كان آخر العنقود في أسرته، وأخذ نصيبه كاملا من مزايا اللقب وعيوبه، وربما بسبب ذلك الوضع التاريخي، كان الوحيد في الأسرة الذي سمحت له الظروف بأن يستكمل دراسته الجامعية، بينما لم تتجاوز أخته الكبرى مدرسة القرية، فكان من الطبيعي أن تتزوج من ابن العم الفقير، وتعيش حياتها معه في القرية يزرعان قطعة الأرض التي ورثتها عن الأب.
ولم يتجاوز أخوه الأكبر شهادة "البكالوريا" التي أهلته لكي يعمل مدرسا في مدرسة القرية في أول النهار، وأن يشرف على نصيبه ونصيب بقية الأخوة "الذين تفاوتت حظوظهم في التعليم والعمل" من الأرض التي تقاسموها جميعا بالميراث في بقية اليوم.
كان الشكل الخارجي لعلاقة أخيه الأكبر بأخته الكبرى علاقة صراع مكشوف أو مستتر على المصالح والحقوق تحكمه قيم القرية التي يعرفانها جيدا، تتسم دائما "بالنقار" وقد تصل إلى حد الشجار، وبمرور الوقت كانت محاولاته لإقناع أخيه الأكبر بأنه يجب أن يتنازل من جانبه عما تعتقد أختهما الكبرى أنه من حقوقها لأن ظروفه وإمكاناته أفضل من ظروفها، كانت هذه المحاولات تبوء بالفشل، وتنتهي في الغالب بتلك النظرة التي يحدج بها الأخ الأكبر أخاه الأصغر الساذج الذي لا يريد أن يفهم الدنيا، وانتهى إلى أن الطريقة الوحيدة الباقية لإرضاء أختهما أن يقدم لها ما يقدر عليه من المساعدة، في صمت، وهكذا كان الشكل الخارجي لعلاقة ذلك المثلث، إن آخر العنقود هو الأخ الطيب الحنون المجامل وأفضل ما تركه الأب "من ميراث" على حد تعبير الأخت!
متى بدأ يدرك ما في ذلك الشكل الخارجي للعلاقات من زيف وخداع؟! متى بدأ يكتشف أن علاقته بأخته الكبيرة لم تعد علاقة على الإطلاق، وأن الكلمات التي يتبادلانها في كل زيارة لا تخرج عن السؤال عن الصحة والأولاد - الذين قد يمضي وقت الزيارة دون أن يراهم - وبذل الجهد لتذكر ورواية بعض الحكايات القديمة، وفي الواقع فإن العلاقة بينهما اختصرت في هذا المبلغ من المال الذي يقدمه لها كلما زار القرية، وكأن كليهما أصبح يعتقد أن في هذا وحده الكفاية! وحين كانت الظروف تحتم أن يبقى أياما في القرية، فقد كان يرى الوجه الآخر لعلاقة أخيه الأكبر بأخته الكبرى! صحيح أن حدة الشجار بينهما لم تخفت أبدا، ولكن تأتي أوقات لم يكن يراها، تأتي بنفس اليسر الذي تهب به عواصف الشجار، فتعلو فجأة ضحكاتهما الصاخبة والصافية، وأحيانا يجدهما وقد انتحيا جانبا وراحا يتهامسان بلغة يعرف كلاهما شفرتها، عن أمور يعرف كلاهما خلفياتها، ويشتركان معا في إطلاق الشتائم والسخائم نحو أشخاص لا يعرفهم، مع أنهم من أهل القرية وأحيانا من الأقارب، وحين كانت تظهر على وجهه علائم الدهشة، كان يرى في عيني أخيه الأكبر تلك النظرة التي تقول للأخ الأصغر - وكان وقتها قد تجاوز الخمسين من عمره - ستبقى طول عمرك لا تفهم الدنيا!