يعتقد البعض أن رمسيس الثانيكان أعظم حاكم مصري لكن هذا ليس صحيحًا ؛ لقد أنفق رمسيس الثاني ثروة مصر على مشاريع بناء ضخمة في حين قام تحتمس الثالث بإنشاء ثروة مصر . تحتمس الثالث الفارس والقائد
كان تحتمس الثالث قد قضى سنوات طويلة من حكم الملكة حتشبسوت وهو يتدرب في الجيش , وهذا قد أبعده عن سياسة الحكم والبلاط , ولكنه ومع ذلك , قد أعد نفسه كفرعون مستقبلي , لأن القدرة الكبيرة في الحروب كانت تعتبر ميزة مرغوبة وإيجابية للفرعون في العالم القديم .
وقد كان من عادةً ملوك الفراعنة المصريين أن يقودوا جيوشهم إلى أراضٍ أجنبية , ليُظهروا شجاعتهم في الميادين , وبعد عدة معارك منتصرة , يعود الملك إلى الوطن منتصراً , يسوق معه الغنائم والثروات , لكن خلال عهد حتشبسوت , لم تكن هناك حروب , ولم يكن جنود مصر يمارسون إلا القليل من الحروب , فكانت النتيجة أن استقلت البلدان المجاورة لمصر تدريجياً وخرجت عن سيطرة الحكم المصري , لذا فكان هناك حاجه لفرعون جديد شديد العزم ليلملم ما تبعثر في عهد حتشبسوت .
وتحتمس الثالث امتلك الصفات النموذجية للحاكم عظيم , فكان جنرال لامع لم يخسر معركة قط، وبرع أيضا كمسؤول ورجل دولة. وكان فارس ماهر برع في ركوب الخيل ، رامي سهام بارع ، ورياضي ، كما كان لديه ذوق رفيع في الفنون .
ولم يُضيع الملك تحتمس أي وقت في سبيل تعظيم سيرته , أو الإنغماس في ملذات الحكم - باستثناء حقده غير المعتاد على ذكرى حتشبسوت ، يُعتقد أنه كان رجلًا مخلصًا ومنصفًا.
وبمجرد أن خرج من عباءة الملكة حتشبسوت , قام بتحويل مصر من مملكة محدودة إلى أمة كبيرة منتصرة , وأسس سمعته كخبير استراتيجي عسكري لامع , فأطلق عليه المؤرخون فيما بعد اسم"نابليون مصر القديمة " .
وفي السنة الثانية من حكمه لمصر , وجد نفسه في مواجهة تحالف أمراء قادشومجيدو , الذين حشدوا جيشاً كبيراً لمواجهة جيش مصر , وما هو أكثر من ذلك , ما فعله سكان بلاد ما بين النهرين وحلفاءهم في سوريا عندما أعلنوا أنهم أصبحوا غير موالين لمصر .
وغير مبال بكل هذا العداء والعتاد , انطلق تحتمس الثالث على رأس جيشه المكون من 20 ألف جندي ,يشق رمال صحراء سيناء , مواصلاً طريقه نحو غزة - التي ظلت موالية لمصر - , وقد تم توثيق أحداث تلك الحملة بشكل جيد لأن وزير تحتمس الثالث " تانييني Tjaneni " احتفظ بسجل عن تلك الأحداث , تم نسخه فيما بعد ونُقش على جدران معبد الكرنك .
معركة مجيدو .. واستراتيجيات بارعة
كشفت هذه الحملة الأولى عن عبقرية تحتمس العسكرية في ذلك الوقت , فقد فهم قيمة الموارد البشرية والمادية , وخطوط الإمداد , وضرورة الحركة السريعة , والهجوم المفاجيء , وقد كان على الأرجح أول شخص في التاريخ يستفيد بالكامل من القوة البحرية لدعم حملاته .
وكانت مجيدو هي هدف تحتمس الأول لانها كانت نقطة استراتيجية رئيسية , وكان لابد من اتخاذها بأي ثمن , وعندما وصل إلى أرونا ، عقد تحتمس مجلسًا مع جميع جنرالاته, ليستشيرهم عن أي طريق يمكن أن يسلكه الجيش إلى مجيدو , فكانت هناك ثلاثة طرق : طريقان طويلان وسهلان ومستويان حول التلال ، وهاذان الطريقان ما توقع العدو أن يسلكهما تحتمس ، والطريق الثالث ضيق وصعب ويمتد عبر التلال.
نصحه جنرالاته بأن يسلك الطريق السهل , ولكن تحتمس فضّل المغامرة في الطريق الضيق من أجل مفاجأة العدو .
قاد تحتمس رجاله مشياً على الأقدام عبر التلال وكما كُتب في السجلات " عبر الجيش الطريق الضيق , حصان خلف الحصان ورجل خلف رجل ، يظهر جلالته الطريق بخطى قدماه" , وحمل الجنود المصريون عتادهم الحربي بالإضافة إلى عرباتهم الحربية , فكانوا يفكون العربات الحربية ليسهل حملها وتسللوا عبر الممر الضيق في مجموعات صغيرة وكان ذلك مجازفة كبيرة على الجيش .
استغرق الأمر نحو اثنتي عشرة ساعة حتى تصل الطليعة إلى الوادي على الجانب الآخر ، وسبع ساعات أخرى قبل ظهور القوات الأخيرة , وفي تلك الأثناء انتظر تحتمس نفسه على رأس طليعة الجيش حتى وصل أخر جندي من الجيش بسلام إلى الجانب الآخر .
كانت قوات العدو قد تمركزت عند نهاية طريقين فسيحين معتقدة أن الجيش المصري سيأتي من أحدهما أو من كليهما ,ولكن في فجر اليوم التالي أمر الملك تحتمس الثالث الجيش بإعادة تركيب العربات الحربية والاستعداد للهجوم المفاجئ.
وكان هناك أكثر من ثلاثين من ملوك الحلفاء ، ولكل منهم جيشه ؛ قوة هائلة- ومع ذلك , هجمت قوات الجيش المصري وكان على رأسهم تحتمس الثالث في المقدمة على عربته الذهية التي تزينها الدروع البراقة , فتم الهجوم على شكل نصف دائرة, وكانت المفاجأة للعدو أن يبادرهم المصريين بهذا الهجوم الكاسح فاضطربوا وفقدوا توازنهم حتى أصبحت جيوشهم في حالة من الفوضى وعدم النظام وبدأ قادة الجيوش والسرايا في الهروب تاركين وراءهم عرباتهم الكبيرة ومعسكرهم الملئ بالغنائم ليدخلوا مدينة مجيدو المحصنة.
وبسبب انشغال أفراد الجيش المصري بجمع الغنائم تمكن الآسيويون من الهروب إلى المدينة وتحصنوا فيها, فاضطر تحتمس الثالث لحصار مجدو سبعة شهور طويلة حتى أستسلم الأمراء وأرسلوا أبنائهم حاملين الأسلحة لتسليمها إلى الملك تحتمس الثالث.
تحتمس الثالث نابليون مصر القديمة
غالباً ما يتم مقارنة تحتمس الثالث بنابليون ، ولكن على عكس نابليون ، تحتمس الثالث لم يخسر معركة أبدًا, فقد قام بـ 16 حملة في فلسطين وسوريا والنوبة , وكان تعامله مع سكان البلاد التي قام بغزوها إنسانيًا دائمًا. فأسس أمبراطورية كبيرة , كما شهدت المنطقة ككل درجة غير مسبوقة من الرخاء.
قام تحتمس الثالث باستعراض قوته العسكرية مرارًا وتكرارًا: في النوبة والموانئ الفينيقية والمركز التجاري القيم في قادش وفي مملكة ميتاني في سوريا وتركيا الحديثة , وخلال 17 حملة ، حصل على المزيد من الأراضي أكثر من أي فرعون آخر, وفي النهاية ، وسيطر على أكبر إمبراطورية مصرية على الإطلاق.
وجلبت إنجازاته العسكرية ثروة رائعة لمصر ولأسرته الثامنة عشر التي حكمت مصر في عصر ذهبي لم تتجاوزه سلالة فرعونية قط
فقد حظى تحتمس الثالث بالكثير من غنائم الحرب والتي أغنت خزائن مصر إلى حد كبير وجعلته أغنى رجل في العالم في ذلك الوقت , ولكنها لم تكن غنائم مادية فحسب , بل حصل ايضاً على رأس مال بشري من الأراضي التي فتحها , فقد نقل أبناء حكّام البلاد التي غازاها إلى مصر , وحرص على تعليمهم في البلاط الملكي , فتأثر هؤلاء بالطرق والعادات المصرية , وعادوا إلى أوطانهم بعد ذلك هم ونسلهم متعاطفين مع الحكم المصري .
وعلى عكس أحد خلفاءه - رمسيس الثاني - الذي بالغ المؤرخون في وصف انجازاته العسكرية , فإن تحتمس الثالث قد حقق انتصارات عظيمة تم تسجيلها على جدران العديد من المعالم الأثرية التي قام ببناءها , فقد تم تدوين سجلاته على جدران معبد آمون الكبير في الكرنك .
كان تأثيره على الثقافة المصرية عميقًا, فقد كان بطلاً قومياً ، وكان يحظى باحترام طويل حتى بعد وفاته , في الواقع ، كان دائماً ما يتم ذكره كقائد عظيم حتى السنوات الأخيرة من التاريخ المصري القديم.
كان تحتمس الثالث أيضًا رجلًا مثقفًا أبدى فضولًا حول الأراضي التي غزاها ؛ فالعديد من أعمال البناء في الكرنك مغطاة بنقوش من النباتات والزهور التي شاهدها في حملاته , فعلى جدران قاعة المهرجانات في معبد آمون بالكرنك تم تصوير الحيوانات والنباتات - بما في ذلك 275 نباتاً - التي جمعها تحتمس الثالث خلال حملاته على البلاد الأسيوية .
بنى تحتمس الثالث معبداً لإله الشمس في هيليووليس ( مدينة الشمس ) - مصر الجديدة حالياً - كما أنشأ عددًا من المسلات في مصر ، أحدها ، يطلق عليه خطأ اسم مسلة كليوباترا ، موجودة الآن على جسر لندن . ومسلتان في سنترال بارك في نيويورك , ومسلة آخرى بالقرب من لاتران ، في روما ، وآخرى تقف في اسطنبول. وبهذه الطريقة ، حافظ تحتمس الثالث على وجوده في بعض من أقوى الدول في الألفي سنة الماضية.