهانة.. فانفجرت تلك القسوة لتخرسها هي! وهو، عقله القاسي يؤيده وبشدة، ويقدم له المبررات! وقلبه العطوف يلومه على ضرب الأنثى التي كان يدافع عنها مسبقًا فانقلبت القاعدة التي أرساها، ليسقط هو ندمًا قبلها!
ولكنه أصبح في مرحلة، لا يجدي الندم فيها نفعًا! وتحكم عقله بتصرفاته ازداد حد التنفيذ فقال بحدة: مع إني عمري ما فكرت أمد ايدي على واحدة، بس إنتِ تستاهليه عشان تتحكمي في لسانك وماتغلطيش ف راجل تاني، لأ ومش اي راجل، ده راجل صعيدي ثم صرخ فيها زاعقًا: ساااامعة حاولت فتح الباب وهي تبكِ قائلة بهيستريا: لأاااا مش سامعة، مش سااامعة ومش هسمع، إفتح لي الباب ده عايزة انزل.
هز رأسه نافيًا ليمسكها من ذراعها يشدها نحوه قبل أن يردف بصوت جاد: إنتِ مجنونة، إحنا بقينا بليل، انزلك فين، إنتِ هتشتغلي زي ما كنتِ، خدامة! بدءت تبكِ بهيستريا، تبعده عنها وهي منهارة تمامًا! لم يكن يتخيل أنها ستنهار بهذا الشكل.. لم يكن يتخيل أن ذلك الضعف يتوارى خلف القوة والعناد المزيف! أن صفعة متهورة لأول مرة تعرفه معنى التهور في حياته ستقلب صفحات حياتها الجامدة هكذا!؟
وحلاً متهورًا طار في أفق عقله، ليمسكها يشدها نحوه فجأة.. ويلتهم شفتاها بنهم في قبلة دامية، قبلة هادئة وحنونة عصفت بكيانها لتهزه! هدفها ان يلهيها عن الانهيار وينتشلها من ضعفها! يتذوق شفتاها وهو مغمض عيناه يسرق تلك اللحظات التي ربما سيقتل عقله لومًا عليه فيما بعد! دفعته عنها وهي تمسح شفتاها التي كادت تدمي دمًا من إلتهامه، لتهمس مصدومة بعنف: أنت زيههم، زي كل الرجالة، مجرد واحد بيمشي ورا رغباته بس.
اخرررسي، ماسمعش صوتك لحد ما نوصل فاهمة ضغط على يده بقوة يحاول التحكم في غضبه حتى لا يضطر لفعل ما فعل مرة اخرى فيصبح الندم الضعف! وللحق، هو نفسه لا يفهم كيف فعلها! كيف فعلها وهو يمطرها من سماء قسوته دائمًا ولا يأبه بها!؟
جلس ياسين ليلاً في إحدى المطاعم الشهيرة، وامام النهر تحديدًا ليشكيه همه، يشكيه هم عشق كُبل به.. وفعليًا هو حاول تقبله، ولكن ماذا يفعل في قلب لا يُظهر سوى النفور لها! لتلك التي تُدعى خطيبته!؟ كان ينتظرها بعدما اخبرها بتلك المقابلة - الجبرية - لترتدي ملابسها وتسرع إليه.. وصلت فتقدمت منه بأناقتها المعتادة، وشعرها المنسدل على ظهرها يحيط بملامحها الهادئة بينه..
هو لا ينكر جمالها، ولكن، كم جمالها الهائل لا يكتم خانة العشق فيملأها! جلست أمامه على الكرسي الخشبي وامامهم منضدة صغيرة تفصلهما.. إبتسمت بفرح لتقول بعدها: لما كلمتني مصدقتش إنك فعلاً عاوزنا نتقابل وجتلك جري رغم اني زعلانة منك غامت عيناه ببرود حقيقي لم يخفى عنها ليهمس: معلش بقا اومأت متحمسة، غير مبالية، وكأن ما رأته لم يكن سوى شريط سينمائي لم يعجبها فمزقته، وألقت به في جوف عدم مبالاتها!
وقالت بابتسامة شقت وجهها: يلا بقا نفكر في الڤيلا اللي بقالنا كتير ماشوفناش العمال بيعملوا فيها إية وتتكدس المشكلة في كل مرة عن ذي قبل! بكل مرة يزداد توهج عيناها وهي تتحدث عن زواجهم! يصعب عليه أن يطفأه بنفوره الأبدي منها! وما يصعب الأمر اكثر تلك التضحية الضعيفة التي تسكن مقلتيها! افاق على همسها المتساءل: ياسين روحت فين اجاب بابتسامة صفراء: لا معاكِ اهو، المهم تشربي أية؟
بادلته الابتسامة - الحنونة - لترد بهدوء: أي حاجة، ولا أقولك، اطلب لي زي ما انت هتشرب اومأ ليشير للنادل وبجدية: اتنين برتقال لو سمحت نظر ل ماهيتاب مرة اخرى لتقول هي بجدية متحمسة: يلا نشوف الموديلز على الانترنت ونختار وكانت اجابته معتذرة متلعثمة بعض الشيئ: ماهي إحنا لازم نتكلم في حاجة سألته متلهفة بابتسامة: نتكلم في إية؟ يخبرها ويحطمها وينتهي الأمر!
أم ينتظر حتى يزداد توغل العشق فيها فيصبح يسري معها كنسمات الهواء الطلق!؟ والأختيار يصعب كلما فكر فيه يشعر به يتلفت منه فيخنقه التفكير أكثر! حسم الأمر وقال بجدية: ماهي انا مش عاوز أظلمك معايا سألته بتوجس وقد زالت ابتسامتها: قصدك إية يا ياسين، أنت مش ظالمني ابدًا وأخذ نفسًا عميقًا يستعد به لملاقاة دفاعتها القوية وسألها: إنتِ مبسوطة معايا يا ماهي؟ اومأت مؤكدة بلا تردد:.
طبعًا يا ياسين، أنا عمري ما كنت مبسوطة زي دلوقتِ فاجئها بجملته المغيمة بالضيق: بس أنا حاسس إني مخنوق وسؤالها المصدوم كان رد فعل طبيعي: يعني إية؟ رفع كتفيه وأجاب ببراءة صادقة: يعني انا كل مرة بقنع نفسي إني هأحبك مع الوقت، لكن كل ما فترة تمر بأحس إني شعوري مابيتغيرش هزت رأسها نافية وبررت: إنت ملحقتش تدي نفسك فرصة يا ياسين صدقني أستطرد متنهدًا بهدوء حازم:.
أديت، متهيألي 4 شهور فرصة كويس لنفسي اللي هي مش عاوزة تحب، أنا أسف يا ماهيتاب برقت عيناها من رفض غير متوقع ابدًا!، رفض أقسمت انه لن يأتي يومًا ربما لأنه مقيدًا بالمصالح المشتركة بين والديهم؟! وسألته هذه المرة بسذاجة: لا لا مستحيل، إنت متأكد من اللي إنت بتقوله ده يا ياسين اومأ مؤكدًا: أول مرة أكون متأكد كدة زمجرت بغضب عمى عيناها عما تقوله:.
اه قول كدة بقا، كل ده عشان الحيوانة المجنونة اللي كنت حاضنها في المستشفى صح؟ إتسعت حدقتا عيناه السوداء رأته! رأته بالفعل وتغاضت عن هذه! تغاضت عن جزءً منها، ألا وهو الغيرة الفطرية؟! ولكن اجابته كانت بغضب مماثل:.
ياريت تعرفي كلامك كويس، ثم أني مش شغال في السرايا الصفرا، أنا شغال في دار للأيتام، والبنت اللي إنتِ بتقولي عليها حيوانة ومجنونة دي ممكن تكون أحسن منك، إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قولبكم واعمالكم اما اني حضنتها ف ده شيئ مايخصكيش يا أنسة ماهيتاب نهض وهو يخرج الأموال ليضعها على المنضدة ويسير هاتفًا في حنق: عكننتِ مزاجي الله يسامحك.
غادر لتكز هي على أسنانها بغيظ، وخرج همسها متوعدًا بشراسة: مش هاسيبها لك يا ياسين صدقني!
جلست رقية في غرفتها، تلك الغرفة التي شهدت حالاتها المتغيرة... تحديدًا على فراشها الكبير، امام الكمدين الذي يحمل سرًا مغلف بقدرته الجبارة على تدمير حياتها مع مجدي أخرجت الدواء من الدرج، لتنظر له.. وعيناها تنطق بما على طرف لسانها أخد منع الحمل زي ما انا ولا لا مبقتش عارفة محتارة أوي لا بس مجدي اتغير فعلاً، وبطل المخدرات خالص! وافرض رجعلها في أي وقت؟! تأففت وهي تكاد تضعه في الدرج مرة اخرى بغيظ..
وانتهت تلك الأمواج المتلاطمة داخلها باصطدام في صخرة الواقع ألا وهي مجدي لا يستحق ما تفعله! وفجأة فُتح الباب ودلفت ابنة خالتها أمنية دون أن تطرقه.. فشهقت رقية وهي تقول: في إية يا امنية خضتيني غامت عيناها بخبث تحفظه رقية عنها، وسألتها مباشرةً: لية إنتِ كنتِ بتعملي حاجة ولا إية؟ هزت رقية رأسها نافية بارتباك وتلعثمت وهي تجيب: لأ طبعًا، ه هكون بأعمل إية يعني!؟ اومأت أمنية، وإلتزمت الجدية وهي تخبرها:.
طيب، على العموم حماتك جات تحت، عايزة تشوفك سألتها عاقدة حاجبيها: إنتِ جاية معاها ولا إية؟ هزت رأسها نافيةً بسرعة: أكيد لأ، أنا كنت جاية لك عادي، قابلتها تحت شكلها هي كمان لسة جاية وقال إية جاية تسلم عليكِ زمت رقية شفتاها ساخرة: كتر خيرها بصراحة نهضت بهدوء لتغلق الدرج متجهه للخارج، واغلقت الباب خلفها ثم نزلت امام أمنية التي ابتسمت وهمست بخبث: هبلة، مفكراني مشوفتش الدواء اللي كانت بتخبيه!
ابتسمت رقية ابتسامة صفراء أرهقتها لأخراجها في وجه تلك السيدة الخبيثة المكروهه، والتي لا تدعو ملامحها الي الابتسام امامها ابدًا! فيما هتفت الاخرى بفرح لا تتدعيه: اهلاً اهلاً بمرات أبني الغالية جلست بجوارها وهي تبادلها الابتسامة متمتمة: نورتي يا طنط ربتت على كتفها وقالت بتلقائية: بنورك يا حبيبتي ثم سألتها بهدوء يموج به الخبث: عاملة إية يا روكا الحمدلله تمام اهوو.
قالتها وهي تنظر امامها تعبث بأظافرها، كزت الاخرى على أسنانها بغيظ، وقد قررت بث بعضًا منه لها بكلامها فقالت بحزن مصطنع: معلش يا حبيبتي أنا عارفة أنها صعبة نظرت لها رقية، وضيقت ما بين حاجبيها وهي تسألها: هي إية دي اللي صعبة يا طنط؟ وضعت يدها على فاهها بصدمة إرتسمت على محياها بمهارة في الاصطناع وأردفت: لا مش معقول متعرفيش إن صباحية أبني مجدي النهاردة وعندما تجد الغيظ هو فقط امامك.. والغضب يتهافت من عيناك.
فاتخذ الانفجار طريقًا لك! وبالفعل صرخت فيها باهتياج: إنتِ مجنونة ياست إنتِ نهضت الاخر تصيح فيها بحدة: لا ماسمحلكيش، كل ده عشان قولتلك صباحية إبني ضغطت على يدها بقوة وتابعت مزمجرة: صباحية إية ونيلة اية يا ولية إنتِ سارت متجهة للأمام بنفور وقالت: لا ده إنتِ بقيتي بيئة اووي يا رقية، انا ماشية ولما تعرفي تتكلمي نبقى نشوف أوقفتها رقية بقولها الجامد: إستني هنا سألتها بسخرية: ها في إهانة تاني ولا إية؟
عقدت ساعديها وهي تقول بصوت خالٍ من أي موجات عطوفة: قوليله يبعتلي ورقة طلاقي!
وصل سليم امام إحدى المحلات التجارية للملابس، نظرة خاطفة نحو المحل لتسأله بجدية غير معهودة منها: إية ده إنت جايبني هنا لية؟ نظر لها بطرف عينيه واجابته كانت باردة ملغمة بالتهكم الصريح: هما بيعملوا إية في محلات الهدوم يا أنسة؟ تأففت قبل أن تتابع مستنكرة: بيشتروا هدوم بس إنت مين قالك إني عاوزة أشتري هدوم يعني!؟ أشار لعقله وقال: ده، ويلا مش عاوز رغي كتير هه.
ترجل من السيارة بهدوءه ورزانته المعتادة ليتجه نحوها، نظر لها مضيقًا عيناه وسألها: ما تنزلي مستنية إية حضرتك؟ وكأنها عاد لها قناعها المعتاد، ذو الكبرياء اللانهائي كجبلاً لا يعد ولا يحصى من الرمال! فنظرت له نظرة ذات مغزى وأردفت: مش لما تفتح لي الباب؟ كز على أسنانه بغيظ حقيقي وكاد يفتك بها وهو يفتح الباب ليقول: أنا مش الشوفير بتاع أبوكِ عاد يا أنسة نظرت له من أعلاه إلى أمحص قدميه وهتفت:.
ملكش دعوة ب بابا لو سمحت بالرغم من عدم مبالاته، من عدم حبه لها اطلاقًا! إلا انها لن تلوث تلك العلاقة الأبوية من الطرفين! دلفوا إلى احدى المتجر، تحديدًا إلى قسم السيدات، في حين لم تتوقف هي عن قول: قولت مش عاوزة هدوم مش عاوزة زفت وقسوة تلقائية تمسكت بخيوط رده اللاذع ليصرخ فيها: معنديش خدم يلبسوا هلاهيل، إنتِ هتشتغلي في بيت الصقر يا أنسة بدءت تشعر أن كلامها ماهو سوى مغناطيس للإهانة!
كلما حدثته بشيئ تلقت إهانة تلقائية تتلبس كلماته السامة! وكالعادة سارت وشفتاها التي ترتعش كانت خير دليل على محاولتها لكتم دموعها... كانت صامتة تمامًا في حين كان هو يختار لها الملابس.. ملابس مهندمة تليق بتلك الطبقة العالية، وكأن هو من سيرتدي تلك الملابس وليست هي! استقر على فستانًا طويلاً خاص بالمحجبات، ضيق من الأعلى وواسع الى حدًا ما من الاسفل، تربطه فراشة عند الخصر..
نظر لها وهو يعطيها الفستان وقال بخشونة: خشي قيسي ده لم تتكلف سوى بنظرة باردة فقط، فكرر جملته الملحة: بقولك خشي قيسي ده يلا عقدت ذراعيها، واخرجت حروفها مزخرفة بالحدة الملاصقة: لأ، ماقبلش إن حد يصرف عليا ألقى به عليها وقال بجمود: ده هيبقى من مرتبك يا انسة مش مجاملة لجمال عيونك تأففت وهي تستدير لترتدي ذاك الفستان بغل..
فيما كانت فتاة، شعرها الأصفر يغطي جزء كبيرا من ملامحها الخبيثة البيضاء، اقتربت من سليم بخطوات مغزاها إظهار جسدها المرسوم! وضيقت عيناها الزرقاء وهي تسأله بنعومة: تؤمر بحاجة؟ هز رأسه نافيًا ولم يخفى عليه خيوط أنثى خبيثة ترغب الايقاع به فيها، فابتسم بخبث متبادل ورد: ميرسي لذوقك، لما احتاجك، اكيد هقولك وبالداخل إنتهت سيلا، فنظرت لنفسها بالمرآة، وكان مظهرها كالأميرات في حفل زفافهم!
ابتسمت وخرجت بهدوء، لتصدم بما أزال الابتسامة من على ثغرها في ثوانٍ معدودة!