يغرس الآباء والأمهات مفهوم تعليم الطفل قيمة النقود منذ الصغر عبر تعزيز سلوك الادخار والاعتدال بالإنفاق، فيعزّز ذلك الكثير من الاتجاهات السلوكية والتربوية التي تنمو في الطفل وتشكّله تدريجياً، كالشعور بالمسؤولية والاستقلالية المادية والاجتماعية، لما في ذلك من أثر كبير على توسعة مدارك الطفل لتحقيق أهدافه وتشجيعه على إتباع منهج واضح في بالإدارة المالية بمرحلة مبكرة.
نون بوست” التقى مع مجموعة من الأمهات اللواتي علّمن أبناءهن التمييز بين الضروريات أو ما يحتاجونه والرفاهيات أو ما يريدونه، من خلال طرق مختلفة تمكن أطفالهن من إدارة مصروفاتهم والادخار بشكل متزن دون الوقوع في وحل التبذير أو البخل.
أسلوب الحصالة
آلاء اللقطة، فلسطينية مقيمة في إسطنبول، أم لطفلين، تبلغ من العمر 28 عامًا، تبيّن أن تعليم أولى خطوات الادخار لابنها يوسف هي امتلاكه للحصالة، الغرض المحبب، لديه فقد كان يستوعب بساطة فكرتها منذ سنواته الأولى ويصفق لنفسه عند وضع قطعة معدنية إلى أن أدرك قيمتها في عمر الخمس سنوات.
تقول ألاء: “يوسف أصبح يعي قيمة العملات النقدية، ونبعت الفكرة من قراري إعطاءه المصروف اليومي، ولوجود عدد من المناسبات والأعياد وبعض الحوافز المشجعة كثرت الهدايا النقدية، فاشتريت له الحصالة لاستخدامها كوسيلة لحفظ المال حتى يحين وقت صرفه عند طلبه شراء غرض ما، وقد أدرك تمامًا أنها سوف تمتلئ ويشتري ما يريده”.
الشعور بالمسؤولية
تلفت آلاء إلى أن ليس كل شيء يريده يوسف تحضره له بسهوله، تضيف: “كوني أمًا يجب أن أشعر طفلي أن هناك أولويات للبيت، والهدايا ليست شبه يومية أو أسبوعية ولا تأتي على طبق من ذهب، ولكن في حال أحب شيئًا معينًا بعد فترة نتقاسم المبلغ معاً ونتشارك من أجل شرائه حتى أشعره بالمسؤولية”، مشيرةً إلى أن طفلها يوسف ينفق جزءًا من مصروفه فيما يضع جزءًا آخر في الحصالة ويتبرع بالباقي، تهدف هذه التقسيمة لتنمية الحس الإنساني وواجب العطاء والشعور بالآخرين.
الثواب وليس العقاب
وعن الأفكار المحفّزة للطفل في أوقات معينة تقول آلاء: “في السابق كنت أعطيه لأنه أعد واجابته المدرسية، لكنه في الواقع الواجبات المدرسة هي التزام يومي عادي وعليه من غير الصائب أن يعتاد على هذا النوع من المكافآت، بل يجب أن تكون المكافأة الأكبر لإنجازات ونجاحات صعبة مثل حل مسألة رياضية معقدة، أو تفوقه على مجموعته المدرسية، أو قراءة قصة أو درس جديد من دون أخطاء لغوية”، موضحة أن الزيادة بالمصروف لا تكون كبيرة بل رمزية واقتناءها في الحصالة ليست لمجرد التوفير أو البخل، بل في إطار تشجيعه على وضع هدف معين سيبهجه ويتعلم منه المداومة والصبر.
وتنوّه ألاء أنها لا تربط موضوع عقاب طفلها بقطع مصروفه اليومي الذي من حق أي طفل أن يأخذه، لما يترتب عليه من سلوكيات سلبيه تغرس في أذهان الأطفال، قائلة: “العقاب بقطع المصروف يعتبر مؤذيًا، بل هناك طرق أخرى مثل المنع من اللعب في الخارج أو عدم الخروج لشراء الحلوى مع أصحابه، مع إبقاء ماله بيده”.
بديل عن المصروف
سماح الشنطي، فلسطينية مقيمة في مدينة أزمير التركية، أم لطفلين في جيل المدرسة، أقنعت طفلها سعيد البالغ من العمر 10 سنوات بأخذ علبة طعامه المتنوعة والمتعارف عليها في المدارس التركية، وأن يضع بالمقابل كل مصروفه اليومي (2 ليرة) بالحصالة، تقول: “أرى بعض الأطفال يحبون المال من أجل التبذير وليس من أجل شراء شيء يحتاجونه، فهم كثيرًا ما يشترون ما لا يأكلونه. في الصباح الباكر أقوم بعمل السندويشات الدجاج والخضار وقطعة فاكهه معينة وقطعة حلوى، وأقدمها بطريقة ملفتة له على هيئة أشكال ليتحفز لأكلها بدلًا من أكل المدرسة، طفلي أحب الفكرة، وأنا كأم أطمئن على صحة أولادي بالأكل البيتي المفيد والنظيف في نفس الوقت، فلا داعي للمصروف، فهو يحب أن يبقيه في حصالته لجلب شيء معين لاحقًا”.
ومن خلال تجربة سماح مع أولادها، تقول: “إنهم يجمعون يومياً المبلغ الذي يتبقى من مصروفهم سواء كان ليرة أو ليرتين، ولاحقًا يتجمع مبلغ جيد، فنشتري به هدية أو لعبة جديدة في أوقات محدّدة، لما في ذلك من تشجيع عملي للطفل على الادخار وبأسلوب جميل”.
وكنوع من المشاركة وتبادل الثقافات بين الطلاب، تضيف سماح “كل أسبوع أقوم بعمل كميات كبيرة من الحلوى أو الطعام حتى تتشارك ابنتي مع صديقاتها وتعلمهم بعض الأصناف والمأكولات المشهورة في فلسطين”.
اصطحاب الطفل إلى السوق
أوضحت سماح أنها تحرص على اصطحاب ابنها سعيد إلى التسوّق حتى يرى كيفية انتقاء الأغراض والمشتريات بعناية والحرص على الأنواع الجيدة ومشاهدة والده وهو يدفع المال مقابل المشتريات ومحاولة تعريف الطفل أن هناك فرقًا بين المتطلبات الضرورية وغير الضرورية للبيت مثل الأكل ودفع الفواتير ومقتنيات المدرسة وبعض الأيام الطارئة.
القناعة والثقة
وتتفق الأم السابقة آلاء اللقطة مع الأم سماح حول اقتطاع جزء من مصروف أولادها إلى مساعدة الغير رغبة منهم وليس بالإجبار، قائلة: “يجب على كل أم أن تعي تماماً ما هو مصروف الجيب الذي يُعطى للطفل من الأسرة، وتعرف بأي زيادة عنه تصل إلى الطفل من الأقارب أو غير الأقارب، يعني أن تتم المناقشة بين الأب والأم حول طريقة إنفاقها، والحذر عند معاقبة الطفل لأخذه المال من شخص غريب، حتى لا يفقد الثقة بأهله”.
وتقول سماح: “دائمًا ما أقول لأولادي أننا هنا مغتربين لا نريد التبذير على أشياء تافهة بل جئنا من أجل هدف ما، تركنا كل شيء في فلسطين من أجل أن يكمل أباكم دراسة الدكتوراة ثم يعود للوطن حتى يصبح مميزاً عن غيره ويمتلك وظيفة أفضل لتأمين متطلباتكم الجامعية في المستقبل، وتصبحون قادرون العطاء وبناء مستقبلكم بأيديكم”.
الأهل قدوة لأبنائهم
أما بيسان، أم لثلاث أطفال، مقيمة في مدينة أزمير التركية، تؤكد على قيمة الادخار في شتى مراحل حياة الإنسان، ولذلك تحرص هي وزوجها على غرس هذا السلوك في نفوس أبنائهم عن طريق الحصالة الصديقة منذ الصغر، وإتباع أسلوب التحفيز وليس عن طريق التوجيه المباشر، كالقيام بأعمال صعبة والتسوّق والتحفيز من خلال المسابقات بين الأصدقاء.
تضيف بيسان: “عندما يوفّر أبنائي جزءًا من المصروف لشراء أشياء خاصة بهم مثل الألعاب أو الرحلات المدرسية، ومن يستطيع توفير أكبر قدر من المال سأعطيه الجزء المتبقي للهدف المراد شراؤه”. وتنوّه بيسان بأن الأبناء يقلدون أهاليهم في كل شيء فاذا كان الأهل مبذرين، سيأخذون هذه الخصلة منهم، فيجب أن يمثلوا القدوة الحسنة أمامهم.
وترى بيسان أن ذلك ليس به شيء من البخل، بل العكس من ذلك تماماً، لأنه يجعل أبناءها ينفقون هذه الأموال بحكمة، وبعد أن عرفوا قيمة المال “بعرق الجبين” الذي يأتي، وكذلك ينعكس عليهم بشكل إيجابي ويكسبهم التحلي بالصبر.
مشاركة الطفل في التخطيط المالي
ومن وجهة نظر تربوية أكدت الأخصائية الاجتماعية زينب الجمل من جمعية عائشة لحماية المرأة والطفل، أهمية التربية المالية وترشيد الإنفاق لدى الطفل، وتقول: “عن طريق حوار الأهل البناء ومشاركة الطفل في إدارة المنزل بما يناسب المرحلة العمرية لكل طفل، وعدم التمييز بين الأخوة، هي خطوات مهمة أثناء التخطيط المالي، هكذا يشعر الطفل بالمسؤولية والرغبة في ادخار المال”.
وعن أبرز الطرق والآليات المشجّعة لادخار وتوفير الطفل من مصروفة، تقول: “يمكن أن يدخر الطفل من المصروف اليومي أو الأسبوعي 2% في حصالته الخاصة وحتى لا يشعر بالحرمان، ويجب يكون لهدف مثل شراء شيء يرغبه، ويشعر بقيمته والفخر عندما يحصل على حاجة من جهده”.
حول التفرقة بين الاحتياجات الأساسية والمطالب الترفيهية، تقول الجمل: “على الأم والأب وضع خطة مالية محكمة ومشاركة أطفالهم أحوالهم سواء عن طريق الحوار أو فيديو أو قصة قصيرة تؤكد على الحاجات الاساسية من المأكل ودفع الأقساط والفواتير”
ولفتت الجمل إلى عدة فوائد تعود على الأم عند تعليم أطفالها ثقافة الادخار منذ الصغر أهمها اختيار التخصص المناسب في المستقبل، وتبلور شخصية الطفل، ووضع الحلول الفورية له، وشعوره بالأمان الاقتصادي والثقة بالنفس والقدرة على التفكير وإيجاد الحلول والبدائل بشكل ايجابي.
وحول التفرقة بين الاحتياجات الأساسية والمطالب الترفيهية، تقول الجمل: “على الأم والأب وضع خطة مالية محكمة ومشاركة أطفالهم أحوالهم سواء عن طريق الحوار أو فيديو أو قصة قصيرة تؤكد على الحاجات الاساسية من المأكل ودفع الأقساط والفواتير، ثم الرغبات هي حاجات غير ضرورية تأتي بالدرجة الثانية مثل شراء الهدايا والألعاب والرحلات واعياد الميلاد وغيرها”.
أساليب مختلفة
وأشارت الجمل أنه في حال فشل الاتفاق لجلب حاجة الطفل من توفير ماله، وإجبارها على جلب رغبته غير الضرورية، تستخدم الأم أسلوبًا آخر مع ابنها، قائلة: “قد يغضب الطفل ويشعر الأهل بالحرمان حين يقارن الطفل نفسه بأصدقائه، على الأم أن تتبع طريقة أخرى مستخدمة المعلومات
الإرشادية، ومقنعة وعدم النظر إلى الغير لتثبيت الطباع الجديدة لدى أطفالها، فمثلاً تقسم على الورقة الراتب وتوزعه على شكل أرقام من حاجات أساسية مبلغ للأكل وخلافة ومصاريف ايجار، التلفون، القسط المدرسي، سداد القرض، صندوق الادخار للمستقبل، صندوق الطوارئ أو الأزمات، وعلى
الأسرة تعتذر أحيانًا للطفل عن شراء بعض أغراضه حتى تتوفر النقود التي يجنيها أو يجني جزءاً منها أو تجلبها له وقت الإنجازات الحقيقة مثل النجاح في المدرسة أو تخطى أزمة معينة”.
وفي هذا الإطار، تنصح الجمل الأهل بإعطاء المال لأطفالهم بشكل منتظم وبقيمة متعارف عليها سواء كان مصروفاً أسبوعياً أو يومياً أو خلال الأعياد، وعليهم احترام التزاماتهم ووعودهم، مبينةً أن مصروف الجيب يجب أن يكون معقولاً وليس كثيراً وعدم معاقبة الطفل أو مكافأته بمصروفه.
وتؤكد الجمل دور الأهل في ترسيخ مفاهيم سليمة وصحيحة في نفوس أطفالهم، وأن تكون تلك الأمنيات والطموحات تستند إلى قناعات راسخة، فالأطفال أذكياء بالفطرة وتفكيرهم دائماً في المستقبل ليكونوا قادرين على امتلاك طرق وأساليب توفير دخل مالي كبير لهم، وهذا من شأنه أن يعزّز التفكير
في الوظائف التي يمكن أن يسعوا إليها لتوفير ما يلزمهم، وأن يشبهوا أنفسهم مثل الشخصيات الناجحة المعروفة في محيطتهم.