سوزي في رواية "توفيق الحكيم" "عصفور من الشرق"
وملامح الصراع الحضاري والقيمي
مقدمة
تدور أحداث رواية "عصفور من الشرق" قبل مدة وجيزة من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وترسم أوضاع فرنسا بدقة في تلك الحقبة من الزمن؛ من حيث البطالة المتفشية، والفقر المدقع، والعمال الذين باتوا عبيد القرن العشرين، وتسخرهم المصانع للعمل طيلة اليوم من أجل لقمة لا تسد جوعًا.
وتسلط الرواية الأضوء على انهيار العملة الفرنسية، وتدني سعر الفرنك، وهجمة السائح الأميركي، وشماتته، وتلذذه في إذلال الفرنسيين الذين باتوا بلا مأوى، في ظل غياب الأسرة... ونظامها المتين؛ وكأني بعصر العبيد قد عاد من جديد.
الرواية وشخصياتها
وهذه الرواية يمكن عدّها من أدب الرحلات؛ نظرًا إلى أنها تسلط الضوء على قصة شاب مصري اسمه محسن الذي سافر إلى باريس لدراسة الدكتوراة في القانون...
ويمكن قراءتها أيضًا بوصفها سيرة ذاتية لتوفيق الحكيم نفسه؛ حيث يروي فيها قصة حبه لفاتنة باريسية تبهر الألباب... لكن الأكثر أهمية من ذلك، أن الرواية تعد بمنزلة محاكمة لأوروبا نفسها، ونقد للحضارة الأوربية من الأعماق.
وفي الرواية شخصيات عديدة تدور حولها الأحداث، ومن بينها شخصية سوزي التي أحبها محسن... وتحدث توفيق الحكيم عن الحب الشرقي في الحضارة الغربية؛ ذلك الحب المقترن بالخيال والأشعار والموسيقي والروايات؛ فيما الحب الغربي آني، يؤمن باللحظة، ولا يعرف الخلود؛ يبدأ مع ضوء القمر، وينتهي مع خيوط الفجر.
شخصية سوزي
...آية ذلك، أن سوزي هي حسناء باريسية، هام بها محسن عشقًا،...وكانت عيناها بحيرتا فيروز، وأنفها مشرق بهي، غيّر مقاييس الجمال...، ولذا، أسرت سوزي لب محسن، وتربعت على عرش قلبه ملكة قبل أن يكلمها. غير أن صديقه الفرنسي أندريه، يسخر من حبه الأفلاطوني...
فإغراق محسن في الخيال غير مفهوم لرجل باريسي، يعتقد أن ثمن أية امرأة، لا يتعدى ثمن زجاجة عطر. أما بالنسبة إلى الرجل الشرقي محسن؛ فهو مستعد ليقدم لها روحه وحياته؛ فهي أرفع قيمة من أن يقدم لها عطرَا أو وردًا؛ لأنها في نظره، ليست مجرد عاملة في شباك التذاكر... كما يراها غيره، بل هي ملكة تشرف على الناس بعينين من فيروز... وهم يمرون بين يديها من دون أن يعرف أحد سر قلبها.
الأسرة الفرنسية
والواقع أن عمل سوزي في شباك التذاكر، فرضته الحالة الاقتصادية المزرية في فرنسا؛ كالبطالة والفقر... والسعي من أجل لقمة العيش، وسد العوز... وهذا دليل على أن الأسرة الفرنسية في ذلك الحين كان يحكمها طابع المادية الغربية التي فرضت على الكادحين اللهاث وراء لقمة العيش، وحرمتهم من الاستقرار من أجل إدارة المصانع، وجلب الرخاء... ومن هنا تعكس الأسرة التمزق الوجداني والنفسي للغرب بصورة عامة.
الحب بين الشرق والغرب
وقد تواصل الصراع بين السلوك الشرقي والغربي في نفس محسن، ولا سيما حين قنع من حبه بالجلوس في مقهى أمام المسرح الذي تعمل فيه حبيبته؛ حيث يلتقي بها في خياله، ويعانق حسنها بأحلامه، رافضًا الأسلوبَ المقززَ للعشاق في باريسَ الذين يتبادلونَ القبلاتِ في الشوارع بين الناس. ولما عرف مكان سكنها، انتقل ليعيش في الفندق نفسه الذي تقطن فيه، وفي الغرفة التي تعلوها مباشرة.
وفي أول فرصة، تبادل معها كلمات سريعة وخجولة، ثم انطلق بعيدًا. وبعد أن دفعت سوزي عن محسن عشرة فرنكات، صار كل همه أن يجد لها هدية مناسبة، يعبر فيها عن حبه... حيث احتدم في نفسه الصراع: أيهديها ما يلتصق بالواقع من أمور حسية ومتعة جسدية كما هو متبع في الغرب، أم يهديها ما يخاطب الخيال، ويناجي الروح والعاطفة والإنسانية كما جرت العادة في الشرق. لكنه ارتد إلى جذوره، واختار ببغاءً، وسهر عليه طول الليل يعلمه كلمة "أحبك".
وهكذا وقع محسن وسوزي في علاقة حب وغرام، وبدأت المناوشات الغرامية مع الحسناء الباريسة، وضربت مواعيد العشاء، وقدمت باقات من زهور النرجس،...ووصف الروائي الطريق الطويل ذا الأشجار الوارفة... ودخول الحبيبة عند المساء إلى غرفة المحب كزنبقة،... وخصلات شعرها الذهبي التي تنتثر على وجهه، كما تنتثر أشعة القمر على الكائنات.... وتذوق محسن كؤوس الغرام وارتشفها حتى الثمالة.
حياة الحب بين محسن وسوزي
وهكذا تأرجحت حياة محسن بين النعيم والجحيم. أما النعيم فهو المنبعث من الحب المتبادل والأمسيات الحالمة، وأما الجحيم فهو غيرته الجنونية حين يراها تبتسم لأحد معارفها، أو يتذكر علاقتها بعشيقها السابق الذي عرف منها بعض أخباره.
عاش محسن أسبوعين في الجنة. ثم جاءت النهاية مفاجئة وغادرة، حين مر عشيقها من أمامهما في المطعم، فتناولت مجلة مصورة لتوحي لعشيقها بأنها غير مهتمة بمحسن. وكلما حاول الاستفسار عما حدث... لزمت الصمت، لكنه رفض الإذلال، وانصرف يائسًا، وقبع في غرفته جريح القلب مكسور الجناح. ثم حاول أن يحادثها؛ لكنها صدته، بل توسل إليها أن تصغي إليه؛ لكن بلا جدوى. ولما أيقن أنها أفقدته حبه، وأهدرت كرامته، حزم حقائبه، وانتقل إلى فندق آخر.
الصراع الحضاري القيمي
لقد استطاع توفيق الحكيم أن يغزل ببراعة تامة مأساة الشرق بمأساته الشخصية، فسوزي الحسناء الباريسة تمثل الغرب بماديته وأنانيته وألوانه، حينما غدرت بمحسن الشاب الشرقي المبهور بالجمال الأوروبي الملون، من دون أن يفطن إلى الفخ الذي أوقعته به تلك الألوان المزيفة.
لقد منحت أوروبا الناس صفيحًا وزجاجًا ومعدنًا وبعض الراحة في أمور معاشهم، ولكنها سلبتهم شاعرية الشرق وصفاء روحه، أعطتهم سرعة الانتقال واقتناص اللذات، وحرمتهم ثروة سمو روح الشرق، وعزة نفسه التي تنمو عند اتصالها بالطبيعة.
ومع غدر سوزي، وانتهاء علاقة الحب؛ إلا أن محسن لم يعلن عن عداوته أو كرهه لها؛ وهذا يميز جانب الوفاء والإخلاص عند الشرقيين.... فالغرب يعني السطحية والشرق يعني العمق. والغرب فرض على سوزي حياة مزيفة في عالم الدنيا، فجاء تكالبها على شهواتها وملذاتها... فمحسن في هذه الرواية هو روحية الشرق وإخلاصه وسموه، بينما سوزي حبيبة محسن هي خير مثال على المادية الغربية والأنانية البالغة التي جعلتها تسعى وراء منفعتها الخاصة، وتلهث وراء لذاتها. فقد تجاوبت مع محسن لتملأ الفراغ نتيجة خصامها مع عشيقها، ولترضي نزواتها وجسدها ومعدتها. وبهذا مثلت سوزي أنانية الحضارة الغربية، وتحجر قلبها، وعدم رعايتها إلا المصلحة الذاتية.
خاتمة
وباختصار، فإن قصة حب سوزي ومحسن، تؤشر إلى قضية الصراع بين الغرب والشرق، الواقع والخيال، العقل والقلب، الحداثة والأصالة، العلم والإيمان، الماديات والروحيات. إنها الصراع بين الغرب وما يحويه من فراغ في الجانب الروحي، وتمكن هائل في الجانب الصناعي، وبين الشرق وما يحويه من جانب روحي كبير مع افتقار للجانب المادي والصناعي. فسوزي التي أحبها محسن الشرقي منذ البداية، لم يكن أوفر حظًا معها من حظ الشرق مع الغرب.
المراجع
1)توفيق الحكيم، عصفور من الشرق
2)أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر من أعقاب ثورة 1919 إلى قيام الحرب الكبرى الثانية
3)كتب وشخصيات، سيد قطب